صديق مثقّف عاد مؤخراً من الدنمارك، حيث كان يقوم بزيارة خاصة، وهو يحمل انطباعاً أشبه باليقين: ثمة “قوى خفية” تعمل بدأب ونشاط على نشر فيروس “صدام الحضارات” بين الإسلام وأوروبا. من هي هذه القوى؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. قبل ذلك، فلنكمل رحلتنا مع انطباعات الصديق المستندة إلى ما يجري في الدنمارك، تلك الدولة الإسكندنافية التي كانت تفاخر قبل جيل واحد بأنها من أكثر دول العالم عدالة وتسامحاً. لا ينفي صاحبنا المثقف وجود عوامل داخلية عدة وراء تصاعد ما يسمى “الإسلاموفوبيا” (الخوف والعداء للإسلام) في الدنمارك. بينها: هزيمة مشروع الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي استند منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى فكرة “الرأسمالية ذات الوجه الإنساني”، والذي شملت إنسانياته نسبياً المهاجرين المسلمين. هذا المشروع انتهى في الثمانينات وحلّ مكانه رفع القيود عن السلوكيات الرأسمالية وتفكيك “دولة الرفاه”. وهذا سحب نفسه سريعاً على أوضاع الجالية الإسلامية. تغيّر الطبيعة الديموغرافية للمهاجرين المسلمين، جنباً إلى جنب مع تبدّل طبيعة الرأسمالية الدنماركية. فالدفق الأول من المهاجرين في أواخر الستينات والسبعينات تشكّل من العمال الآتين من تركيا وباكستان والمغرب ويوغسلافيا تلبية لطلب سوق العمل المحلي. لكن، مع انتهاء “العصر الذهبي” للازدهار الرأسمالي في أوائل الثمانينات ودخول المرأة الدنماركية بكثافة إلى سوق العمل، انتفت الحاجة إلى العمالة المهاجرة. وبالتالي، حين حدثت موجات الهجرة اللاحقة من العالم الإسلامي إلى البلاد بدافع اللجوء السياسي، بات هؤلاء عبئاً لا رصيداً احتياطياً، وانطلقت حينها الحملات التي تحذّر من “أسلمة” البلاد. هذا رغم أن الجالية الإسلامية لا يتجاوز عددها 270 ألفاً من أصل نحو 6 ملايين دنماركي. ثمة، إذن، معطيات محلية تحتضن ظاهرة “الإسلاموفوبيا” في الدنمارك. لكن هذه وحدها لا تكفي لتفسير تحوّل هذه الدولة الصغيرة إلى “قوة كبرى” في حروب الحضارات، من خلال خوض المعارك الإعلامية الاستفزازية مع 1،5 مليار مسلم عبر الرسوم الكاريكاتيرية المتكررة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، والاشتراك بنشاط في حربي العراق وأفغانستان، والتنسيق الكامل مع واشنطن في ما يتعّلق ببرامج مكافحة الإرهاب. التفسير الأكثر إقناعاً يكمن في التفاصيل. فصحيفة “جيلاندز بوستن” التي نشرت الكاريكاتيرات المسيئة ال12 كانت موالية للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم انتقلت إلى معاداة الاشتراكية، وبعدها باتت صوت “إسرائيل” وأمريكا في البلاد، ومن أشد دعاة الحروب ضد العالم الإسلامي. إضافة إلى أن رئيس تحريرها فليمنغ روز يقيم علاقة وثيقة للغاية مع دانييل بايبس، مدير منتدى الشرق الأوسط الناطق باسم الصهيونيين والمحافظين الجدد الأمريكيين. صدفة؟ صديقنا المثقف العائد من الدنمارك لا يعتقد أبداً أن هذه كلها صدف. لا بل هو واثق بأن الحركة الصهيونية في كل من أمريكا وبريطانيا و”إسرائيل” تعمل على تحويل الدنمارك إلى نموذج يجب أن يحتذى في كل أوروبا حيال “مشروع” صدام الحضارات مع الإسلام. إلى أي درجة هو واثق؟ إلى حد القول إنه من الآن فصاعداً سيفكر مرتين وثلاثاً قبل أن يزور الدنمارك أو حتى أية دولة أوروبية أخرى! عن صحيفة الخليج الاماراتية 7/7/2008