إنَّ أحداً من الراسخين في إيمانهم ب "الإعلام الحر", أو ب "حرية الإعلام", في عالمنا العربي, الكبير مساحةً وفي حجمه الديمغرافي, والصغير في ما عدا ذلك, لا يجادِل في أنَّ ذاك الإعلام, وهذه الحرية, إنَّما يشبهان, في حقيقتهما الموضوعية المحجوبة عن الأبصار والبصائر بضباب سياسي وفكري كثيف, ظِلاًّ ليس لجسمه من وجود, وإنْ اختلف معك, واختلفت معه, في التفسير والتعليل, فالبشر, وإنْ اتَّفقوا على تعيين الظاهرة ووصفها, لا يملكون من وحدة وتماثُل وتَوافٌق المصالح ما يسمح لهم بأن يتَّفقوا, أيضاً, على تفسيرها وتعليلها; ذلك لأنَّ الموضوعية في التفكير والنظر والبحث تُنْبَذ وتُحارَب إذا ما تأكَّد أنَّ السير في طريقها يمكن أن يفضي إلى ما لا تَسْتَنْسِبه مصالحهم من أفكار. إنَّنا, ومع حرصنا التام على اجتناب الوقوع في فخِّ "جَدَل البيضة والدجاجة", نقول, في معرض التفسير والتعليل, إنَّ "الإعلام الحر" لا تقوم له قائمة حيث يَنْدُر وجود "الإعلاميين الأحرار", ف "الإعلاميُّ الحر" لا يُوْلَد وِلادةً, وإنَّما يُصْنع صناعةً; وليس من صانع حقيقي له سوى "المجتمع الحر". على أنَّ غياب "المجتمع الحر", أو ضآلة وجوده الواقعي, لا يعني, ويجب ألاَّ يعني, أنَّ "الإعلامي الحر" يجب ألاَّ يَظْهَر أبداً ولو على هيئة "محاوَلة"; ولقد أسَّس فولتير لمبدأ وجوده إذ قال وكأنَّه يتحدَّث عن نفسه وعن تجربته: "قد يُرْغمني الأقوياء (في عالم المال والسياسة) على أن أُحْجِم عن قول كل ما أنا مقتنعٌ ومؤمِن به; ولكن ليس من قوَّة يُمْكنها إرغامي على قول ما أنا غير مقتنع وغير مؤمِن به"! إنَّ الكذب بعينه, في عالمنا العربي, حيث يُحارَب كل شيء.. حتى "الإصلاح السياسي.." الذي يشبه إصلاح عطَّارٍ لِمَا أفسده الدهر, بدعوى محاربة "الإرهاب" وما يتَّصِل به, أن يُزْعَم أنَّ لدينا فئة واسعة من الكُتَّاب الذين في مقدورهم قول كل ما هُمْ مقتنعون ومؤمنون به, فإنَّ كل ما لدينا من "مِداد لكلمات حُرَّة" لا يكفي لكتابة, فَنَشْرِ, بضع جُمَلٍ, ف "قائمة المُحرَّمات" هي الأطْوَل عالمياً (وربَّما تاريخياً أيضاً). أمَّا "المُحْجِمون (عن ترهيب أو ترغيب) عن قول كل ما هُمْ مقتنعون ومؤمنون به فَهُمْ الغالبية العظمى من الكُتَّاب ومن أهل الفكر والقلم, أي كلهم تقريباً, فما لا يُقال, ولا يُعَبَّر عنه قولاً أو كتابةً, إنَّما هو الجزء الأعظم مِمَّا يَعْرِفه الكاتِب, ويؤمِن به ويقتنع, وكأنَّ "الباطنية الفكرية والسياسية" هي "الحزب" الأكبر والأقدم في بلادنا.. والأكثر تمثيلاً ل "الأكثرية (الشعبية) الصامتة", التي لو نَطَقَت لَنَطَقَت كُفْراً. ومِنْ هؤلاء "المُحْجِمين", وعلى سعة حجمهم, لا نرى إلاَّ مَنْ رَبَأ فولتير بنفسه عن أن يكون منهم, وحارَب دائماً من أجل أن يظلَّ بمنأى عَمَّا يُسْقِطه في حُفْرَتهم حيث الفكر الأصيل أرخص ما نملك, وحيث يُصْنَع القسم الأعظم من صُنَّاع الرأي العام في عالمنا العربي; وليس من "آلة" تُسْتَخْدَم في صناعتهم سوى "آلة الترهيب (على أنواعه) والترغيب (الذي يبدأ بثلاثين من الفضة)". أمَّا "القَلَم", الذي به عَلَّم الله الإنسان ما لَمْ يَعْلَم, فلا شيء يشبهه لجهة ما يَخْرُج منه من فِكْرٍ ورأي سوى "أحمر الشِّفاه", يُزيِّن به "الكاتِب" كل بشاعة.