فيديو : المجر سترفع في منح طلبة تونس من 200 إلى 250 منحة    عاجل : وزير الخارجية المجري يطلب من الاتحاد الأوروبي عدم التدخل في السياسة الداخلية لتونس    التونسيون يستهلكون 30 ألف طن من هذا المنتوج شهريا..    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    عاجل : تأجيل قضية رضا شرف الدين    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    رئيس الجمهورية يلتقي وزير الشؤون الخارجية والتجارة المجري    الرابطة الثانية: برنامج مباريات الجولة الثامنة إيابا    عاجل/ حادثة إطلاق النار على سكّان منزل في زرمدين: تفاصيل ومعطيات جديدة..    إصابة عضو مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس بكسر    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    %9 حصّة السياحة البديلة.. اختراق ناعم للسوق    الحماية المدنية: 17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    عاجل/ تعزيزات أمنية في حي النور بصفاقس بعد استيلاء مهاجرين أفارقة على أحد المباني..    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    نشرة متابعة: أمطار رعدية وغزيرة يوم الثلاثاء    تعرّض سائق تاكسي الى براكاج في سوسة أدى إلى بتر إصبعيه    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    17 قتيلا و295 مصابا في ال 24 ساعة الماضية    منوبة: تقدّم ّأشغال بناء المدرسة الإعدادية ببرج التومي بالبطان    الخارجية الإيرانية تعلّق على الاحتجاجات المناصرة لغزة في الجامعات الأمريكية    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    كاتب فلسطيني أسير يفوز بجائزة 'بوكر'    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة النور ج1/4: الاستاذ : حسن الطرابلسي
نشر في الفجر نيوز يوم 31 - 10 - 2008


الفجرنيوز خاص www.alfajrnews.net
رحلة النور
الاستاذ : حسن الطرابلسي
الحج التاريخ الذاكرة
الحج فريضة شرعية ومحطة عمرية تربط الإنسان بربه وتربط الماضي بالحاضر ، لا للعودة إليه والوقوف عنده والتغني به وإنما إلى الإنطلاق منه نحو المستقبل والعبرة وإلى الإتجاه إلى الله لتجديد مسيرة الإنسان نحو خالقه "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه" . هذا الركن الإسلامي فرضه الله على عباده مرة في العمر على الأقل لمن استطاع إليه سبيلا، ويكمل بذلك أركان الإسلام الخمسة. الحج هو عبارة عن ملتقى عالمي ، مؤتمر عالمي، يجتمع فيه المسلمون من كل أصقاع الأرض ملبين نداءا واحدا دوى منذ أن أذن إبراهيم عليه السلام للناس بالحج، ويجتمعون ليشهدوا منافع لهم وليلتقوا مع ربّهم ، ويجددوا دينهم الذي ارتضى لهم.
وتُعلّمنا كتب التاريخ والسير أن أغلب الأنبياء زاروا البيت الحرام إما لحجّ او لعمرة، فأنبياء الله هود ولوط ويونس بن متى وموسى بن عمران عليهم السلام كلهم زار البيت الحرام. وكان عيسى عليه السلام في خاتمة القافلة المباركة.
وإني لا أطمح في هذاه الصفحات أن أتحدث عن الحج وأحكامه وأهدافه واهميّته، برغم ما لذلك من أهمية، وإنما أريد أن أدوّن في هذه الورقات ملاحظات شخصية وتجربة خاصّة عشتها أثناء آداء هذه الفريضة، حاولت أن أدوّن فيها بعض المحطّات المهمة التي أثرت فيّ بشكل مباشر وعميق، وقد حاولت في بعض الأحيان تأويل هذه اللّحظات بشكل حضاري فكري عساه يلقي ضوءا جديدا غفل عنه أصحاب السير الذاتية لرحلة الحج.
