معهد باستور: تسجيل حالة وفاة و4 اصابات بداء الكلب منذ بداية 2024    المدير العام للديوانة في زيارة تفقد لتطاوين    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    الإعلان عن نتائج بحث علمي حول تيبّس ثمار الدلاع .. التفاصيل    زلزال بقوة 5.5 درجة يضرب هذه المنطقة..    قوات الاحتلال الإسرائيلية تقتحم مدينة نابلس..#خبر_عاجل    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    إجراء أول اختبار لدواء يتصدى لعدة أنواع من السرطان    تواصل نقص الأدوية في الصيدليات التونسية    رحلة بحرية على متنها 5500 سائح ترسو بميناء حلق الوادي    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح    "تيك توك" تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية    ماكرون: هناك احتمال أن تموت أوروبا    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    هذا فحوى لقاء رئيس الجمهورية بمحافظ البنك المركزي..    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي تتراجع بنسبة 3ر17 بالمائة خلال الثلاثي الأول من سنة 2024    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تكريم فريق مولودية بوسالم للكرة الطائرة بعد بلوغه الدور النهائي لبطولة إفريقيا للأندية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    سعر "العلّوش" يصل الى 2000 دينار في هذه الولاية!!    رئيس الجمهورية يتسلّم أوراق اعتماد سفير تونس باندونيسيا    قرابة مليون خبزة يقع تبذيرها يوميا في تونس!!    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    عاجل: غرق مركب صيد على متنه بحّارة في المهدية..    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق المواطنة..في المجتمع الإسلامي :عصام تليمة
نشر في الفجر نيوز يوم 02 - 09 - 2008

ما من قضية أثارت جدلا في الآونة الأخيرة بين السياسيين والإسلاميين كما أثارت قضية المواطنة، خاصة حقوق غير المسلم، ومدى تمتعه بحقوق المواطنة متساويا بذلك مع المسلم، خاصة أنه لم يرد توضيح في تصورات الإسلاميين للدولة، ودور غير المسلم فيها، وتوليه من المناصب كما يتولى المسلم.
ورأينا القضية تاهت بين طرفي نقيض، بين من لا يعرف رأي الإسلام الصحيح في المسألة، ولا آراء علماء الإسلام فيها، وبين من فهموا الإسلام فهما خاصا، بناء على استدعاء لآراء تمثل زمانا بعينه، لتسقط على زمان آخر، اختلفت فيه النظريات السياسية، واختلفت فيه الأزمنة والأمكنة، ولم تعد فيه الدولة كما كانت قديما بتصورها البدائي البسيط.
وسوف أتناول قضية المواطنة من عدة جهات:
الأولى: موقف الإسلام من مبدأ المواطنة، ممثلا في رسوله صلى الله عليه وسلم، خير من طبق الإسلام فهما وعملا.
والثانية: التطبيق العملي عبر تاريخ المسلمين.
والثالثة: عن الشبهات التي تثيرها بعض النصوص الدينية.
والرابعة: تفسير أسباب شيوع سوء معاملة غير المسلمين في بعض المجتمعات الإسلامية.
موقف الإسلام من مبدأ المواطنة
تعتبر صحيفة المدينة، هي أبرز ما يواجهنا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، خاصة اليهود (حيث إنهم الفئة الوحيدة المخالفة للمسلمين عقيدة من أهل الكتاب في المدينة)، ولنتأمل النص لنرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد فيها مبدأ المواطنة، بحيث وضعت فيه الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها، ومن هذا الدستور نقرأ هذه المواد:
1 هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب)، ومن تبعهم فَلحق بهم وجاهد معهم.
2 إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3 وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.
4 وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأَثِم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
5 وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
6 وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
7 وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
8 وإن ليهود بن جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
9 وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
10 وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
11 وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
12 وإن لبني الشُّطَيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم.
13 وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
14 وإن بطانة يهود كأنفسهم. (بطانة الرجل: أي: خاصته وأهل بيته).
15 وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
16 وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
17 وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
18 وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
19 وإن الجار كالنفس غير مُضار ولا آثم.
