نواصل في هذه الحلقة الثالثة، حديثنا الذي تجاذبنا أطرافه مع بعضنا في الأجزاء لسابقة، عبر تقديمنا للكتاب المتميّز “أولادنا من الطفولة إلى الشباب” للدكتور مأمون مبيّض. وكما خلصنا من قبل، فإننا نواصل هذا المشوار من خلال المنهجية التي رسمناها، وهي الاعتماد على محطات معينة ليسهل اللقاء، ونواكب مع بعض، أطوار هذه الرحلة الطيبة والتي تتخللها بعض التجارب الشخصية... المحطة الثانية : الجوانب المختلفة لنمو الطفل. 1. فكرة الولد عن نفسه : الكثير من تكوّن إحساس الفرد عن نفسه وذاته يأتيه من طريقة المعاملة التي ينتهجها الوالدان معه، فتكريمهما إياه هو تكريم للصورة التي سوف يكون عليها الولد لاحقا. فعوض أن تقول له إن أخطأ، إنك ولد قاس، قل له : لقد كان تصرفك مع أخيك قاسيا (ص48)، والبون شاسع بين العبارتين، فالخطأ في السلوك والتصرفات، وليس في تكوينه كإنسان! 2. نمو الشخصية : تساهم سلوكيات الأب والأم في تنمية شخصية الولد، وذلك بالتركيز على عامل الثقة والاحترام لحق المبادرة للطفل، مع المراقبة والتدخل الليّن، دون غلظة أو تشدّد، “نعم فهمت وجهة نظرك، ولكن فكّر معي ماذا سيحدث لو أن كذا… أو أن اختيارك جيّد، ويمكن أن تجربّه في مرة قادمة”(ص59)، فمن شأن هذا التعامل البسيط، تكوين شخصية الطفل، وزرع الثقة في نفسه، وإحساسه بكفاءته وقدرته. 3. نمو الذكاء : يُعرّف الذكاء عادة بأنه عبارة عن قدرة الإنسان على رؤية العلاقات بين الأشياء، واستعمال هذه العلاقات لحل المشكلات (ص101). وإذا استبعدنا الرأي الوراثي في المسألة، فإن تنمية ذكاء طفلك ممكن وبأقل الأثمان، عبر إعطائه الثقة في حل المشاكل العويصة، وقضاء بعض الوقت معه لإعانته في جهوده الدراسية أو الخارجية التي تعيقه بعض الشيء. وأنّ أخطائه وإن تعدّدت، فإن العيب ليس فيها، ولكن في عدم الاعتبار منها لتجاوز المذموم وترسيخ المحمود. وأزيد على رأي الدكتور أن تكوين الذكاء لدى الطفل يبنى أيضا في بعدين : أولا من خلال الاحترام والتنويه لكل عمل قام به الطفل ويريد شكرا أو امتنانا حتى وإن حمل بعض الهنات، وثانيا أن لا يجعل الأب أو الأم ذكائهم هو النهائي والأول وأن ما سواه من محاولات الأطفال ناقصة وضعيفة، بل يجب الاعتراف لدى الطفل في بعض الأحيان بأنه كان سباقا أو أننا لم نفكر نحن كما أحسن هو التفكير. 4. النمو الأخلاقي والديني : رغم صعوبة التجريد لدى الطفل، فإن كل الخطأ في عدم إعانته في التفريق بين الخطأ والصواب من جهة، والحلال والحرام من جهة أخرى، فإن تغطية كل أفعاله التي لا ترضينا، كالصخب ونظام البيت، على أنه حرام، يجعل الطفل يحمل مشاعر الذنب كلما أخطأ في الصغيرة والكبيرة. وهذا تثبيط له عند مراهقته وحتى فيما بعد. لذا وجب الشرح الميسر والهادئ للأمور الأخلاقية كالاعتداء والسرقة والكذب، كأن نبيّن مضارها على غيره وعلى نفسه لو أُصيب بها، وعواقبها المزعجة والغير