إذا فهدفي ليس دراسة فقهية لأحكام الحجّ فذلك مبسوط في كتب الفقه وهي كتب لا تعدمها المكتبة الإسلامية وهي كذلك ليست سيرة تتحدّث عن لحظات كرونولوجية متتابعة قد تصل درجة الرتابة لأنّها تصف الأماكن وتتحدث عن الحل والترحال وإنما هي أكثر من ذلك، إنها قراءة ومحاولة للفهم لهذا الفرض الرباني. قراءة للفريضة ككلّ، كيف هي؟ وكيف يمكن أن أنظر إليها؟ أو بالأحرى كيف عشتها؟ وتفاعلت معها؟ وهي أيضا محاولة لفهم روح هذه الفريضة أو فلسفتها العامة؟ فالحج استطاع أن يجمع بين الماضي باعتباره حافظا لذاكرة مليئة بالعبر والمواعظ (إبراهيم عليه السلام ، وبناء البيت ومن تبعه من الأنبياء والصالحين) وبين الحاضر بما هو إجتماع إسلامي عام وباعتباره شاهدا على الوحدة الإسلامية "المفقودة عمليا" والموجودة موضوعيا، كما مثلت هذه الفريضة أهم محطة تلتقي فيها الإثنيات العرقية على هدف واحد ولتؤكد على بعد مهم وهو اللقاء تحت سقف واحد وهدف واحد وأمل واحد، وهو الأمل في الوصول إلى القبول والعودة بالفوز المأمول، ومن هنا يغدوا الحج إشراقة على المستقبل وانفتاحا على إمكانيته المتعددة.
ثمّ إني اخترت من حيث المنهج أن أترك كل محطة وصفتها وزرتها فقرة مستقلة بذاتها وأردت أن يعيشها القارئ كما هي: مستقلة كوحدة معنوية، ومستقلة كتجربة حياتية عشتها في تلك الفترة. وهو ما جعلني في بعض الأحيان ناقدا وأحيانا أخرى مباركا وأحيانا كثيرة محايدا لا أجامل ولا أعادي.
قبل البداية
أواخر سنة 2002 نظمت جمعية المهاجرين التونسيين بألمانيا لقاءا سنويا كنت أحد ضيوفه، وعلى هامش هذا اللقاء دعاني الدكتور أحمد الخليفة (أبو أيمن) مسؤول مكتب الدعوة للتجمع الإسلامي في ألمانيا وهمس في أذني قائلا: هل تريد أن تحج؟ أجبته على الفور: طبعا ومن لا يحب ذلك ولكن ظروفي المادية هذا العام لا تسمح؟ قال بابتسامة: وهل سألت عن ظروفك المالية؟ إنما أريد أن أعرف هل تريد الحج أم لا؟ قلت: نعم ، قال: أحضر لي في أقرب وقت ممكن جواز سفرك مرفوقا بصورتين وسوف نرى؟ قلت في ما بين التعجب واللهفة: ماذا هناك؟ ما الخبر؟ كيف ذلك؟ قال هاتي جوازك مع الصور وستعرف كل شيء، ثم ابتسم ولعله لاحظ الدهشة البادية على وجهي وقال: هناك دعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله لعدد من الضيوف من أروبا وأمريكا والندوة العالمية للشباب الإسلامي تشرف على هذه الدعوة. فقلت: الآن أخرجتني من حيرتي، وعلمت أن الأمر جدّ.
ثم قدمت له بعد يوم أو يومين جوازي مع الصور فوعدني بإرسالها إلى السفارة السعودية من أجل الحصول على التاشيرة. وما علينا الآن إلا أن ننتظر الإجابة. وسألته أأستعد للرحلة من الآن؟ فقال: لست أدري علينا أن ننتظر حتى نحصل على التأشيرة. فراودني هاجس من الخوف أن لا أحصل على التأشيرة ولكني توكلت على الله ودعوته التوفيق وعدت إلى بيتي وحدثت زوجتي بالموضوع ولكن لم يستقرّ لنا أي قرار لأن الأمر لم يكن حاسما.
ثم أنشغلت بشؤوني الخاصة إذ كنت أزمع التنقل من مدينة ريجنزبوج، حيث أنهيت دراستي الجامعية هناك، إلى مدينة ميونيخ حتى أبدأ بحث الدكتوراه في الفلسفة وعلم الإجتماع وكذلك حتى يتسنى لزوجتي مواصلة دراستها في تخصصها الموجود في مدينة ميونيخ وحتى تكون قريبة من وأهلها وأمّها هناك.