20 وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
21 وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، إنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.[1 ]
اعتبرت هذه الوثيقة اليهود من مواطني الدولة الإسلامية، وعنصرًا من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصحيفة: "وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم"، ثم زاد هذا الحكم إيضاحًا، في فقرات أخرى فقال: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين... إلخ".[2 ]
وهكذا نرى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب، الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس -بمقتضى أحكام الصحيفة- سببا للحرمان من مبدأ المواطنة.[3 ]
كما عملت هذه الوثيقة على استبدال مفهوم الفرقة والصراع بين الشعوب والقبائل؛ بمفهوم الأمة القائم على الوفاق والتعايش مع حفظ الخصوصيات، حيث تكوَّن لأول مرة في المدينة مجتمع تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين والجنس، ولكن تتوحد فيه علاقة الانتماء إلى الأرض المشتركة، هي أرض الوطن.[4 ]
ورسخت الأيام والمواقف هذا الاتفاق بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، وإن قابله اليهود بالغدر والخيانة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل على خلقه الكريم معهم، في تمسكه ببنود هذه الوثيقة.
السياق التاريخي للمواطنة عند فقهاء المسلمين
وترسخ هذا الفهم في نفوس المسلمين جميعا؛ لأنه شرعهم ودينهم، فرأينا جيل الصحابة، وعصر الخلفاء الراشدين -خاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه- يترسخ فيه هذا المعنى ويتأكد، ومن ذلك موقف القبطي الذي تشاجر مع ابن عمرو بن العاص والي مصر، وموقف عمر من هذا الخلاف.
ولما عرَّض أبو لؤلؤة المجوسي في كلامه بما يفصح عن نيته قتل عمر، واقترح أحد الصحابة سجن أبي لؤلؤة رفض عمر بن الخطاب هذا الاقتراح؛ لأنه لم يرتكب جُرْما.[5 ]
ثم تجلى تطبيق مبدأ المساواة أكثر على يد فقهاء المسلمين، فرأيناهم يجيزون للمسلم أن يتصدق من ماله على غير المسلم، وأن يعطيه من النذور والكفارات، مستشهدين بآيات من القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) الإنسان: 8، والآية مكية، وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك.[6]، بل رأينا من أئمة التابعين من أعطى الرُّهبان من صدقة الفطر[7 ]، على ما تمثله صدقة الفطر من أهمية كبرى عند المسلم من عدة جهات.
ورأينا فقيها كشيخ الإسلام ابن تيمية، يضرب أروع مثل لتطبيق مبدأ المواطنة، والحفاظ على أخوة الوطن الواحد، لا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم، وذلك عندما أُسر عدد من المسلمين وغير المسلمين عند ملك التتر، فكتب رسالة لملك قبرص يشرح له موقفا حدث له مع ملك التتر عندما أسر عنده مجموعة من أبناء الوطن، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية لملك قبرص المسيحي: (نحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة؛ أعظم ما عُبد الله به: نصيحة خلقه… وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم (غازان) فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يطلقون، فقلت له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذِمَّتنا، فإنا نَفْتَكُّهُم، ولا ندع أسيرا من أهل المِلَّة ولا من أهل الذمة، وأطلقنا من النصارى من شاء الله، فهذا عملنا إحساننا، والجزاء عند الله).[8 ]
وعندما جاءت الحملات الصليبية لغزو بلاد المسلمين والعرب، في تسع حملات، لم يسمها المؤرخون المسلمون بالحملات الصليبية، لعدم جرح شعور غير المسلمين من أهل الصليب، بل سموها حروب الفرنجة؛ لأنهم علموا أن الغازين لم يستهدفوا المسلمين فقط، بل استهدفوا العرب جميعا للسيطرة على بلادهم وخيراتهم، وحارب المسلمون وغير المسلمين معا لصد هذا الغزو، وأصر مؤرخو أوروبا على تسميتها بالحروب الصليبية.
