الاحتجاجات تمتد إلى جامعات جديدة حول العالم    المحمدية.. القبض على شخص محكوم ب 14 سنة سجنا    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    "سلوكه مستفز": الافريقي يطالب بتغيير هذا الحكم في مباراته ضد الصفاقسي    حالة الطقس هذه الليلة    سوسة: ايقاف مروج مخدرات وحجز 500 قرصا مخدرا    مجلس وزاري مضيق: رئيس الحكومة يؤكد على مزيد تشجيع الإستثمار في كل المجالات    بتهمة التمييز... أربع صحافيات يقاضين "بي بي سي"    أسعار المعادن في العالم: الذهب والفضة الملاذات الآمنة والنحاس مقياس للصحة الاقتصادية    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    فاو: ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء... اللحوم والزيوت النباتية والحبوب    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    ألكاراز ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة بسبب الإصابة    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها    تونس تحي اليوم الوطني للدبلوماسية    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    ما قصة هروب افارقة من حافلة متجهة إلى ولايتي جندوبة والكاف ؟    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها    مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    الرابطة الأولى: النادي البنزرتي يستضيف الأولمبي الباجي في حوار فض الشراكة في الصدارة    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    كرة اليد: بن صالح لن يكون مع المنتخب والبوغانمي لن يعود    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    صندوق النقد الدولي يدعو سلطات هذه البلاد الى تسريع الاصلاحات المالية    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    جندوبة: 6 سنوات سجنا وغرامة مالية لممثّل قانوني لجمعية تنموية    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه.    الحمامات: اختتام فعاليّات الصالون المتوسّطي للتغذية الحيوانيّة وتربية الماشية    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    188 قتيلا في فيضانات جراء الأمطار بكينيا..#خبر_عاجل    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    أبل.. الأذواق والذكاء الاصطناعي يهددان العملاق الأميركي    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    عاجل/ اكتشاف أول بؤرة للحشرة القرمزية بهذه الولاية..    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    صفاقس : غياب برنامج تلفزي وحيد من الجهة فهل دخلت وحدة الانتاج التلفزي مرحلة الموت السريري؟    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملف خاص بالبحث العلمي في تونس :إعداد بدر السلام الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 02 - 01 - 2008

ملف خاص بالبحث العلمي في تونس إعداد بدر السلام الطرابلسي
عندما تعدد القراءات..ويبطل العمل بالأسباب ..وتتخلى الدولة على علمائها وباحثيها..
يعبر البحث العلمي في الدول المتقدمة عن مرتكزات نموها وتطورها أما في الدول النامية فيتقهقر إلى مراتب دنيا في سلم الأوليات الوطنية.
وبالنسبة لتونس فتلك قصة أخرى . إذ لا يكفي تخلف هذا القطاع الحيوي عن مثيله في الدول المتقدمة سواء على مستوى كمية البحوث المنتجة ونوعيتها ، بل كذلك يشهد هذا الاستثمار فوارق شاسعة حتى مع مثيله في الدول التي تعتبر في طور النمو والإحصائيات الرسمية في حد ذاتها تؤكد ما نحن بصدد البحث فيه ، إذ نجد أرقاما تبعث على الحيرة و القلق الشديدين ، من ذلك مثلا عدد براءات الاختراع المسلمة من مكتب البراءات الأمريكي لكل مليون ساكن : فالاتحاد الأوروبي سجل 50.9 براءة اختراع والدول الأكثر نجاعة 123 والأقل نجاعة 1.0 أما تونس فقط حطمت الرقم القياسي في تحصيل براءات الاختراع وذلك بتحقيقها 0 براءة اختراع لسنة 2003...!!( جدول القيادة الأوروبي للتجديد، وزارة تكنولوجيا الاتصال، مركز الدراسات والبرمجة والتخطيط ). هذه الأرقام المفزعة وأرقام أخرى سنأتي على ذكرها في سياقاتها تدليلا على ما نحن بصدد البرهنة عليه تبرز بما لا يدع مجالا للشك عمق الأزمة التي يعيشها قطاع البحث العلمي في بلادنا وفشل خيارات ومخططات السلطة في هذا المجال والتي ما فتأت تدلل عليها وتثمن نتائجها في مختلف الفضاءات السياسية والإعلامية والثقافية في الداخل والخارج ، رغم الإعتمادات المالية التي تخصصها لهذا القطاع النوعي والتي تأتي في بعض الأحيان في خانة المعقول، إلا أنها في الأغلب لا تلبي حاجيات الموارد البشرية المستثمرة لتطوير هذا القطاع والمتمثلة في الأجور والمنح المالية للعاملين في هذا المجال والمخابر والتجهيزات المعرفية والتكنولوجية المتطورة الكفيلة بتحقيق نتائج نوعية يعود نفعها على الاقتصاد والمجتمع والثقافة والبلاد بشكل عام.
