مراكز المهاجرين السريين في إيطاليا، عالم يموج بقصص ومآسي المئات من الجنسيات العربية والأفريقية الذين فروا من قسوة الحياة في بلادهم بحثا عن حياة أفضل. فالأمل في حياة جديدة كان زادا لهم تحول إلى سراب بعد أن تزايدت موجات الهجرة السرية وباتت تشكل خطورة على الأمن الإيطالي. لذلك توسعت السلطات الإيطالية في بناء مراكز احتجاز ليصبح عددها 14 مركزا في مختلف مدن البلاد بعد أن كان منذ عشر سنوات ثلاثة فقط في روماوميلانو وتورينو. وتنقسم هذه المراكز إلى ثلاثة أنواع، الأول لاستقبال المهاجرين السريين ويحمل اسم CPA، وعددها خمسة مراكز في جنوب البلاد بمدن باري, وكالتانيسيتا, وفودجا, وسيراكوزا, ولامبيدوزا. والنوع الثاني هو مراكز CID وعددها أربعة تتواجد بمدن ميلانو, وكروتوني, وفودجا, وتراباني وتتكفل بالمهاجرين غير الشرعيين طالبي اللجوء السياسي. أما النوع الثالث فأطلق عليه CPT وهي مراكز للإقامة المؤقتة، ويتم فيها تحديد هوية وجنسية المهاجر غير الشرعي تمهيدا لترحيله إلى بلده الأصلي. ووفقا لقانون الهجرة الجديد في إيطاليا تم رفع مدة الحجز إلى 18 شهرا بدلا من شهرين في القانون القديم. زيارة خاصة هذه أول زيارة لمطبوعة عربية إلى هذه المراكز، وتحديدا إلى مركز برونوليسكي في تورينو. وكان في انتظارها بمركز تجميع المهاجرين في برونوليسكي بتورينو مسؤولة الإعلام بوزارة الداخلية دوناتيلا جونتي قبل الموعد المحدد, لأنها كانت شغوفة "للتعرف على أول صحفي يمثل وسيلة إعلامية عربية يلج إلى مثل هذه المراكز بإيطاليا" حسب قولها. ويبدو أن حرس المركز من رجال الشرطة التابعين لوزارة الداخلية والجنود التابعين لوزارة الدفاع تلقوا تعليمات بتنفيذ ترتيبات أمنية خاصة تحسبا لأي طارئ, أو أحداث شغب بالمركز خصوصا في ظل زيارة ممثل أول جريدة عربية، وغالبية المحجوزين عرب من شمال أفريقيا. كما يبدو أن الكل كان مستعدا لهذه الزيارة, وبصفة خاصة عند البوابة الحديدية للمركز التي فتحت على مصراعيها بمجرد ذكر اسم دجونتي. حفاوة باللغة العربية قبل أن أدخل في حديث مع دجونتي عن تفاصيل القوانين الجديدة التي اعتمدتها وزارة الداخلية الإيطالية للتضييق على المهاجرين غير الشرعيين، خرج إلينا مدير المركز ليستقبلنا بترحاب كبير وحفاوة بالغة ودعانا إلى أحد مكاتب المركز للحديث عن تفاصيل العمل به. وبدأ حديثه بتحية الإسلام وهي "السلام عليكم" - قالها باللغة العربية، وكأنه يريد أن يقول إنه بحكم تعامله مدة طويلة مع المهاجرين غير الشرعيين العرب أصبح ملما بلغتهم. وأكمل حديثه "أنا المسؤول عن هذا المركز وأعمل ضمن منظمة الصليب الأحمر الدولي التي وكلت إليها مهمة تسيير هذه المراكز بإيطاليا". الواجبات والحقوق وبدأت في طرح أسئلتي على المدير وعلى مسؤول تابع للشرطة الإقليمية بتورينو، وعلى المسؤولة الإعلامية بوزارة الداخلية وأخرى بوزارة العدل. وكان المدير سباقا في الرد على أغلب الأسئلة، وقال "أول شيء نقوم به في هذا المركز هو تعريف المهاجر غير الشرعي بمعلومات ووثائق بلغته الأصلية توضح له حقوقه وواجباته والنظام المتبع لدينا, إضافة إلى بعض التفاصيل التي تتعلق بالوجبات الغذائية التي نحاول جاهدين أن تكون مطابقة للمواصفات الثقافية والدينية وحتى الصحية له. وقبل أن يكمل مدير المركز جوابه قاطعته المسؤولة الإعلامية التابعة لوزارة الداخلية قائلة "لدينا خدمات أخرى قضائية وقانونية كمنح النزيل استشارات أو توكيل محام لصالحه بالمجان حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه أثناء جلسته أمام القاضي. كما نمنح النزيل خدمات طبية ونمكنه من أداء شعائره الدينية مع تخصيص لقاءات خاصة برجال الدين سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو من ديانات أخرى. أسئلة محرجة وكنت ألاحظ أن كل واحد من المجتمعين لم يتوصل للإجابة عن أسئلتي يتدخل الآخر لإنقاذه تفاديا لإمكانية التفوه بمعلومات قد تضر بصورة المركز وبإيطاليا بشكل عام. فقد سألت المدير المسؤول عن المركز عن سبب منع المعتقلين من استعمال جوالات مزودة بكاميرا, فأجاب بتلعثم "هذا أمر يتعلق باحترام التعليمات والقوانين التي تصلنا من وزارة الداخلية". إلا أن المسؤولة الإعلامية تدخلت لتنقذه وقالت "إن هذه الجوالات ضد قانون الحرية الشخصية, ونخشى أن يتعمد نزيل تصوير زميله وإرسال صورته إلى جهات خارجية قد تستعملها لتحقيق أغراض شخصية. 