نصوص ومواقف تثير شبهات
على الرغم من هذه الصفحات المشرقة من النصوص الإسلامية، والمواقف الثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ثم للأئمة الأعلام من بعدهم، في حسن تعاملهم مع غير المسلم في المجتمع الإسلامي، إلا أن هناك مواقف ونصوصا ربما أثارت شكوكا حول صحة ما أثبتناه من تسامح إسلامي في التعامل مع غير المسلم، ونورد بعضا من هذه النصوص والقضايا على عجالة.
المادة الثانية من الدستورالمصري:
وهذه قضية يثيرها العلمانيون وبعض من يجهل الشريعة الإسلامية، فيقول: وما ذنب غير المسلم أن يُحكم بشريعة غير شريعته، وأن ينص في دستور بلاده: أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، أليس ذلك من باب عدم مراعاة مبدأ المواطنة، بل يتعارض تعارضا تاما معه، بل ربما ينسفه نسفا؟!.
وجوابنا: أن هذا القول لا يصدر إلا عن واحد من اثنين: إما إنسان يجهل الإسلام جملة وتفصيلا، أو إنسان يشوه الإسلام، ويريد طمس معالمه وحقائقه جملة وتفصيلا.
إن من المعلوم لكل دارس للشريعة الإسلامية، ومن إقامة النبي صلى الله عليه وسلم للحدود في دولة الإسلام، أن هناك تفرقة بين ارتكاب المسلم للحدود، وبين ارتكاب غير المسلمين للحدود فيما بينهم، أو في خاصة نفسه، فمثلا: لو أن مسلما شرب الخمر فحده في الإسلام الجلد، ولو شربها غير المسلم وكانت شريعته تقضي بأن الخمر حلال، فليس للحاكم المسلم أن يقيم الحد عليه، وهذا باتفاق الفقهاء.
فكل ما هو حلال في شريعة غير المسلم لا يعاقب عليه وإن كان حراما في الإسلام، ولو أن مسلما كسر زجاجة خمر لغير مسلم يفتي معظم الفقهاء بتضمينه، وعليه دفع ثمنها له، على الرغم من التحريم الشديد في الإسلام للخمر، وكل ذي صلة بها.
وكذلك لو زنى غير مسلم بغير مسلمة فيحكم بينهما بشريعتهما لا بشريعة الإسلام، إلا إذا طلبوا هم حكم الإسلام فيهم، وارتضوه، على عكس لو سرق غير مسلم مسلما عندئذ يطبق عليه شريعة الإسلام.
ومن مفاخر تراثنا في الدولة الإسلامية أن وجدت كتب عنيت بالكتابة في التشريع الخاص باليهود والنصارى، فرأينا كتاب (المجموع الصفوي) لابن العسال، وهو كتاب في التشريع اليهودي، وكتاب (الأحكام الشرعية في الأحوال الشرعية)، وكتاب (الخلاصة القانونية) وهما في التشريع المسيحي.
الجزية وختم غير المسلمين
ومن القضايا الحساسة التي تثار أيضا، قضية الجزية، وما ورد في كتب التاريخ من ختم غير المسلمين على أجسادهم.
بداية نود أن نقول كلمة يساء فيها إلى الإسلام والنظام الإسلامي، عندما تذكر كلمة (الجزية) وكأنها سبة في جبيننا كمسلمين أو كنظام إسلامي، إن الجزية اختراع غير إسلامي، لم يخترعه الإسلام ولا المسلمون، بل جاء الإسلام فوجد الجزية نظاما موجودا بين الناس، شأنه في ذلك شأن الرِّق، فهو من مخلفات العصور التي سبقته، وقيل: إن الجزية فارسية معرَّبة وأصلها (كزيت) ومعناها: الخراج الذي يستعان به على الحرب، وأطال العلامة شبلي النعماني المؤرخ الهندي في الاستدلال على ذلك في رسالة خاصة نشرت في مجلة (المنار)، ومما استأنس به في ذلك: أن التاريخ يثبت أن كسرى هو أول من وضع الجزية، فالجزية نظام فارسي، وليس مبتكرا من الإسلام.[9 ]
لقد كان عقد الذمة الذي يعقد قبل الإسلام يجعل الذمي في ذمة العاقد، أما الإسلام فجاء واحترم آدمية الناس، فجعل عقد الذمة في ذمة الله ورسوله، ليعلم كل من يخرق هذا العقد أو يعتدي على غير مسلم أنه اعتدى على حرمات الله ورسوله؛ ليجمع الإسلام على المعتدي المسلم بين عقاب الدنيا والآخرة.
