لم تكن الذكرى الثالثة عشرة لمذبحة سربرنيتشا التي حدثت لمسلمي البوسنة في 11 يوليو عام 1995 مجرد حدث عادي كسابقتها؛ فقد تزامنت هذه الذكرى مع دخول البلاد فترة السنوات الست المقررة لاستكمال شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي، والتي بدأت العد التنازلي مع الأول من يوليو الحالي، وذلك بعد أن وقع الطرفان معاهدة الاستقرار والتقارب في 16 يونيو الماضي 2008. ومع أن ذكرى مذبحة سربرنيتشا تمثل الكثير بالنسبة للمسلمين الذين فقدوا أكثر من 8 آلاف منهم -في منطقة كانت الأممالمتحدة قد أعلنت أنها منطقة آمنة- في أسوأ المجازر التي شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فإن المناسبة كانت بمثابة شعاع أمان لكل دول الاتحاد التي شعرت أن البوسنة في طريقها للاستقرار، والمضي نحو هدف العضوية الكاملة لاتحادهم الأوروبي. خطوات فعالة لقد قطعت البوسنة شوطا كبيرا في طريقها نحو الاندماج الأوروبي، إذ شهدت البلاد تغيرا تاريخيا منذ أوائل هذا الشهر في نشأة الدولة ووجودها الأوروبي، حيث تأثرت -شعبا ونخبة- سياسيا واقتصاديا ببدء سريان انضمامها التدريجي للاتحاد الأوروبي، فمع اليوم الأول من هذا الشهر انخفضت الرسوم الجمركية في البوسنة، وتم إعفاء بعض المنتجات منها بعد أن دخلت اتفاقية الاستقرار والشراكة الموقعة مع الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ. وفى الأيام التالية بدأت تشهد تحركا فعالا في مواجهة مشكلاتها التي تعيق انضمامها للاتحاد لاسيما في مجال البنية التحتية، والنقل والمواصلات، وخصخصة الشركات الكبرى، ناهيك عن الاتفاقيات التجارية مع الدول المجاورة ودول الخليج العربي حتى تستطيع إعادة هيكلة اقتصادها والمسارعة في خطوات نموه. وتزامن ذلك مع طلب منظمة هيومان رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان في 10 من الشهر الجاري التحقيق في جرائم الحرب في البوسنة التي وقعت قبل 13 عاما؛ حيث ذكرت في بيان صادر عنها أن المحاكم ذات الدرجات الدنيا على وجه الخصوص غير قادرة على إجراء محاكمات عادلة وفعالة لمجرمي الحرب، وأن الآلاف من القضايا المتعلقة بجرائم الحرب التي حدثت في البوسنة لم يتم التحقيق فيها بعد، كما سجلت المنظمة نقاط التقصير والإهمال في عملية التحقيق القضائي في جرائم الحرب حتى الآن. وقد قدم الاتحاد الأوروبي جملة من التسهيلات التجارية للبوسنة تتضمن استيراد منتجات بوسنية وتشجيع الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية المتنوعة إضافة إلى تقديم قروض ميسرة، خاصة بعد إبرام اتفاقية (الشراكة والانضمام التدريجي) مع الاتحاد الأوروبي التي جرى التوقيع عليها في بروكسل، بل وشهدت البوسنة تعاطفا من بعض الدول التي تقع داخل الاتحاد مثل فرنساوألمانيا وإيطاليا.. وغيرهم، حيث أعلنت هذه الدول عن رغبتها في استكمال البوسنيين شروط الاندماج الكامل في الفترة المحددة. المعوقات الداخلية وعلى الرغم من هذه الخطوة الفاعلة، فإن صرب البوسنة (يشكلون 30% من مجموع السكان) يعتبرون من أكبر المعوقات التي تقف حائلا أمام الانضمام للاتحاد الأوروبي، حيث يعرقلون أي تقدم نحو هذا الهدف بغية الانفصال في دولة مستقلة؛ لأن مسألة الانضمام والتوحد سيفقدهم الكثير من الصلاحيات، خاصة أنهم كانوا يستأثرون بالشرطة؛ والتي أطلق عليها السكان "الشرطة العرقية"، أو ما يسمى "الشرطة الصربية"، وزوالها يعني قلة نفوذهم. ويرى