ومرّ حوالي أسبوع كنت منشغلا فيها بالنقلة وفي يوم الجمعة مساء حوالي الساعة السابعة والنصف ليلا رنّ جرس نقالي فأخذته فإذا به رقم الدكتور أحمد الخليفة فاستبشرت وخفت في نفس الوقت. استبشرت لأني عزمت على الذهاب إلى الحج، وخفت أن لا تسهل المقادير، ولكن فتحت الهاتف فإذا به يعلمني أن السفر سيكون غدا على الساعة العاشرة ليلا من مطار فرانكفورت. ورغم الفرح العظيم الذي اعتراني إلا أني أجبته: غدا مساء قال: نعم غدا مساء، فقلت له: ولكنّي لم أعد نفسي وأنا الآن أنقل أدباشي من مدينة لأخرى. فقال: حاول أن تنهي ذلك الليلة.
اتصلت بزوجتي التي سبقتني إلى ميونيخ وأعلمتها بالخبر فاستبشرت وفرحت هي وعائلتها، وبدأت تعد لي على عجل ما خف وطاب أتزوّد به في الرحلة.
وفعلا حرصت على أن اسافر ليلتي تلك إلى مدينة ميونيخ ويسر الله بالإستعانة بعدد من الأصدقاء أن أنهي الجزء الأكبر من العمل ولم يبقى إلا القليل الذي قررت أن أنقله بعد العودة.
وفي الغد سافرت إلى مدينة فرانكفورت ومن هناك إلى مطار جدة الدولي حيث استقبلنا الإخوة من الندوة العالمية للشباب الإسلامي الذين رافقونا بعد ان أنهينا إجراءات المطار بسرعة إلى مكة المكرمة حيث النزل الذي سنقيم فيه. كان النزل جديدا، فخما، لا تزال بعض أجزائه في طور البناء ويبدوا أننا كنا أول نزلائه لأن كل ما كان فيه جديدا ومرتبا بعناية. واستقبلنا الإخوة من إدارة الندوة بحفاوة بالغة وترحيب واحترام وكان على رأس المستقبلين أبو فراس وهو أحد الأخوة الفضلاء ورئيس لجنة الإستقبال فيما أعتقد. أعدّ لنا الإخوة برنامجا يوميا دقيقا، يبدا من صلاة الصبح ويتواصل إلى آخر الليل أي صلاة العشاء، وسنعود إلى الحديث عن هذا البرناج في فصل خاص.
وبحكم أننا وصلنا في وسط النهار قررنا أن نذهب مباشرة لنؤدي عمرة ولنستريح بعد ذلك، وفعلا فلقد انطلقنا مباشرة إلى الحرم. وأول ما شاهدت في الحرم المسجد الحرام، وكان ضخما، رائعا، مهيبا، انبهرت ببنائه وشموخه، كما تعجبت من العدد الهائل للحجيج الذين يحيطون به. ورغم أنني سمعت كثيرا عن العدد الهائل لزوار بيت الله ولكن لم تكن تلك الصورة المشكلة في مخيّلتي كالصورة التي رٍايتها أمامي، ذاك ان الذي أراه أمامي لا أستطيع أن أصفه فلقد اعترتني حالة من الإنبهار والإعجاب المنقطعة النظير وبدأت أستجمع ما حفظته من أدعية مأثورة وأتلوا ما تيسّر لي في تلك الحالة، ثمّ اخذت أتقدم وأبحث عن باب السلام باعتباره المدخل الذي كنت وصديقيّ عم الهادي وفتحي، اللذين كانا رفيقيّ في الرحلة، نريد الدخول منه، ولكن لكثرة الزوار، أعلمنا المنظمون أنّ الدخول منه غير ممكن فلنبحث لنا عن باب آخر وبعد نبحث طويل يسّر الله لنا الدخول من باب عمر ولكننا اتجهنا إلى حيث باب السلام تأسّيا بالسنة، ثم بدأنا نتقدّم متجهين إلى الكعبة للسلام عليها ولرؤيتها.
برنامج يومي
أعدّ الإخوة في الندوة العالمية للشباب الإسلامي برنامجا يوميا متنوّعا يشتمل محاضرات وزيارات لأماكن معينة، مثل زيارة منى قبل فترة الحج، ومزدلفة وعرفات، ثمّ في المدينة المنوّرة زيارة مجمّع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم ومسجد قباء... وفي هذا الفصل أحاول أن اقدّم ملخّصا موجزا لبرنامج النشاط اليومي الذي أعدّه الإخوة.