كما أن ختم غير المسلمين في رقابهم بختم، أو تعليق قطعة نحاسية على صدورهم لتمييزهم، ليس من اختراع المسلمين أيضا، بل هي عادة قديمة ترجع إلى عصر الآشوريين الذين كانوا يعلقون في رقاب العبيد قطعة من الفخار أسطوانية مكتوبا عليها اسم العبد واسم سيده.[10]وكان اليهود في عهد التلمود يعلمون عبيدهم بالختم في الرقبة أو الثوب.[11 ]
ومع ذلك عندما نقل المسلمون هذه العادة، لم يقصدوا بها الإساءة، بل ميزوا بها من دفع الجزية ممن لم يدفع، حتى لا يعاقب من دفع بالخطأ، وكانت تعلق في رقبتهم علامة تسمى علامة البراءة. [12 ]
أي أن تمييز غير المسلم له أهداف، ومنها: تمييزه بعلامة حتى لا يظن أنه محارب، وهذا آمَنُ له، ولما عرف لم يشترط ذلك.
قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون):
قد يسلم القارئ بما مضى من أن الجزية اختراع غير إسلامي، ولكن يشوش عليه ورود نص في القرآن الكريم يدعو لأخذ الجزية من غير المسلم في صورة كلها مهانة ومذلة، وهو قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) التوبة: 29.
(فتفسير (اليد) في قوله: (عن يدٍ) بالقدرة، وفي نصوص القرآن واللغة ما يؤكد هذا المعنى، وقد رأيتهم في عهد خالد لصاحب قس الناطف قوله: "على كل ذي يد" أي قدرة.
وأما قوله: (وهم صاغرون) فيتحتم تفسير الصَّغار هنا بالخضوع لا بالذلة والمهانة، ومن معاني الصَّغَار في اللغة: الخضوع، ومنه أطلق (الصغير) على الطفل؛ لأنه يخضع لأبويه، ولمن هو أكبر منه، والمراد بالخضوع حينئذ: الخضوع لسلطان الدولة).[13 ]
رئاسة غير المسلم دولة ذات أغلبية مسلمة
بقيت مسألة تولي غير المسلم لرئاسة الدولة ذات الأغلبية المسلمة، والحقيقة أني تأملت في هذه المسألة في ضوء النصوص القرآنية والنبوية، وفي ضوء فقهنا الإسلامي، ولي فيها رأي، لعل الكثير من القراء لا يتفق فيه معي، وهو:
أن قضية رئاسة الدولة والتصور والتكييف الفقهي للدولة لم يعد كما كان على عهد أسلافنا من الفقهاء القدامى، فليست الدولة القديمة ببساطتها، ومحدودية أركانها، كما أضحت الآن، فهذا التصور الفقهي للدولة المعاصرة لم يعاصره فقهاؤنا القدامى؛ ولذا علينا أن ننتبه إلى أن الاستشهاد بكتب الأسلاف في هذه المسألة لن يسعفنا كثيرا، فكل من سيتناول هذه القضية سيلجأ إلى كتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي، أو للقاضي أبي يعلى، وأقصى ما سمح به أحدهما وهو الماوردي أن قسم الوزارات إلى وزارتين، وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، ولم يبح لغير المسلم من تولي المناصب فيها إلا وزارة التنفيذ، وهي وزارة لا يملك فيها صلاحيات الإنشاء، والإبداع، والحكم المستقل، فالماوردي وكل فقهائنا القدامى أصلوا لعصرهم وزمانهم، فكل واحد منهم خاطب زمانه، وأصل لكل أمر فيه بما يتوافق مع هذا الزمن.