كل ذلك يجعلنا نطرح عدة تساؤلات حول العوامل القائمة وراء هزال البحث العلمي والتكنولوجي في تونس ومحدودية آلياته وفشل نتائجه في تحقيق الإضافة النوعية الموكولة لها .
ويجعلنا أيضا نطرح بعض الفرضيات التي من الممكن أن تفسر هذه المحدودية وهذا الفشل ، ويمكن أن نبوبها في عنصرين كبيرين :
- قلة التمويل العمومي للبحث العلمي وتواضع البنية التحتية المعرفية والتكنولوجية المخصصة له .
- ضيق هامش الحريات الأكاديمية الذي من شأنه أن يعرقل ازدهار وتقدم هذا القطاع.
- قلة التمويل العمومي للبحث العلمي وتواضع البنية التحتية المعرفية والتكنولوجية المخصصة له .
ليس هنالك من مندوحة للتذكير بما لمسألة تمويل ودعم البحث العلمي بما يستحقه ويكفيه من أهمية قصوى في تطور هذا القطاع وفي إنتاجه للثمار المرجوة منه، وفي هذا السياق تطرح إشكالية حصة البحث العلمي من التمويل العمومي ؟
*ضعف فادح لميزانية البحث العلمي
على خلاف حصة البحث العلمي التي تخصصها الدول المتقدمة عند إعدادها لميزانياتها والتي تصل إلى عشرات و مائات المليارات من الدولارات و اليوروات في بعض دول أوروبا الغربية فإن هذه الحصة تتقلص في تونس بشكل كبير ، فحصة البحث العلمي والتعليم العالي من ميزانية الدولة لسنة 2007 لا تتجاوز 792703 مليون دينار( مركز الدراسات والتخطيط والبرمجة، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة). إن الضعف الفادح في تمويل هذا القطاع المفصلي في تطور أي بلد في طريق النمو له انعكاسات خطيرة على تطور العلوم والتكنولوجيا في بلادنا وتحقيق الاكتفاء الذاتي من الاكتشافات العلمية والمعرفية.
هنالك نقطة أخرى في مسألة تمويل مجال البحث العلمي ذات طابع إجرائي وتتمظهر في استعمال بعض المسئولين الإداريين المسيرين إلى عدة أشكال من التمييز والرقابة والمضايقة والولاء السياسي على حساب كفاءة ومردودية الأساتذة والطلبة الباحثين (الناشطين السياسيين والنقابيين منهم على وجه الخصوص) والذي من شأنه أن يؤثر على قيمة البحوث والاكتشافات وبراءات الاختراع وجودتها . ويعود هذا السلوك التمييزي تجاه هذه الفئة من الباحثين إلى تنظيمهم أو مشاركتهم في تحركات احتجاجية ذات صفة مطلبية وبإشراف من نقابة التعليم العالي .وقد أثارت الوزارة حول هذه الأخيرة لغطا كثير من أجل تشتيتها وبالتالي تهميش مطالبها والتي من بينها بالخصوص زيادة الإنفاق لقطاع التعليم العالي والبحث العلمي و توخي المرونة في التصرف في ميزانية البحث والتسيير الذاتي وفي هذا السياق يقول الأستاذ الباحث عبد السلام الككلي في مقال له بجريدة "الموقف" عدد 429 بتاريخ 30 نوفمبر 2007 "إن صبر الجامعيين قد نفذ إذ أن الأزمة قد طالت (...)8 سنوات طويلة ومضنية دون حوار ومكاسب رغم عديد النضالات والتضحيات الجماعية والفردية " .