يبدأ اليوم بالإستعداد لصلاة الصبح في المسجد الحرام، وبحكم أن سكننا كان في منطقة العزيزية وهي تبعد عن الحرم حوالي خمس كيلومترات أعد الإخوة من الندوة لضيوف خادم الحرمين الشريفين ست حافلات مكيفة ومجهّزة أحسن تجهيز، وكانت حافلة مجموعة ألمانيا تحمل العدد ستة. بعد الوضوء ننزل إلى حافلتنا ونتوجه إلى الحرم حيث نصل هناك قبل الآذان بحوالي نصف الساعة ونصعد مباشرة إلى الطابق العلوي، لأننا حاولنا في الأيام الأولى أن نصلّي في الدور الأرضي أو الطابق الأول ولكن لم يتيسر ذلك لأنها كانت قد ملئت وأصبحت غير قادرة على استيعاب المزيد.
كانت الصلاة في الطابق العلوي مريحة جدا فالأماكن متوفّرة والنسيم رقيق ولطيف ومنعش يبعث على الحيوية والنشاط فيزيل كل بقايا النوم العالقة في الجفون، كما أنه كان يتيح لي فرصة الإشراف على الحرم كله، فأشاهد جموع الحجيج وهي تطوف بالبيت وتلبي وتسأل الله، فيزيدني ذلك المشهد رهبة وروعة وخشوعا. كما يمكن لي من سطح الحرم أن أرى الكعبة الشريفة من فوق وأتمتّع بجلالها وبهائها. في نفس الوقت كان العديد من الحجيج يستغلّون المكان لأخذ صور تذكارية للكعبة، فكنت ترى بين الفينة والفينة أحدهم يخرج نقاله ليأخذ صورة من هذه الزاوية أو تلك، ثم يعود ليخفيه بسرعة خوفا من عين الرقيب.
ويرفع الآذان فأصلّي ثمّ أتجه وصدقيّ فتحي وعم الهادي، في أغلب الأحيان، إلى الطابق الأرضي للطواف بعد أن يخفّ الناس إثر الصلاة. بعد نهاية الطواف الذي ننهيه حوالي الساعة الثامنة تقريبا، تبدأ رحلة الخروج البطيئة من الحرم لنلتقي أمامه بجانب نزل أجياد حيث نجد الحافلات في أنتظارنا فنعود إلى النزل. وعند وصولنا هناك نجد طعام الفطور وقهوة الصباح جاهزة. بعد الإفطار ترك لنا الإخوة فقرة حرّة إلى حدود صلاة الظهر. هذه الفترة يستغلّها كلّ حسب اهتمامه فهناك من يذهب إلى التسوّق، وهناك من يذهب لزيارة بعض الأماكن في مكة المكرمة وهناك من يذهب لأخذ قسط من الراحة.
يؤذّن لصلاة الظهر فنؤدّيها جماعة ويكون تقريبا كل ضيوف الندوة البالغ عددهم حوالي الأربعمائة موجودون، بعد الصلاة مباشرة عادة ما يذكّرنا الأخ أبو فراس ببرنامج اليوم ويدعونا إلى محاضرة تلقى في وقت العصر، ثمّ نتوجّه إلى طعام الغداء والقيلولة. عند العصر تبدأ محاضرة في أحد الموضوعات العامة أو المتعلّقة بالحج. وقد حرص الإخوة من الندوة على دعوة العديد من المحاضرين الأكفاء للحوار معهم والإستماع إليهم وأذكر من هؤلاء الضيوف الشيخ سلمان العودة الذي ألقى محاضرة نالت إعجاب الجميع.
كما أذكر أن أحد المدرّسين لعلوم الحديث من الجامعة الإسلامية بمكة المكرّمة، نسيت اسمه للأسف، ألقى محاضرة رائعة نالت إعجابي. بعد نهاية المحاضرة أخرج أنا وفتحي وعم الهادي إلى الحرم ونبقى هناك حتى نصلي العشاء ونعود بعدها إلى النزل وتناول العشاء وبداية فقرة حرة عادة ما تدوم إلى منتصف الليل يقضيها الإخوة في سمر منعش وتزاور أو يستغلّها البعض للإتصال بالعائلة أو لجولة في مكة للتمتع بنسمات الليل اللطيفة.