ولنتأمل القضية من حيث النظرة للنصوص، ومن حيث الواقع المعيش، إن النصوص التي تساق لمنع غير المسلم من تولي الرئاسة هي نصوص عامة لم ترد في مقام الرئاسة تحديدا، مثل قوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) [النساء:141].
أما الواقع الذي نعيشه، فهو الآن لم يعد شخصا وحده يحكم، بل هناك مؤسسات كاملة هي التي يناط بها إدارة الدولة، والحاكم ما هو إلا ترس في آلة كبيرة.
في الماضي كانت الإمامة لها دلالة دينية، فالإمام أو الخليفة أو الحاكم هو الذي يؤم الناس في الصلاة، ويقضي بين المتخاصمين، ويقيم الحدود.
ثم رأينا أئمة الماضي من الأسلاف قاموا بتوزيع هذه المهام على موظفين أو عمال في الدولة الإسلامية، فإمامة الصلاة وخطبة الجمعة، خصص لها العلماء والخطباء وأئمة المساجد، وأجريت لهم أوقاف تنفق عليهم، والقضاء بين المتخاصمين، خصص له قضاة يتولون أمره، وإقامة الحدود ترك للسلطة التنفيذية في الدولة، تقوم مقام الحاكم، أي أن كل هؤلاء صاروا نوابا عن الحاكم، ولم يعد للإمام أو الخليفة إلا إدارة الأمور السياسية في البلاد، وأيضا الأمور الحربية تترك لمسئولين عن الحرب، وإن كان قرار الحرب يعود في النهاية للحاكم.
بل حتى الشروط التي وضعها العلماء في الخليفة هي شروط تخاطب حاكما يجمع بين علمي الشريعة والسياسة، فشرط فيه أن يكون من أهل الاجتهاد في الفقه، ومَن من علماء الشريعة الآن في العصر الحديث استكمل شروط الاجتهاد؟! هذا إن بحثنا في إطار علماء الشريعة.
وقد استشهد أحد المتشددين على المفكر الإسلامي أبي الأعلى المودودي حينما أيَّد ترشيح فاطمة خان لرئاسة الجمهورية في باكستان، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فرد عليه المودودي بقوله: وهل يفلح قوم ولوا أمرهم طاغية؟! إشارة إلى أن المطلوب الحاكم العادل أينما توافر ووجد.
وما أراه: أن على كل ذوي التوجهات الإصلاحية في المجتمع السعي إلى دولة المؤسسات التي يصبح فيها الحاكم مجرد منفذ للدستور، وحامي للقانون، وحارس للقيم، بحيث يكون كأشبه بمن يملك ولا يحكم، أو هو ترس في آلة كبيرة هي المؤسسات الحاكمة، لا تتوقف عنده أَزِمَّة الأمور في الدولة، بحيث يصبح الفرد الذي يتصرف في كل أمر، وبيده كل شيء، بيده يعدل أو يظلم، يكبت الحريات أو يهبها.
ونحرص على توافر الضمانات التي تمنع استبداد الحاكم أو ظلمه، والتي تحفظ على الأفراد والمؤسسات حقوقها وصيانتها، وتحفظ على الحاكم مكانته وتعينه على أداء رسالته.
وليترك للشعب قراره، عن طريق صناديق الاقتراع، وليختر من يلبي له مصلحته العامة، ويحفظ عليه كيانه وحضارته وتقدمه، وليرض الجميع بما تأتي به صناديق الاقتراع الحر، الذي لا تشوبه شائبة تزوير ولا تلاعب، وليكن من يكون فتأتي به صناديق الاقتراع، رجلا كان أو امرأة، مسيحيا أو مسلما، أو علمانيا أو ليبراليا، أو كائنا من يكون، المهم: أن نوجد نظاما يلتزم به الجميع، ويشرف على تنفيذه الرئيس المنتخب، ويجد على رقبته سيف رقابة الجماهير، وأعينهم المفتحة، فإن أصاب: شكروه، وإن أخطأ قوموا خطأه عبر قنوات التقويم الشرعية والقانونية.
