تتوالى المؤشّرات منذ عدة أشهر حول تراجُع الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية عن أجندتها السابقة، بإعطاء الأولوية من جديد لقضايا الأمن والتجارة. وبالتالي، دعم الأنظمة العربية وتجنّب إحراجها، بقطع النظر عن ملفّ حقوق الإنسان والديمقراطية الذي تضعه المعارضات والحركات الديمقراطية في مقدمة أولوياتها، وما حدث في أعقاب زيارة ساركوزي إلى تونس، ليس استثناءً، بقدر ما جاء ليؤكِّد هذا التوجّه. عندما أعلن الرئيس جورج بوش عن عزم إدارته مُمارسة الضّغط على الأنظمة العربية لتفسَح المجال أمام تحقيق إصلاحات ديمقراطية، وذلك ضِمن ما سُمي بمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي عدّلته فيما بعد مجموعة الدول الثمانية، انقسمت النُّخب العربية إلى اتّجاهين، أغلبية رفضت هذا التوجّه الجديد الذي سلكته السياسة الخارجية الأمريكية تُجاه المنطقة بسبب تداعِيات أحداث 11 سبتمبر، واعتبرت هذه الأغلبية أن ذلك هو مُحاولة لفرض وِصاية إمبريالية مُباشرة على المِنطقة، مؤكِّدة على أن الديمقراطية يجِب أن تكون تعبيرا داخليا مستقلا. وفي المقابل، دعت أقلية من النّخب العربية إلى محاولة الاستفادة من هذه الضغوط الخارجية على الأنظمة العربية، عسى أن يُساعد ذلك على التخفيف من حجم القمع والتسلط، وبالتالي، فسح المجال أمام القِوى الديمقراطية حتى تنتعِش وتتمكّن من إعادة ترتيب أوضاعها واحتلال مواقِع فاعلة في المعادلات السياسية المحلية. تدهور في 10 دول عربية في (كييف) العاصمة الأوكرانية، عقدت "الحركة العالمية من أجل الديمقراطية" في شهر أبريل الماضي مؤتمرها الخامس، بحضور حوالي 500 من النشطاء السياسيين ومنظمات المجتمع المدني، قدِموا من أكثر من 100 دولة، مُعظمهم من دول الجنوب، التي تواجه صعوبات الانتقال الديمقراطي أو أنها لا تزال خاضعة لنظام الحزب الواحد أو الأنظمة المُهيمنة بالكامل على الدولة والمجتمع. وإذ تعدّدت الاهتِمامات والمسائل ضِمن برنامج واسع ومتنوّع، إلا أن مسألتين دار حولهما جدل حيوي داخل بعض الورشات أو في الكواليس، أولهما يتعلّق بتعدّد المخاطر والعوائق التي تُواجهها المجتمعات المدنية في كثير من دُول العالم، حتى بدا للبعض بأنه كلّما زاد الحديث عن اعتبار منظمات المجتمع المدني شريكا في التّنمية وصناعة القرار، إلا وجاءت ممارسات الحكومات مناقضة لذلك. "الدفاع عن المجتمع المدني: التقرير الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا / رؤى قادة المجتمع المدني"، هو عنوان الوثيقة التي أصدرتها "الحركة العالمية من أجل الديمقراطية" بمناسبة انعقاد هذا المؤتمر، وذلك بالتعاون مع "المركز الدولي لقوانين الجمعيات"، وقد سبقت عملية إصدار التقرير، القِيام بسلسلة من المُشاورات تمّت في عديد من المناطق الإقليمية في العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، حيث نظّم لقاء بالدار البيضاء شارك فيه عدد من النشطاء والخبراء العرب. وتوقف التقرير عند دراسة عشر دُول عربية هي "السعودية واليمن وتونس والعراق والمغرب والبحرين ومصر وإيران وفلسطين والأردن"، واعتبر التقرير أن القاسِم المُشترك بين هذه الدول هو "الوضع السيئ للحقوق السياسية والمدنية" فيها. ولاحظ التقرير، أن أوضاع المنظمات غير الحكومية في هذه الدول متفاوتة، لكن جميعها تُواجه عوائق قانونية، وأخرى تتعلّق بالتمويل، كما توضع في طريقها صعوبات للحيلُولة دون تواصلها مع المنظمات الدولية، وتتّهم من قِبل الحكومات بكونها تنفِّذ أجندة خارجية وأنها تهدِّد الأمن العام. كما استعرض أصحاب التقرير، العوائق العملية التي تُواجهها هذه المنظمات، مثل المراقبة الأمنية ومنع نشاطاتها وعدم نشر بياناتها وأدبياتها بوسائل الإعلام المحلية. حركية وتنازلات أما المسألة الثانية، التي لفتت اهتمام عديد المراقبين والخُبراء الذين حضروا فعاليات هذا المؤتمر، فهي تخصّ المأزق السياسي الرّاهن بمنطقة الشرق الأوسط، التي خصّصت لها ورشة مستقلة. وإذ تفاوتت أهمِية المُداخلات التي قدّمت، إلا أن العديد منها قام بتوصيف الحالة السياسية الرّاهنة بعد مرور أربع سنوات، عن الجدل الذي دار في المنطقة حول الإصلاح السياسي. وفي هذه الجلسة، وجِّه نقدٌ شديدٌ للسياسة الأمريكية في المنطقة، التي تميَّزت بالتَّناقض وازدواجية الخِطاب والممارسة، لكن قِيل أيضا بأن المنطقة شهِدت خلال هذه المرحلة حِراكا سياسيا غير مسبوق، كما اضطرّت عديد الحكومات العربية إلى تقديم تنازلات لم تكُن واردة في أجندتها، لولا الضُّغوط التي مورست عليها من قِبل الخارج. هذه الحركية والتّنازلات وفّرت مناخا جديدا وسمحتا بفرصة لاختبار القِوى المتحرّكة على الساحات المحلية، وكانت النتيجة أن في مقدِّمة القِوى التي استفادت من الديناميكية التي ولَّدتها حالة التَّجاذب بين الداخل والخارج، الحركات والأحزاب الإسلامية التي طفَت بسرعة فوق السطح وهدّدت أحيانا موازين القوى، بل تمكَّنت في الحالة الفلسطينية من أن تُزيح القِيادة التقليدية ممثلة في حركة فتح، وتغامر بتشكيل حكومة بشكل منفرد. وبالرغم من الانتِعاشة النِّسبية التي شهدتها أوساط الحركات السياسية العلمانية، إلا أن تأثيرها بقِي محدودا، ولم تتمكَّن من تجاوُز عوائِقها الذاتية، كما كشف هذا الاختبار الظرفي والجُزئي عن حجم الهشاشة التي تُعاني منها أنظِمة عربية عديدة، وعدم قدرتها على ضمان استمراريتها في أجواء تعتمِد على إطلاق الحريات وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية. ولعل المثال المصري قد شكَّل المِثال الأكثر دلالة على ذلك، حيث كان الرئيس مبارك صريحا جدّا عندما واجه الأمريكيين – من قبل إجراء الانتخابات البرلمانية التي شهدتها مصر – بالقول بأن البديل الذي ستقود إليه سياستهم، هو وصول الإسلاميين إلى الحُكم في سبع دُول عربية، وطبعا من ضمنها مصر. التخلي بصمت عن "دمقرطة العالم العربي" هذه النتائج الأولية التي تمثَّلت في صُعود حماس، إلى جانب القُدرات التعبوية التي أبرزها الإخوان خلال الانتخابات التشريعية في مصر، وظهور "حزب العدالة والتنمية" في المغرب كقوة سياسية رئيسية، إلى جانب المشهد العراقي واللُّبناني والأردني والبحريني والكويتي، كل هذه العيِّنات كانت كافية لتجعل الرئيس بوش ومعظم المُحيطين به يصغَوْن جيِّدا للحلفاء الإسرائيليين، الذين كانوا منذ البداية رافضين بوضوح ممارسة أي ضغط على الأنظمة العربية لدفعها نحو الإصلاح السياسي. كان هؤلاء الحلفاء، وفي مقدمتهم (شمعون) بيريز، يعتقدون