بقلم: برهان بسيس ثلاثمائة قتيل ومائتا ألف نازح تلك هي حصيلة الانتخابات الرئاسية الكينيّة. كما يبدو فإن الانتخاب والتداول والعملية الديمقراطية في مثل هذه المجتمعات هي رديف للحرب والفتنة. وهي بالتأكيد معادلة مزعجة لكل المدافعين عن نضج كل المجتمعات جمعا ومطلقا لعملية الانتقال الديمقراطي باسم عالمية النموذج وانسانية التوق نحو قالب واحد من الممارسة السياسية تحول إلى ديانة مقدسة بفرائض وسنن منها الانتخاب وصندوق الاقتراع والتداول. ستذهب بعض الآراء مباشرة إلى اعتبار هذه الانطباعات تكريس لمقاربة الاستبداد ومعاداة الديمقراطية وقيم التحرريّة السياسية لكن الرأي عندي أن الخدمة الحقيقية للاستبداد هي تلك التي ستتهين بالشروط العلمية والموضوعية لأي تغيير ديمقراطي ناجح تتوفر له عناصر التهيئة العميقة في الاقتصاد والثقافة والمجتمع. آخر التقارير الأمميّة الصادرة حول حالات الانتقال الديمقراطي وآلياتها الموضوعية حددت لهذه العملية من الشروط أن يتجاوز معدل الدخل السنوي الفردي في مجتمعات التحول نحو الديمقراطية سقف الستة آلاف دولار. حددت هذه التقارير بلدان مثل الارجنتين والشيلي والبرتغال كنماذج للاقتراب من ملء هذه الشروط. والمسألة لا تتوقف طبعا في الرابط القوي بين الديمقراطية والتنمية حيث لا ديمقراطية مع نظام تعاقد حول الفقر والمرض والأميّة تتحول ديمقراطيته إلى آلية توزيع عادل للفقر والآفات الاجتماعية، إن الرهان يستدعي استنطاق عوامل الثقافة وعقائد المجتمع تلك التي تتبادل التأثير مع واقع التنمية لتنتج إما انسجاما مع المطلب الديمقراطي أو استعصاء قويا تجاهه يدفعه إلى مربع الاستحالة مهما تحمّست النوايا وتدافعت الطموحات. الحالة الكينيّة لبلد افريقي متطور نسبيا مقارنة ببقية بلدان القارة جنوب الصحراء تؤكد سطحية التعلق القدسي لبعض المتحمسين لمشاريع التحول الديمقراطي بالمقدمات الشكلية لهذه المشاريع، تلك التي تختزل العملية في واجهتها الديكوريّة بتفاصيل حرية الترشح وحملة الدعاية وصندوق الاقتراع، هاهي كينيا المتقدمة إلى الانتخابات في احترام تقني ممتاز لكل فرائضها الشكلية تستعيض عن مهرجان التداول الديمقراطي بمشهد سكاكين القبائل ودمويّة كرنفالات الحروب الأهليّة. لا أخرج كينيا من جيبي لأضعها في حضرة الترهيب من الاقتراب من طموح الانتقال الديمقراطي ولكن لأدعو الفاعلين والطّامحين إلى الابتعاد عن المسلمات السطحيّة التي تحنّط مشروعا حيويا مثل مشروع التحررية السياسية في قوالب جاهزة بسيطة سواء تحمسا لهذا المشروع أو رفضا له. الآن وهنا، نحن العرب والمسلمون، أبناء عمومة افريقيا التي لا نتجاوزها سوى ببعض الصبر على تنميتنا المعطّلة وأميّتنا الصامدة والكثير من أشواق الاصلاح والذهاب إلى الافضل علينا أن نعمّق تفكيرنا في آلية الانتقال الديمقراطي المطلوب دون أن يكون تأجيلا أبديّا ولكن دون أن يكون سطحية مخلّة تجرّ وراءها كل أنواع المزالق. الآن وهنا لو انتصب صندوق الاقتراع الشفّاف والحرّ من كراتشي إلى الخرطوم وصولا إلى نواديبو ودار السلام ليتقدم ابن رشد ببرنامجه إلى الجماهير المسلمة وابن لادن بمشروعه إلى نفس الجماهير. قلبي يدق خوفا من نتائج هذا الاقتراع!!! علينا المجاهدة من أجل تغيير واقع الآن وهنا قبل المرور إلى لعبة الصندوق المسليّة... والمخيفة!!! بقلم: برهان بسيس