مصدر هذه الأخطاء
لا شك أن القارئ بعد قراءته لهذه الصفحة من التسامح والتعامل المثالي من الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، تجعله يقف ليتساءل: فلماذا إذن جاءت هذه النظرة الإقصائية لغير المسلمين، والتي شاع فيها الإمعان في نشر صورة تدل على تعمد الإذلال في أدبيات بعض كتابات المسلمين.
وفي رأيي: أن هذه النظرة الإقصائية الخاطئة التي نراها في كتبنا التراثية، وفي بعض السلوكيات المعاصرة نتجت عن عدة أسباب فيمن تولوا التنظير للقضية قديما وحديثا، وهي:
1 ترك المُسلَّمات والعموميات والأصول الإسلامية: فمن الخطأ القاتل الذي وقع فيه كثير من الباحثين: أنه لجأ للمتشابهات، والنصوص الجزئية مهملا كليات الإسلام، والتي قام عليها تشريعه وحضارته، وهي تعتبر أمهات الفضائل، وعوامل وحدة فهم الأمة للإسلام، من قضايا كلية لا يختلف عليها اثنان، من نحو: البر والعدل والمساواة، فيترك العمل بقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: والبر أعلى درجات الخير، والقسط أعلى درجات العدل، ليلجأ إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوهم بالسلام، وضيقوا عليهم في الطرقات" وهو خاص بالحالة الحربية، لا حالة السلم.
2 عدم ربط النصوص بدلالاتها الحقيقية وملابساتها: كما وقع للأسف بعض الباحثين في الاستشهاد بنصوص لم يقف على عللها، ولا أسبابها، ولا دلالات النصوص، كاستشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم عن اليهود: "لا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيق الطرقات" وهو حديث ورد في حالة حرب النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود، ومن دلائل رحمته وسماحته في الحديث: أنه لم يقل: اقتلوهم؛ لأنهم أهل حرب لم يشهروا السلاح.
3 إعطاء الحدث التاريخي حجم النص الشرعي: وهو أمر خطير جدا في الاستدلال الفقهي، والتأصيل الشرعي، وهذا عيب فئة من الكتاب والباحثين: أنهم جعلوا أحداث التاريخ مصدر تفكير، لا موضع تفكير، أو إن شئت قل: مصدر تشريع، فالتطبيق العملي من المسلم ليس تشريعا بحال من الأحوال، ولا يعطي صورة كاملة عن التشريع الإسلامي.
4 إسباغ هالة من التعظيم والتقديس لأصحاب الآراء الفقهية: مع أن الأصل هو النص الشرعي، ورفع سيف اتفاق العلماء، وقول الجمهور في وجه كل مخالف لفكرهم؛ ولذا فرق علماء الإسلام بين أمرين هامين يصيبان دارس الإسلام بالبلبلة والتخبط في تكوين صورة صحيحة عنه وهما: الإسلام، والفكر الإسلامي، فالإسلام هو وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والفكر الإسلامي: هو فهم المسلمين لنصوص الإسلام من القرآن والسنة النبوية المطهرة، فالملاحظ أن كل ما ورد في هذه القضية من سوء فهم لمبدأ المواطنة معظمه نابع من كتب الفكر الإسلامي، وتطبيقات الحُكَّام، ولا نراه موجودا البتة في مصدري الإسلام المعصومين: القرآن والسنة.
ولنتأمل قضية واحدة من أهم القضايا التي تثار، وهي قضية بناء الكنائس، ولننظر إلى حيرة الباحث المسلم الذي يريد أن يصدر رأيا، سيرى تقسيم الفقهاء إلى البلاد التي فتحت عنوة، والبلاد التي فتحت صلحا، والبلاد التي مَصَّرَها (أي أنشأها وعمرها) المسلمون، وأنه بناء على هذا التقسيم يجوز للنصارى أن يجددوا كنائسهم أو ينشئوا كنائس جديدة أم لا.