بأن الديمقراطية في العالم العربي لن تخدِم سوى "قوى التطرف"، وهو ما عبَّر عنه الرئيس الفرنسي ساركوزي بصيغة أخرى، عندما حذّر من "وصول طالِبان إلى رأس السلطة في دول المغرب العربي".. ولم يتوقَّف الحديث عن ضرورة مُراجعة الموقف الأمريكي من مسألة دعم الديمقراطية في المنطقة العربية عند حدود الدوائر الرسمية، بل انتقل النِّقاش إلى مراكز البحث الإستراتيجي. فالتقرير الأخير الذي أصدره "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" – وهو مركز معروف بتحمُّسه للديمقراطية، كشَف موقفا مخالفا، حين اعتبر أن "مصالح أمريكا في الشرق الأوسط تتعارض مع القِيم الأمريكية على المستوى المنظور، وذلك لأن مصالح أمريكا الأساسية في المنطقة متضاربة"، وفي مقدمة هذه المصالح، الحفاظ على أمن إسرائيل وتأمين تدفُّق نفط الشرق الأوسط، وهما هدفان يتعارضان، حسب أصحاب التقرير مع "مساعي أمريكا لنشر الديمقراطية في المنطقة"، وبالتالي، فالمفترض أن تتعاون أمريكا مع "قوى الاستقرار في المنطقة، وهي الدول الكبيرة الحليفة لها، وعلى رأسها مصر والسعودية"، إلى جانب التعاون مع "أحزاب عِلمانية ليبرالية في الشرق الأوسط"، حيث لا تميل أمريكا نحو "التعامل مع الإسلاميين، وهم القوى الرئيسية الموجودة بين الجماهير العربية". وبناء عليه، ينتهي التقرير إلى التَّأكيد على أنه يجب على الولاياتالمتحدة "أن تنظر إلى مشروعِها لنشر الديمقراطية كمشروع يطبَّق على المدى البعيد". في ضوء تلك النتائج، بدأت إدارة الرئيس بوش، ومن قَبلها بقية الحكومات الغربية، خاصة في ظل صعود اليمين في معظم الدول الأوروبية، تتخلَّى بِصمْت عن أجندة "دمقرطة العالم العربي"، وهو ما التقطته حكومات المِنطقة بشكل سريع، لتبدأ عملية استعادة ضبط الأمور من جديد، وذلك باسترجاع ما تمّ التنازل عنه اضطرارا، وفي هذا السياق، يُمكن فهم ما يجري على أكثر من صعيد، وفي أكثر من بلد. "ديمقراطية نادي المعتدلين" من جهة أخرى، يعتقِد البعض بأنه من التسرّع القول بأن الإدارة الأمريكية الحالية أو خاصة القادمة (في حالة فوز "أوباما")، ستتخلى عن المطالبة باحترام الحريات الديمقراطية في العالم العربي، لكن حول الإشكال المطروح عن "أي ديمقراطية" يجري الحديث. فالأصوات التي ارتفعت مؤخَّرا، تتحدّث عن ديمقراطية مشروطة ومضمونة النتائج أو حسب تعبير وزيرة الخارجية الإسرائيلية "ديمقراطية نادي المعتدلين"، أي كلّ ما من شأنه أن يهدّد هذا النادي المزعوم، يجب التصدّي له والقضاء عليه. في مقابل ذلك، يجد الديمقراطيون العرب أنفسهم في مأزق هو أقرب إلى التراجيديا، هم غير قادرين، وفق أوضاعهم الرّاهنة، على تغيير المعادلات لصالحهم، والأنظمة لن تسمَح لهم بتجاوُز ما تعتبِره الخطوط الحمراء الضّامنة للاستمرارية، كما أنهم لم يتَّفقوا على استراتيجيا موحَّدة لتوظيف العامِل الخارجي لصالح نِضالهم من أجل الإصلاح السياسي، خلافا للأنظمة التي استفادت من كلّ التَّناقضات ووفَّرت كل الضَّمانات لحماية استقرارها وتمتُّعها بجميع أشكال الدّعم الدولي. وفي انتظار أن تهبّ ريح جديدة "مواتية"، يتولَّى الواقع الموضوعي، توفير كلّ الشروط المساعدة على إخراج "التَّنين" من مِصباح علاء الدين. المصدر: موقع سويس إنفو2008