هذا ويسعى النقابيون منذ سنوات من النضال من اجل فرض مطالبهم المادية على الوزارة والمتمثلة في الرفع في الأجور وزيادة المنح وعبروا عن رفضهم ربط الزيادة في الأجور بزيادة ساعات العمل.
على ضوء مجمل ما سبق ، نلحظ الأهمية القصوى لقيمة التمويل العمومي للبحث العلمي ، إذ انه يجسد المحرار الذي يمكن من خلاله وفي جزء هام من شروط نجاح التجربة العلمية أن يحدد لنا خصوبة من هزال الاكتشافات العلمية وبراءات الاختراع .
*نقص في المخابر والوحدات والتجهيزات البحثية
تطور عدد الباحثين بتونس ما يعادل كامل الوقت من 6563 سنة 1998 إلى 15833 سنة 2006 ، كما أن عدد الباحثين لكل ألف ناشط ارتفع من 2.14 سنة 1998 إلى 4.52 سنة 1998 (مكتب الدراسات والبرمجة). هذه الإحصائيات تبعث إلى التفاؤل بمستقبل البحث العلمي بتونس لكن الممحص في هذه الأرقام يجد نوعا من المبالغة واللاعقلانية ، فحسب الدكتور أحمد بو عزي فإن هذه المعدلات تقربنا من معدلات البلدان المصنعة التي يبلغ عدد الباحثين فيها ستة من ألف ناشط مع العلم أن هذا المعدل في البلدان النامية لا يتجاوز الباحث لكل ألف ناشط .
في الواقع ، فإن محدودية الأرقام الرسمية المتعلقة بعدد الباحثين مقارنة بعدد الناشطين والتي لا تلامس المنهج العلمي الإحصائي في الولوج إلى حقيقة الظاهرة العلمية بشكل موضوعي ومحايد تعكس في الأصل النقص الفادح لمراكز البحث العلمي والمخابر سواء في عددها أو كذلك النقص على مستوى التجهيزات والكتب والمراجع والبنية التحتية بشكل عام والكفيلة بتقديم الكثرة في عدد هؤلاء الباحثين وأيضا النوعية على مستوى ما يقدمونه من بحوث واختراعات تكون قابلة للتطبيق وللاستثمار سواء في الاقتصاد أو المجتمع أو الثقافة أو غيرهم..وفي هذا السياق يرى الأستاذ الباحث في حقل الفلسفة صالح مصباحي بأن غالبية الطلبة المتحصلين على الأستاذية والعاطلين عن العمل يلتجئون إلى التسجيل في المرحلة الثالثة و تقديم مشاريع بحوث علمية ويبدءون في الاشتغال عليها وما إن يتحصلون على عقد عمل أو يجتازون مناظرة الكاباز بنجاح حتى يقطعون مع بحوثهم ويضيف في هذا السياق سفيان باحث في علم الاجتماع بكلية 9 أفريل بأن نقص الكتب والمراجع وغياب دخل مالي محترم وقار للباحثين يجعل الكثير منهم يقطعون مع بحوثهم عند أول فرصة عمل ..!!