وهي أحكام بنيت في معظمها على رد الفعل من غير المسلمين، أو بناء على أفعال صدرت منهم جعلت الريبة في الحكم تسود أحكامهم وأفكارهم، على خلاف عالمين مصريين عاشا في ظل مفهوم المواطنة، وتعاملا مع قضية بناء الكنائس وتجديدها بهذا المبدأ، وهما: الفقيه المصري: الإمام الليث بن سعد الذي يعد من أئمة المذاهب لا يقل علما عن مالك وأبي حنيفة، وعاصر مالكا، وكان بينهما مراسلات، والآخر عالم محدث مصري: عبد الله بن لهيعة، رأيهما في بناء الكنائس من أنضج الآراء؛ إذ يقولان: إن بناء كنائس النصارى، هو داخل في عمارة دار الإسلام.[14 ]
5 ضلوع بعض غير المسلمين في حوادث خيانة للدولة الإسلامية: مما جعل الحذر يقدم على حسن الظن، وبذلك يلجأ الفقيه المسلم إلى مبدأ سد الذرائع، أو ما يعلنه الفقهاء من القواعد مثل قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فدرء مفسدة الخيانة والإتيان من قبل غير المسلمين، يقدم على توليهم مناصب، أو إعطائهم الثقة الكاملة التي تجرهم إلى عدم الأمان!!.
6 تدليل بعض الحكام للأقلية على حساب الأغلبية: كما أن من الأسباب المهمة حَيْف بعض حكام المسلمين بين الرعية، وميلهم إلى طبقة غير المسلمين وتدليلهم تدليلا زائدا عن المعقول، مما يوغر صدور المسلمين، ويتسبب في حالة احتقان بين المواطنين، حتى قرأنا للحسن بن خاقان الشاعر المصري الساخر قوله:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
المال فيهم والعز عندهم ومنهم المستشار والملك
يا شعب مصر إني نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك!! [15 ]
7 إرث الحقد التاريخي: في ممارسات غير المسلمين مع المسلمين في البلاد التي خرج منها الإسلام، كالأندلس (إسبانيا) مثلا، فقد خرج الإسلام منها على يد المسيحيين، وما تم بعد الطرد من محاكم للتفتيش، وتضييق على المسلمين في عبادتهم، ثم بعد ذلك تنصيرهم، وإجبارهم على ترك دينهم. [16 ]
(1) انظر: مجموعة الوثائق السياسية ص 41-47 بتصرف.
(2) انظر: السيرة النبوية للدكتور محمد علي الصلابي (1/571).
(3) انظر: نظام الحكم لظافر القاسمي (1/37).
(4) انظر: وثيقة المدينة .. المضمون والدلالة للأستاذ أحمد قائد الشعيبي ص 209.
(5) في وجود أبي لؤلؤة المجوسي في المدينة المنورة دليل على دفع ما يثار حول عمر بن الخطاب من أنه استأصل غير المسلمين، وأزالهم من الجزيرة العربية تماما، والمعلوم أن أبا لؤلؤة غير مسلم.
(6) انظر: فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي (2/710).
(7) انظر: المصدر السابق.
(8) الرسالة القبرصية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص22. نقلا عن: ابن تيمية للعلامة الشيخ محمد أبي زهرة ص384.
(9) انظر: مقال (الإسلام والجزية) للعلامة الشبلي المنشور في مجلة (المنار) في العدد (44) من السنة الأولى الصادر في 9من رمضان سنة 1316ه 21من يناير سنة 1899م.
(10) انظر: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ص75

(11)انظر: krauss: Talmudische Archaeologie,II,S.89 نقلا عن المصدر السابق.
(12) انظر: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لآدم متز ص74.
(13) انظر: نظام السلم والحرب في الإسلام للدكتور مصطفى السباعي ص43،42 طبعة المكتب الإسلامي ببيروت.
(14) انظر: تاريخ مصر وولاتها للكندي ص131. نقلا عن: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري للمستشرق الألماني آدم متز ص69.
(15) انظر: المصدر السابق.
(16) يراجع في بعض هذه الأسباب الكتاب الماتع (مواطنون لا ذميون) للأستاذ فهمي هويدي.

باحث شرعي مصري مقيم في قطر، يمكنك التواصل معه على البريد الإليكتروني: [email protected]
إسلام أون لاين.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.