الكعبة البيت المبارك
كان الشوق يهزني، والحنين يغمرني، وأحس أن الأرض لا تتسع لي، فكأني أحلق في الفضاء، وأنا أتقدّم رويدا رويدا حتى أراها لأوّل مرة في حياتي، وأمتع ناظريّ بجمالها، وروعة بهائها، وحسن بنائها، ودقة تموقعها… كنت كالطفل الذي يحن إلى ذراع أمه تحضنه فيلقي بنفسه بين ذراعيها فتغمره بحنانها وتضمه إلى صدرها دافعة عنه صر وف الزمان، فتدفئه بحبها، وترق عليه بعطفها، فتعيد إليه سكونه وهدوئه… هكذا كان شعوري وأنا أشق الحشود الغفيرة التي أتت من كل حدب وصوب لنفس الهدف لرؤيتها والتمتع بها والإستئناس بقربها، والصلاة في حجرها. هذه الجماهير العريضة بل الملايين المتراصة أتت ملبية لنفس النداء الخالد الذي وجهه لها إبراهيم عليه السلام منذ أن جاءه الأمر الحاسم "وَأَذّنْ في النَّاس بالحَجّ يَاتُوكَ رجَالا وَعَلَى كلّ ضَامر يَأتينَ منْ كُل فَج عَميق"
تلك هي الكعبة، البيت المعمور، أول بيت وضع للناس، البيت المبارك، قبلة المسلمين، قلب الأرض ومحورها، هي البيت الذي شرفه الله وأكرمه، ودعا العالمين منذ إبراهيم عليه السلام لزيارته والحج إليه، والصلاة فيه، والطواف به، وتقبيل الحجر الأسود عنده.
عندما رأيتها أحسست بالإنبهار ، وتزايدت دقات قلبي ولم أصدق نفسي ، أأنا في حلم أم في يقظة ، أفعلا أقف هنا أمام أول بيت وضع للناس ، أتحقق الحلم الجميل الذي كان يراودني دائما، نعم إنه فعلا لا تفصلني عن الكعبة سوى خطوات وأنا أتقدم إليها ثابت الجنان ممتلكا لزمام أمري واثقا من نفسي ومن يقيني، البيت، نعم إنها هي، كنت أراها في التلفاز أما الأن فإني أراها مباشرة وجها لوجه، حمدت الله كثيرا ودعوت الله كثيرا لمن يسر لي هذه الزيارة وشعرت بأني حققت شيئا كبيرا وأمنية عزيزة غالية كانت تراودني منذ زمن طويل، كان أول شيء رأيته فيها الباب فأنبهرت بجماله وبهائه، ورجوت الله أن يفتح لي ما انغلق من أبواب العلم والمعرفة التي توصل إلى تمام طاعته والتزام شرعه. ثم تقدمت وتقدمت حتى لمستها بيدي، وشعرت بالفرح وفهمت لماذا يصرّ العديد من الحجيج على التبرك بالكعبة بشكل قدسي مبالغ فيه، فترى البعض يمرر عليها منديله ويمسح به أحجار الكعبة فقلت في نفسي لعله بذلك يعتقد أنه يحمل معه القداسة في ذلك المنديل حتى إذا عاد إلى بلده اتخذه رمزا وتفاخر به وهذا بعينه هو تلبيس إبليس أو الشرك الخفي. وترى آخرا يلتصق بها حتى لا يكاد يفارقها وهو ما يحاول اعوان الأمن بكل ادب أن يحولوا دونه حتى لا يقع الحاج في الشرك الذي شرحته سابقا. وأعتقد أن هذا النوع من الإلتحام برغم أنه من وجهة النظر النفسية مفهوم باعتباره حالة من الهروب والإلتجاء إلى ركن حصين تطمئن إليه النفس وتجد الأمان فيه في زمن عدم الأمان، إلاّ أنّ المشكل فيه هو التلبيس الذي يرافقه والذي قد لا يتفطن إليه الحاج فيوقعه في المحظور والعياذ بالله. وهذا الذي وصفته الآن يعد لا شيء أمام الصراع، نعم الصراع أمام الحجر الأسود من أجل تقبيله وكأن الحاج إذا لم يذهب إلى هناك ويقبل الحجر الأسود لم يكتمل حجه، ثم بماذا يجيب أذا عاد إلى وطنه وسئل هل قبل الحجر الأسود أم لا؟ خاصة إذا كان السائل ممن حجّ سابقا ويسّر الله له تقبيل الحجر الأسود. أنها مشكلة عويصة وإن قوته وصلابته كرجل في الميزان. إذا يجب أن يقبل الحجر الأسود. رغم أني لم أعثر عند أهل العلم من قال بفرضية تقبيل الحجر الأسود وأن من لم يفعل ذلك يعد حجّه ناقصا؟