إلى ذلك ، هنالك توجه عام لوزارة التعليم العالي والبحثي العلمي ينخرط في النسق العولمي العابر للقارات ويتجسد في التركيز على البحث العلمي في حقل التقنية والطبيعة على حساب البحث العلمي في الحقول الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية ، وذلك لاعتبار أن التوجه الأول ناجع ومربح و مقبول من طرف الشركات العملاقة المنتشرة في العالم أما بالنسبة للبحوث التي تتناول المسائل المجردة والمعرفية فتنقصها النجاعة والمردودية مما ينتج عنه تهميش هذه المجالات البحثية ولنا في الأرقام و الإحصائيات مرة أخرى الدليل والبرهان فحسب منشورات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي نجد أن توزيع عدد الباحثين مثلا يختلف من العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى علوم الحياة والبيوتكنلوجيا فنجد عدد المدرسين الباحثين في الأولى 135 والطلبة الباحثين 244 أما في الثانية فعدد الأساتذة الباحثين 870 والطلبة الباحثين 1346 وهو ما يعكس في حقيقة الأمر قلة مخابر ووحدات البحث بالنسبة للعلوم الاجتماعية والإنسانية مقارنة بعلوم الحياة والتقنية ، مما يمكن إدراجه في خانة التمييز السلبي بين العلوم ومختلف حقول المعرفة ، وهو ما يعزز أيضا توجه سياسة الدولة في البحث العلمي التي تعطي الأولوية للتقنية على حساب الإنسانيات ، فحسب الإحصائيات الرسمية لسنة 2006 نجد أن مراكز البحث للعلوم الاجتماعية تمثل أدنى نسبة (9 ٪) من مجمل حصة العلوم الأخرى من مراكز البحث التي تصل عند العلوم التقنية إلى (31٪).
مما انعكس سلبا على الإنتاج البحثي في الحقل الاجتماعي والإنساني بشكل عام .
*انعكاسات سياسة التقشف والو لاءات والتمييز في التعاطي مع ملف البحث العلمي
تعتبر نتائج هذه السياسة المفرطة في المركزية في التعاطي مع هذا الملف الحساس خطيرة و مخيبة لانتظارات جميع المكونات الوطنية من نخب فكرية و مكونات اجتماعية و أطراف سياسية وحتى الحكومة في حد ذاتها التي وإن برعت في تسويق خطاب براق عن إنجازاتها "الافتراضية " في هذا المجال فإنها لا تستطيع أن تغض الطرف عن الإحصائيات التي نشرتها المؤسسة الوطنية للعلوم في تقريرها لسنة 2006 والذي جاء فيه بأن عدد الاستشهاد بالمقالات في العلوم والهندسة في تونس لا يتجاوز 619 مقالا بينما في مصر التي تعتبر بلدا في طريق النمو مثلنا يصل العدد إلى 3319 مقالا وفي الشيلي المصنفة ضمن دول العالم الثالث نجد 11996 مقالا مستشهدا به ، أما بالنسبة للمقالات العلمية والتقنية المنشورة ما بين سنة (1996-2005) نجد منشورات تونس من المقالات العلمية والتقنية لهذه العشرية لم يتعدى 7453 بينما نجد الشقيقة مصر حصلت 27237 مقالة وتركيا التي تصنف من البلدان النامية نشرت 87629 مقالة علمية وتقنية مما جعل البعض يصنفنا ضمن دول العالم الرابع أو الخامس .
*محدودية الأقطاب التكنولوجية في تحقيق أهدافها الإستراتيجية
نظريا ، تعد الأقطاب التكنولوجية فضاء لإبداع علاقات فاعلة ومثمرة بين مختلف عناصر المعادلة التنموية انطلاقا من عمقها التأسيسي والبناء وترابطا مع نتائجها المرحلية والإستراتيجية في آن واحد ، وسواء كانت هذه العلاقات بين التكوين والبحث العلمي ، أو بين البحث العلمي والإنتاج أو في تلازم عضوي بين هذه العناصر الثلاثة . كما تهدف هذه الأقطاب التكنولوجية، المنتشرة على جغرافية تونسية متنوعة ومتموقعة في جهات ذات بنية تحتية مختلفة ، إلى" تحسين القدرة التنافسية للصناعة التونسية " و" تشجيع الاستثمار الخارجي بتونس" و"الحث على خلق مواطن شغل خصوصا لحاملي الشهادات العليا " ( الموقع الإلكتروني لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ).