اللائقة. ومن هنا وجب التعامل بلطف وإرساء هذه الخاصية لدى ولدك، والتي ستؤدي لاحقا إلى معالجة هادئة ورصينة لكل ما يعترضه في طريقه الطويل الممتلئ بمظاهر الحُسن والقُبح، وحالات الحسن والسيء، وهذه أولى ركائز النجاح. ولعل قضية النموذج كما أراها تطرح أيضا بكل صلابة في هذا الباب، فإن الطفل في كل مراحل نموه وهذه من ثمرات تجربتي في البيت، يبقى يبحث عن النموذج والقدوة لتقليدها وتبني خطواتها، وأي قطيعة بين النظر والممارسة تطيح بهذا النموذج في نفسية الطفل وتجعله مستقبلا لا يطمئن إلى واقعه ويتوقع منه السقوط. والنموذج أكثر حساسية في البناء الأخلاقي والديني لأنه أساس كل البناء الذي يعقبه، وأي خلل فيه يجعل كل البناء معتلا. 5. النمو الجنسي : تقف الثقافة الإسلامية موقفا وسطا في فهمها للجنس، بين إباحية بلا ضابط، وبين كبت متطرف للطبيعة الإنسانية “فالجنس في الحياة الإسلامية غريزة ودافع بشري وصفة إنسانية. غريزة تحكمها الأخلاق ويوازنها البعد الاجتماعي في النمو والتكيف” (ص119). لذا وجب أن يُربّى الطفل على عدم كره أو الاشمئزاز من أي جزء في جسمه، والتحلي بالحشمة والعفة وضبط النفس، كما يوحي بذلك الذوق السليم والأخلاق والدين. و يبدو لي أنه لا يجب التهرب من تفادي "حقائق الحياة" بل يجب إعطاء المعلومة مبسطة مفهومة في غلاف أخلاقي رفيع، مما يجعلك في نفس الوقت تبني الثقافة الجنسية للولد وتبني أخلاقه، فهذا الميدان حساس ولا شك ولا يجب نزع الحياء فيه ولذلك ارتأيت أن أربي الثقافة الجنسية للأولاد وتتكفل الأم بالبنات حتى تكون الصراحة أكثر تمكنا. وهي تربية تستند إلى النظر والسلوك، فالطفل يراقب ويبني، فلا سبيل إلى تثقيف أخلاقي جنسي رفيع وفي المقابل يكون النموذج الذي هو أنا والأم نستحل الكلام أو النظر أو الممارسة البذيئة أو المفضوحة. وهذه التربية حسب تجربتي مستديمة مع الطفل وهو يكبر، ككل ثقافة تربوية أخرى، ولذلك يجب تقبل الأسئلة حتى من قبل الابن المراهق حيث تبدأ العلاقة معه تنحى منحى الصحبة. وقد سعى الإسلام على المحافظة على هذه العلاقة المتوازنة في الثقافة الجنسية والنمو الجنسي لدى الطفل وهو ينمو، بحمايتها بضوابط جتى لا تصبح البيئة مثيرة جنسية وتجعل نموه مضطربا، فمنع ظهور الوالدين عراة، وابتعد عن جعل الأولاد ينامون مع بعض في لحاف واحد وكذلك البنات، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "يفرق بين الأولاد في المضاجع لست سنوات" أي عندما يبلغون هذا السن. كما أثبت الإسلام ثقافة الاستئذان في هذا الباب على الصغير والكبير، حتى يعلم الطفل حدوده وضوابطه والخطوط الحمراء في أي موقع يوجد فيه، كل ذلك في إطار أخلاقي رفيع...وفي نصيحة الرسول الكريم لعبد الله بن عباس وهو صبيّ خير تعبير : “يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك…” يتبع 25 جويلية 2008 المصدر بريد الفجرنيوز