الصرب أنه لا مكان لهم إلا في دولة مستقلة، كما أن ساسة صرب البوسنة يعرقلون جميع المساعي للانضمام، والذي سيلغي جميع القوانين السائدة حاليا، وعلى رأسها عودة المهجرين من المسلمين إلى ديارهم في منطقة شرقي البوسنة التي شهدت أكبر عملية تطهير عرقي. ولعل فعاليات يوم الذكرى الثالثة عشرة، والتي تضمنت إعادة دفن رفات أكثر من 308 ضحايا مسلمين تم التعرف حديثا على هويات أصحابها، تؤكد عدم رغبة الصرب في العيش مع الكروات والمسلمين في دولة واحدة، فلم يشارك في إحياء الذكرى أي مسئول صربي رفيع المستوى، كما أثار قرار المحكمة الدولية الذي صدر عشية هذه الذكرى مباشرة، والذي يقضي بتبرئة "ناصر أوريتش" -القيادي المسلم السابق، والذي حوكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الصرب- غضب جميع الصرب البوسنيين. شيء آخر لا يمكن إغفاله وهو أن الحرب دمرت الاقتصاد البوسني، والبنية التحتية في البلاد، وهو ما يتطلب جهدا خارقا لإعادة البنية الرئيسية لتقترب من نظائرها في دول الاتحاد، ويحتاج ذلك على الأقل لثلاثة أو أربعة خطط خمسية. فضلا عن هذا لا يمكن إغفال حالة التشاؤم واليأس التي تسود بعض البوسنيين لاعتقادهم أن مسألة انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي ضرب من المستحيل بسبب شروط الاتحاد ال180؛ لدرجة جعلت البعض يتلقى خبر توقيع معاهدة الاستقرار والتقارب بين البوسنة والاتحاد الأوروبي بشيء من اللامبالاة وعدم التفاؤل بانضمام وشيك إلى أوروبا، اعتقادا باستحالة انضمام بلد غالبيته من المسلمين للاتحاد، بينما رأى البعض الآخر أن الانضمام لن يتحقق إلا إذا كان هناك وفاق بين الأطراف الثلاثة: بين المسلمين والصرب والكروات. معارضة خارجية وإضافة إلى المعوقات السابقة، فإن ثمة معوقات أخرى خارجية يتمثل أبرزها في عدم رغبة أوروبا المسيحية في وجود دولة إسلامية داخل المجموعة خوفا من التمدد الإسلامي، كما يتبنى بعض المعارضين رأيا مفاده أن انضمام البوسنة سينقل لهم مشكلات العالم الإسلامي، وبالتالي أحداث الشرق الأوسط، وثمة رأي ثالث يدافع عن عملقة الاتحاد الاقتصادية، حيث يرى أن دول الاتحاد جميعها -سواء أكانت زراعية أم صناعية- دول عملاقة، وقادرة على إفادة المجموعة، بينما البوسنة دولة فقيرة لا تملك سوى المشكلات. ولعل الضغوط الأمريكية والأوروبية على حكومة البوسنة للتخلص من الإسلاميين الوافدين إبان حرب التسعينيات يمثل عائقا كبيرا أمام الحكومة والشعب الذي يرى أنهم جزء من نسيجه، حيث تنظر الولاياتالمتحدة إليهم على أنهم "إرهابيون". وتجدر الإشارة إلى أن "فصيلة الإسلاميين المتشددين"، أو كما يطلق عليهم "كتيبة المجاهدين" تأسست على يد المهاجرين العرب الذين قصدوا البوسنة عام 1992 من دول مختلفة بهدف مساعدة البوسنيين المسلمين، حيث انضموا بداية إلى صفوف الجيش البوسني الذي قرر بعد أشهر إنشاء كتيبة تضم المتطوعين العرب، على أن تكون تابعة للجيش البوسني، وربط الكثيرون بينها وبين تنظيم القاعدة لاعتمادها تنظيميا وماليا على الدعم المباشر الذي قدمه لهم أسامة بن لادن. وتشير بعض التقارير إلى أن عددهم بلغ نحو 10 آلاف مقاتل، وتحولوا إلى مدنيين بعد التوصل لاتفاق دايتون للسلام، والذي أنهى الصراع المسلح الذي دار في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 و1995. وبدأ التخلص منهم عبر عمليات اعتقال لبعض العرب القاطنين في