تطبيقيا، نجد أن نتائج تجربة الأقطاب التكنولوجية لم تأتي أكلها. فالحديث عن تحسين القدرة التنافسية للمنتوج التونسي لم تعد تنطلي على أحد خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تكبدها الاقتصاد التونسي جراء إبطال العمل بالاتفاقية متعددة الألياف والمتعلقة بقطاع النسيج و ما انجر عنها من إفلاس لعديد المصانع وغلقها وتسريح عمالها بسبب المنافسة الشرسة للمنتوج الأوروبي صاحب الجودة العليا، والمنافسة الأشرس للمنتوج الصيني صاحب الثمن البخس ، وفي هذا السياق نلحظ بأن هذه الأقطاب لم تجسد أحد أهدافها التي رسمتها لها الدولة التونسية والمتمثلة ، كما ذكرنا سابقا في تحسين القدرة التنافسية للمنتوج التونسي خاصة وأن التشريعات التونسية في هذا المجال لم تراعي الخصوصية المحلية أمام الهجمة الكاسحة لاقتصاد السوق العالمي . من الأهداف الأخرى لهذه الأقطاب التكنولوجية نجد مسألة خلق مواطن شغل لحاملي الشهادات العليا . رؤية صائبة دون شك لو أنه تم تفعيلها على أرض الواقع ، فالأرقام مرة أخرى تسعفنا بمؤشرات مقلقة جدا إن لم نقل كارثية في قطاع التشغيل بالذات ، إلا أن مصدرها مستقل هذه المرة ، إذ تجاوز عدد المتخرجين المعطلين عن العمل حسب هذه الأرقام الثمانين ألف متخرج. لا تعليق.
باختصار كانت النتائج المرسومة لهذه الأقطاب أقل بكثير مما كان متوقعا لها مما يطرح تساؤلات عدة عن تمويل هذه الأقطاب وشفافية المسالك المالية المتعلقة بها وديمقراطية العمل والتخطيط والبرمجة والتسيير داخلها.
*انحسار هامش الحريات الأكاديمية في الجامعات و مراكز البحث العلمي
تعتبر حرية التعبير والرأي والحق في المعلومة وديمقراطية التسيير الذاتي للمؤسسات والأجهزة السياسية والاجتماعية من مرتكزات أي نظام ديمقراطي فما بالك إذا ارتبطت هذه الحريات بالمجال الأكاديمي والبحث العلمي .
وحسب العديد من الأكاديميين والباحثين ، فإن الحريات الأكاديمية وقع التضييق عليها أكثر منذ تسعينات القرن الماضي أكثر مما كان مضيقا عليها من قبل ، وبأن الرداءة في مجال التعليم والبحث هي نتاج للتضييق شبه التام على حرية التعبير. هذا وقد ظهرت في العشرية الأخيرة اختلالات وظيفية على مستوى العلاقات الجامعية مما يهدد العلاقات الجامعية في مختلف الاختصاصات التعليمية والبحثية. وفي هذا السياق نذكر مثال مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية (سيراس) ، الذي شهد تراجعا حقيقيا في مستوى المادة البحثية والمعارف العلمية التي يقدمها وينتجها بسبب إفراغه من باحثيه لأسباب سياسية في ظل نظام حكم "عهد التغيير" .