إن العديد من المسلمين أتوا من أماكن بعيدة ووصلوا إلى هناك بعد جهد جهيد ومعاناة طويلة إذ البعض يدخر لرحلة الحج سنوات وسنوات حتى يوفر المبلغ المطلوب لأداء هذه الفريضة. جزء كبير من هؤلاء المسلمين لا يستطيع بوعي أو بدون وعي التمييز بين الحج/الفرض وبالتالي الطاعة وبين التلبيس الذي يحصل جراء بعض التصرفات. فمثال المنديل الذي رأيت بعض الحجيج يمسحون به الكعبة والذي في الواقع لم يحدث هذا المسح تغير فيه ، وإنما الشئ الذي حصل هو ذلك البعد الإحيائي الأسطوري الذي لا يزال معششا في وعي الإنسان المعاصر والذي سيطر في تلك اللحظة وحدد عملية التدين كطقس أسطوري. فمثل هذا الذي يعتقد ذلك هو مثل الطفل الذي لم يبلغ ذكاء ما بعد العمليات والذي يضيف بعدا إحيائيا على العصا التي يركبها ويعتبر أنها فرسه أو سيارته ويفاخر بها بين أترابه.
غار حراء: لقاء السماء بالأرض أو تأسيس الإنسان
فعلا إنه للقاء خالد، ذلك اللقاء الذي حدث في التاريخ البعيد، ولكنه كان لقاء يؤسس في الإنسان الإنسان، لم يكن طويلا فيملّه النّاظر، ولم يكن مبهرجا بالزينة فيبغضه المراقب، ولكنه كان قصيرا في زمنه، طويلا في خلوده، بسيطا في مظهره، عميقا في جوهره لا شكّ في وجوده. كان هذا اللقاء بناء متجذرا في الزمان، شامخا في المكان. لقد شهد ميلاد الإنسان الذي حمل الأمانة التي أبت السماء والأرض أن يحملنها وحملها الإنسان.
"أقرأ!" ، "ما أنا بقارئ." فيأخذه جبريل عليه السلام فيغطه حتى يبلغ منه الجهد صلى الله عليه وسلم ثم يرسله ويقول: اقرأ. فيتكرر جواب النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. فيغطّه جبريل عليه السلام مرة ثانية حتى يبلغ منه الجهد، ثم يرسله فيقول: اقرأ. فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. فيأخذه جبريل عليه السلام فيغطه للمرة الثالثة، ثمّ يرسله فيقول: "اقرَأ باسْم رَبّكَ الّذي خَلَقَ ، خَلَقَ الإنْسَانَ منْ عَلَق ، اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ" ثمّ يتوارى جبريل عن الأنظار كما قدم.
ويعتبر مالك بن نبي أن " هذا الحوار الفريد الذي يستهلّ به العهد القرآني يمنحنا عنصرا ثمينا في الدراسة النفسية لظاهرة الوحي" ثم يواصل أن هذا الحوار "هو الحوار، الثابت تاريخيا، والذي تجيب فيه الذات المحمّدية بوضوح وبمقاطع صوتية، علة الصوت الذي سيبلّغها قريبا دعوتها." (مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية ، ص 193)
بعد هذا اللقاء بقي الرسول صلى الله عليه وسلّم يرجف فؤاده، ويرتعش وترتعد فرائسه، إنه ثقل الأمانة، وهول اللقاء، وروعة المشهد، إنه الإنفتاح الذي ستحدثه هذه الكلمات/الأمانة التي سيبشر بها صلى الله عليه وسلم. وينزل صلى الله عليه وسلّم إلى الزوجة الصالحة، الزوجة التي جمعت بين الحكمة والطاعة والحب والوفاء، فكانت النموذج والمثال. جاءها النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : زملوني ! دثروني!