ألمانيا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، بسبب زواجهم من بوسنيات مسلمات، وهو ما كان كافيا لربطهم بقتال البوسنة، وتصنيفهم إرهابيين. وتوافق ذلك مع الضغط الذي تمارسه واشنطن على الحكومة البوسنية لتتعاون في ترحيل المهاجرين العرب، عبر تجريدهم من إقامتهم، الأمر الذي يتيح ترحيلهم عن البلاد، كما يخضع بعضهم للمحاكمة في عدد من الدول، ومنها البوسنة؛ لاتهامهم بالتورط في جرائم حرب. وترى واشنطن في هذا الإطار، أن "التطرف الإسلامي" هو العدو الحقيقي لوجودها هي والدول الأوروبية الأخرى؛ لذا وجدت أن الحل الوحيد لتفادي توسع نفوذها يكمن في السعي مجددا لإضعافها وتفتيتها؛ لأن النفوذ الإسلامي البوسني يمتد أيضا في إقليم كوسوفا، حيث الغالبية الألبانية المسلمة، الأمر الذي يتطلب احتواء هذا التمدد الإسلامي. وفي عام 2005 بدأ التخلص الفعلي من الإسلاميين، وكانت أولى الخطوات هي سحب الجنسية البوسنية من المجاهدين العرب، واعتقال بعضهم في معتقل جوانتانامو، وسد أبواب الرزق أمامهم، والتضييق على مؤسساتهم الخيرية، ومحاصرة أموالها، ومحاولة تجفيفها من منابعها، وكذلك تشويه صورتهم، وانتهى الأمر بالترحيل التدريجي عن البلاد. هل يتعثر طريق البوسنة الأوروبي؟ ولا يعني توقيع معاهدة التقارب أن البوسنة ستصبح عضوا فعليا في الاتحاد بعد نهاية فترة السنوات الست، فالبعض يشابه في كثير من المعطيات بين الحالة البوسنية والحالة التركية، خاصة أن كلتا الدولتين مرتبطتان بالشرق الأوسط ومشكلاته، وبكل دولة أقليات تؤرق استقرارها السياسي، وأن كلتيهما تعتنقان الإسلام، ولا شك أن ذلك سيثير الخائفين من تمدد النفوذ الإسلامي من هاتين الدولتين إلى بقية دول القارة. ومع ذلك فإن الفوارق بينهما عديدة، فالوضع الجغرافي يجعل فرصة البوسنة أكبر من فرصة تركيا؛ لأن الأولى تقع في قلب القارة، بينما تمتد المساحة العظمى لتركيا في آسيا، وهذا ما يجعل فرصة البوسنة أفضل في استيعاب المشكلات التي قد تنشأ مع دول الجوار، وهي دول داخل القارة، أما تركيا فمشكلاتها مع دول الجوار تنقل الاتحاد برمته إلى قارة أخرى. ومن جانب آخر، أبدت البوسنة استعدادا وقدرة على التأقلم والعيش مع بقية دول الاتحاد الأوروبي، وأن ساساتها وشعبها عازمون على المضي قدما نحو الاندماج والتعايش داخل الاتحاد الأوروبي، غير أن هذا الأمر مرهون بحل مشكلاتها الداخلية بالضغط الأوروبي الأمريكي على صرب البوسنة، لإقناعهم بضرورة التعايش والتراجع عن النوايا الانفصالية من ناحية، والضغط الداخلي من الحكومة على التيار الإسلامي المتشدد والمهاجرين العرب لمغادرة البلاد، وأخيرا الانتقال لمرتبة الدول الناضجة أوروبيا سواء من الناحية الاقتصادية أو السكانية. ويؤيد 80% من الشعب البوسني الانضمام للاتحاد، ويعتبرون أن اتفاقية الشراكة الموقعة معه جاءت لتكون مجرد بداية، مما جعل البرلمان البوسني يقر جملة من الإصلاحات الجوهرية في مقدمتها قانون الشرطة والأمن، وقانون الإدارة العامة والتعاون مع محكمة لاهاي في تسليم مجرمي الحرب تطبيقا للشروط الأوروبية. ورغم مساندة أوروبا للبوسنة كي تتجاوز أوضاعها الحالية، والدمار الذي خلفته حروبها، فإنها ما زالت في مراحل التردد والخوف من انضمامها، وسيظل الاتحاد الأوروبي يدرس لفترة ليست بالقصيرة الطلب البوسني، ومن قبله التركي حتى لا تكون هناك خطوة تندم عليها القارة بأكملها مستقبلا. باحث سياسي (*) إسلام أون لاين.نت