35% من النزلاء عرب وأحس المدير بنوع من الارتياح للباقة المسؤولة الإعلامية, لكنه كان محرجا لعدم تمكنه من الإجابة على سؤالي ومتخوفا بالتالي من سؤال آخر ليبادرني قائلا "المركز يتسع لأكثر من 90 نزيلا ويضم حاليا 19 امرأة و 57 رجلا غالبيتهم عرب من شمال أفريقيا، وأظن أن نسبتهم تصل إلى 35 % من النزلاء". وأضاف "نحن نحترم كذلك النزلاء المسلمين بعدم تقديم وجبات غذائية تحتوي على لحم الخنزير، مع تقديم أطباق ووجبات خاصة في رمضان إضافة إلى تخصيص أماكن لإقامة الصلاة". أوقفته عن الكلام قبل أن يسترسل وأكدت له أنني علمت أن معتقلي المركز من المسلمين أضربوا قبل أيام احتجاجا على تقديم إدارة المركز طعاما به لحم الخنزير. تلعثم المدير بشكل واضح وظهر عليه الارتباك قبل أن يجيب "لا هذا لم يحدث ونحن لا نقدم أطعمة بها لحم الخنزير في هذا المركز". وقدم لي وثيقة بأصناف الأطباق التي تقدم للمعتقلين حتى أطلع عليها. مراحل الاعتقال وحول المراحل التي يمر بها المعتقل في المركز، قال المدير "بعد تسلمنا المهاجر السري من السلطات الأمنية ندخله كمرحلة أولى إلى هذا المكتب لنستمع إليه ونعرف بعض التفاصيل منه حول وضعه الصحي وانتمائه الثقافي وجنسيته حتى نضعه في المكان المناسب ونوفر له كل الحاجيات التي يرغب فيها من مأكل وملبس وحاجيات أخرى". وتابع، بعد ذلك نعرضه على الطبيب ونسلمه ملابس وأغراضا أخرى، ونمنحه سريرا في غرفة تضم خمسة أشخاص, وبعد يومين تعقد له جلسة أمام القاضي في حضور محام ومترجم بالمجان للاستماع إلى أقواله. محتويات المركز يتكون المركز من طابقين أرضي يضم مكتب القاضي ومكاتب الأمن وأخرى تابعة للصليب الأحمر، وطابق علوي يضم مكاتب لتجميع الوثائق ومخازن خاصة بالملابس وأغراضا أخرى يحتاج إليها المعتقلون. وراء المبنى الرئيسي للمركز يقيم المعتقلون من المهاجرين السريين خلف قضبان حديدية عالية في شكل يفند ما قاله مدير المركز من أن المركز ليس سجنا بل هو مؤسسة لاستقبال المهاجرين السريين فقط. حكايات عربية كان منظرا مؤلما أن أشاهد محجوزين وراء قضبان، فقط لأنهم قرروا الهروب من البؤس بحثا عن آفاق أخرى وعن الحق في الحياة والوجود. وكانت بالتالي نظرات المهاجرين غير الشرعيين تحكي كل شيء وتبرز أن الحرية والحق في الحياة التي يدعيها الغرب مجرد وهم وسراب. سمعت حديثا باللغة الغربية بين مجموعة من المعتقلين العرب, فقررت الاقتراب منهم لأستفسر عن الأوضاع داخل هذه المؤسسة. فقال لي مهاجر تونسي في العشرينات من عمره ودموعه على خده "لقد توفي والدي في تونس وطلبت من المسؤولين بهذه المؤسسة أن يرحلوني لأنني منحتهم جميع الوثائق التي تدل على هويتي وجنسيتي, لكنهم رفضوا ذلك ربما لتعذيبي حتى لا أعود مرة أخرى إلى إيطاليا. وأضاف "لم أكن أتوقع أن أجد دولة غربية تعامل الإنسان بهذا الشكل غير الإنساني، وتعتبر العرب المسلمين وكل من له لون وثقافة مختلفة ينتمي إلى عالم أقل من عالمهم. بجانب المواطن التونسي كان يقف مغربي في الثلاثينات من عمره, حاول أن يخفف عن زميله بأن ربت على كتفه قائلا "الله موجود وإن بعد العسر يسرا". والتفت وقال لي "لقد صرفت أكثر من 8 آلاف يورو للوصول إلى إيطاليا وبعد قضاء أكثر من سنة بها بدون فائدة ولا عمل أجد نفسي بهذا المركز الحقير أعامل كأسير بجوانتانامو, طعام رديء، غرف متسخة ننام فيها ومعاملة سيئة". نساء عربيات في الجانب الأخر من المركز كنت أسمع أصواتا نسائية عربية تنادي علي لأقترب منهن وأسمع معاناتهن في هذا المركز. اقتربت ببطء لأكتشف أنهن مغربيات غالبيتهن في العشرينيات. وقالت لي إحداهن وبمرارة "لا أعرف سبب تواجدي بهذا المركز، لماذا لا تتحرك الدول العربية ومنظماتها الحقوقية لإنقاذنا ووقف هذه العنصرية بحقنا؟, لقد هاجرت إلى إيطاليا للعمل ومساعدة أسرتي والبحث عن آفاق جديدة لم أجدها في بلدي, ولم آت من أجل أن أعتقل". تورينو: عبدالمجيد السباوي