كما نذكر مثالا آخر في هذا المستوى ، وهو المتعلق بالأستاذ الباحث رشيد الشملي الذي خاض إضرابا عن الطعام بداية من شهر مارس 2007 دفاعا عن الحريات الأكاديمية ، وذلك على اثر المظلمة التي تعرض إليها على امتداد خمس سنوات والمتمثلة في منعه من أداء مهامه ومتابعة انجاز المشاريع التي أنجزها ذات البعد البيداغوجي للطلبة وعرقلة وحدة البحث التي يشتغل بها هذا إضافة إلى منع الجمعية التونسية للنباتات الطبية التي يترأسها من النشاط من ذلك غلق المقر وقطع خط الهاتف و منع انعقاد اجتماع اللجنة التحضيرية لإعداد مؤتمر حول التداوي بالنباتات المبرمج لشهر أيار 2007 ومحاصرة الكلية من طرف الأمن السياسي . وقد سعى الأستاذ رشيد الشملي من خلال إضراب الجوع الى استعادة حقه في النشاط العلمي صلب الجمعية وبين طلبته دون مضايقات واستعادة هامش الحريات الأكاديمية الذي انتهكه عميد الكلية.
قضية جمعية علماء الاجتماع التونسيين تجسد مثالا آخر على تجاوز الحريات الأكاديمية وديمقراطية التسيير الذاتي لمراكز البحث ، إذ قام باحث ينتمي للحزب الحاكم وعضو بالجمعية ببعث بطاقة مناشدة للرئيس بمناسبة الانتخابات الرئاسية لسنة 2004 دون استشارة زملائه في الجمعية الشيء الذي جعل الأستاذ صالح الحمزاوي-من أهم المؤسسين لهذه الجمعية- يندد بما أقدم عليه هذا الباحث معتبرا أن "هذا الرهط من علماء الاجتماع الصنائع لم يبق له مكان تقريبا إلا في تونس، وهو لا شغل له إلا استخدام كل الوسائل سواء للحفاظ على مركز إداري أو وزاري أو اغتنام الفرص لاقتناصه" ويضيف في هذا السياق بأن " هؤلاء الأرهاط لا يستمدون شرعيتهم إلا من ولائهم للأمير". وهكذا فإن هذا النوع من السلوكيات المخالفة لقواعد العمل الأكاديمي والبحث العلمي من شأنها أن تقف حائلا دون ممارسة هذه الجمعية لوظيفتها العادية في إثارة إشكاليات البحث الاجتماعي الراهنة والتفكير الصائب في أهم القضايا المطروحة على مجتمعنا ككل.
خلاصة القول..
استتباعا لما سبق فإن الحريات الأكاديمية أضحت من أوكد المسائل المطروحة في الجامعة التونسية وفي مخابر ومراكز البحث لما تكتسيه من أهمية قصوى في دفع عجلة تطور البحث العلمي في بلادنا ، وان ما تقوم السلطات التونسية من تضييقات وانتهاكات لحريات وحقوق الأكاديميين والباحثين والجامعيين على مستوى الجغرافيا المعرفية والعلمية التي ينشطون عليها من شأنه أن يضر بقطاع البحث العلمي ، وان سياسة الأبواب الموصدة التي تتعامل بها وزارة البحث العلمي مع نقابة الأساتذة الجامعيين لن تنتج إلا مزيدا من الانحسار لهذا القطاع الحيوي .
كما أن منع الندوات العلمية ( معهد الصحافة وعلوم الأخبار) و التضييق على الإبداع وتعطيل تداول المعلومات (جامعات صفاقس وسوسة والمنستير وتونس) والمراقبة المنهجية للأساتذة الباحثين والطلبة على حد سواء وانتهاك سرية بريدهم الالكتروني وغض الطرف عن السرقات العلمية آخرها عملية السرقة لمحتوى كتاب كامل اكتشفها السيد فرج شوشان وقد نشرت وقائعها جريدة "مواطنون" الأسبوعية . وخلافا لكل التوقعات، وقع التعاطي مع مكتشفي هذه السرقات العلمية من خلال تعويضهم في لجان الانتداب والترقية وهو ما يلاحظ جيدا في كلية الآداب بمنوبة.