والزمال والدثار كلاهما غطاء، ولكن ما هو الفرق بين الغطاءين؟ أما الزِّمال فهو يحتاجه لأنه يلم له أعضاءه التي ترتجف وترتعد من هول الأمانة، وأما الدثار فإنّه الذي يغطيه ويحميه من الخوف الذي اعتراه. فيزملوه حتى ذهب عنه الروع، وأخبر خديجة بالأمر وقال: لقد خشيت على نفسي. وتتدخل الزوجة العظيمة لتثبت زوجها قائلة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
لقد لخصت السيدة خديجة في هذا النص الوثيقة أهم صفات وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم بشكل واضح لا لبس فيه، حتى أنه يمكن اعتماد هذا النص الوثيقة الأساسية على صدق نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يصف النبي قبل البعثة بالصفات التي كلما اجتمعت في شخص إلاّ جمعت معها صفات المروءة والفضل والصدق.
فالسيدة خديجة تؤكّد من موقع المعرفة واليقين بأن الله لن يخذله لأنه يصل الرحم، (وهو البعد الإنساني العائلي) تم تتحدث عن أربع خصال تعد أُسَّ الحياة الإجتماعية (تحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق) وما اجتمعت هذه الصفات في شخص إلا جمعت معها صفات الكمال والعظمة الإنسانية .
وتحمله الزوجة الصالحة إلى ورقة ابن نوفل فيقول بعد أن يسمع الخبر: هذا النّاموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون فيها حيّا إذ يخرجك قومك. ويستغرب الرسول الذي لا يحمل إلا الحب لقومه وللإنسانية جمعاء، كيف يخرجونه؟ لماذا؟ وما هي الأسباب؟
ولذلك يسأل صلى الله عليه وسلّم: أومخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا."
هذه تفصيلات اللقاء الرائع الهائل بين السماء والأرض وبعض تداعياته.
في هذا اللقاء اكتمل بناء الإنسان، وبناء الرسالة، فانفتحت في مضامينها وتوجّهاتها وإرشاداتها وتشريعاتها، فكان لا بد أن تكون عالمية في المكان وأزلية في الزمان، شاملة في التشريع، دقيقة في البيان والتبيين.
وبحكم أن المشروع اكتمل كان لا بدّ أن تكون الرسالة خاتمة، ولا بدّ لصاحبها أن يكون خاتمة مباركة لبداية مباركة.
ولكنها أي هذه الرسالة وهذا من روعتها وبهائها أنها كانت خاتمة للرسالات، وبداية لأمانة جديدة. خاتمة للرسالات لأنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وبداية لأمانة جديدة وهي عالمية الإسلام وشمول دعوته وتحقيقه تمام الإستخلاف.
ولذلك كان أول نداء في ذلك اللقاء الخالد:" إقرأ!" وأكرم به من نداء دوّى عاليا ليعلن في وضوح لا مواربة فيه الدعامة الأساسية لهذا الدين: العلم. لأنه بدون العلم لا قراءة للإنسان ولكتاب الكون المفتوح، ولا علم أن لم يكن نابعا من مشكاة أنوار الرسالة والنبوة فيعود بنا دائما إلى هذا الإلتحام والإرتباط الوثيق بين الأرض والسماء فانفصال أحدهما عن الآخر يقود إلى الضلال في كل الأحوال، وإنما التمسك بهما معا هو الموصل الى بر الأمان وإلى شاطئ السلام. والله هو السلام.
كانت هذه الخواطر تغمرني وأنا أصعد إلى غار حراء، حيث كان مهبط الوحي، ونزول الرسالة، وحيث التقت الأرض بالسماء، وعلّم النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم ما لم يعلم. كان هذا الإحساس يزيدني قوة وأنا أتعثر في خطواتي صاعدا جبل ثور وأنا أمني النفس بأنها سوف ترقى رويدا رويدُا في البحث عن المعرفة وفي الوصول إلى النقطة التي دوى منها الصوت الخالد "إقرأ!" معلنا بناء الإنسان والحضارة، فتهاوت أمام هذا المولود الجديد كل الطواغيت المزيفة وسما عاليا، وحرر الإنسانية ورتب شؤونها.
إنه هذا الإنسان الرسالي الذي نبحث عنه ليعيد بناء الإنسانية، لا ليكون إنسانا متعاليا عليها Supermann ولا ليكون ذلك الإنسان المعلّق بين السماء والأرض ينهشه القلق، وإنما الإنسان الكادح إلى ربه كدحا فملاقيه.
يتبع .....
التعليقات
شكرا يا أستاذ حسن والى الأمام خطوة في الاتجاه الصحيح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.