هذا إضافة إلى رفض التمديد في سن التقاعد للبعض من الأساتذة المغضوب عليهم من قبل وزارة التعليم العالي والسلطة السياسية بشكل عام لخلفياتهم السياسية والنقابية (جنيدي عبد الجواد، عياض بن عاشور، أحمد إبراهيم، عبد الجليل البدوي، الطاهر الهمامي) أو لأسباب أخرى ربما تجاوزت حتى أرصدتهم الفكرية والذهنية ولا تعلمها إلا الوزارة!!( هشام جعيط، عبد الجبار بسيس ،عبد المجيد الشرفي).
بناءا على ما سبق ، نستنتج بأن جمود واقع الحريات الأكاديمية والاستثمار في المعرفة العلمية أصبح يشكل عائقا جديا أمام تقدم الجامعة التونسية ومجالات بحثها التي تبقى مقيدة بدرجة الانفتاح المعرفي والعلمي التي تحصلها وتكتسبها في ظل الانغلاق العام الذي يلف البلاد في مختلف إمكاناتها.
خاتمة عامة
مما لا يدع مجلا للشك أن الجامعة التونسية ومراكز ومخابر البحث حادت عما هو مطلوب منها نظريا بان تكون منارات للبحث العلمي والتقني وازدهار للعلوم وإثراء للمنتوج الثقافي المحلي وخيبت آمال المجتمع التونسي الذي انتظر منها الكثير في التقدم بالمستوى التعليمي والكفاءات العلمية لأبنائه وبناته وفشلت في أن تستوعب ما طمحت إلى تحقيقه الانتلجانسيا الثقافية والنخب السياسية التونسية منذ الاستقلال إلى الآن من جعل الفضاء الجامعي مكانا للبحث والتفكير والتثوير .
يأتي ذلك في ظل غياب شبه كامل لمنطق الحوار والتشارك في صياغة البرامج والمشاريع المتعلقة بهذا القطاع خاصة بين الجهات الحكومية والأساتذة الباحثين الممثلين في نقابتهم الناطق الرسمي باسمهم جميعا الشيء الذي لم تفهمه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى حد الآن.
وانه لمن نافل القول التذكير والإلحاح على أن التعامل الجدي والمسئول للجهات الرسمية مع هذا الملف وإطلاق الحريات الأكاديمية وتخصيص الموازنة المالية الكافية للبحث العلمي وصياغة استراتيجيا وطنية فاعلة وبناءة فيما يخص مجال البحث العلمي والتكنولوجي ، من خلال مركز أو مؤسسة وطنية للبحث العلمي تمركز نشاط هذا القطاع بالمعنى الايجابي للكلمة ،ويشرف على تنفيذها وتسييرها مختلف المكونات المدنية من جمعيات ومنظمات وأحزاب و مثقفين وتكون منفتحة على شتى مراكز ومخابر ووحدات البحث لهو من أوكد الأولويات الوطنية . وهو مطلب مطروح على النخب والمعارضة أكثر مما هو مطروح على السلطات التونسية ، بمعنى أن النخب والمعارضات التونسية مسئولة نضاليا على فرض هذا المشروع على نظام الحكم الذي لم يضعه إلى حد الآن على سلم أولوياته .
في كلمة، على جميع المكونات السياسية و النقابية والديمقراطية والنقابات والجمعيات التقدمية أن تتوحد على مشرع نضالي عملي موحد لإنقاذ الجامعة والبحث العلمي بشكل عام من براثن ما وصلت إليه من انغلاق وتهميش وتمييز وفقر في إطار نضالها من أجل مجتمع سياسي وطني وديمقراطي أفضل لبلادنا ولمستقبل الأجيال اليافعة .
الفجر نيوز :www.alfajrnews.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.