التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    عاجل : إدارة الترجي تمنع التصريحات لوسائل الإعلام في هذه الفترة    انتخابات جامعة كرة القدم: قائمة بن تقيّة تستأنف قرار لجنة الانتخابات    تونس: مرضى السرطان يعانون من نقص الأدوية    الرابطة الأولى: نجم المتلوي يرفع قضية عدلية ضد حكم مواجهة النادي البنزرتي    لاعب سان جيرمان لوكاس هيرنانديز يغيب عن لقاء اياب نصف نهائي ابطال اوروبا    من بينهم مساجين: تمتيع 500 تلميذ باجراءات استثنائية خلال الباكالوريا    أتلتيكو مدريد يقترب من التعاقد مع لاعب ريال مدريد سيبايوس    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    بنزرت: تنفيذ قرارات هدم وإزالة لاسوار واعمدة خرسانية    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    4 حالات وفاة في شهرين:طبيب بيطري يحذّر من انتشار داء الكلب في صفوف التونسيين.    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    عين زغوان: حادث مرور يسفر عن وفاة مترجل وبتر ساق آخر    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    وزير الشؤون الاجتماعية يزف بشرى لمن يريد الحصول على قرض سكني    هذه حقيقة فتح معبر رأس وعودة حركة العبور..#خبر_عاجل    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    الحماية المدنية: 9 قتلى و341 مصابا خلال ال 24 ساعة الماضية    غرفة تجّار لحوم الدواجن: هذه الجهة مسؤولة عن الترفيع في الأسعار    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    بينهم ''تيك توكر''...عصابة لاغتصاب الأطفال في دولة عربية    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    وزيرة التربية تكشف تفاصيل تسوية ملفات المعلمين النوّاب    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة غامضة ثانية لمسؤول كشف العيوب في طائرات 'بوينغ'    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    الكاف: اليوم انطلاق فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان سيكا جاز    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إسلاميو السودان.. الدولة حين تصبح معملا للتجارب : د.حيدر إبراهيم
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 11 - 2008

لا يمكن تقديم رؤية من الخارج لمشروع الحركة الإسلامية السودانية دون اعتماد أولي على رؤية المشروع عند دعاته والقائمين عليه، وتأتي من ثم الرؤية من الخارج ناظرة للتجربة ومدى نجاحها بمقياسين: الأول: أصحابها أنفسهم، والثاني: مقياس الدولة الوطنية الحديثة ومطلوباتها، ومدى اقتراب الإسلاميين السودان من النموذجين.
ولا يفوت على الكاتب أن يذكر بأن المشروع الإنقاذي يتجاوز السودان الجغرافي إلى عموم حالة الإسلام السياسي في العالمين العربي والإسلامي، فتجربة حكم الجبهة الإسلامية القومية في تحالف مع العسكريين اختبار حقيقي لجدال وسجال استمرا منذ القرن الماضي حول الدولة في الإسلام، وبعد ذلك ما هو موقف الأحزاب والتيارات الإسلامية في الديمقراطية؟ فنحن الآن أمام تجربة عينية ملموسة وصل فيها إسلاميون تجديديون إلى السلطة السياسية في نهاية القرن العشرين، وكانت لهم اجتهادات وتنظيرات في موضوعي الدولة والديمقراطية، والآن في يدهم سلطة سياسية كاملة وبدون مشاركة أي طرف قد يحد أو ينقص إطلاقية وشمولية سلطتهم، فكيف كان التطبيق؟ وكيف نزّلوا اجتهاداتهم ونظرياتهم إلى أرض الواقع؟
المشروع الإسلامي عند دعاته
من البداية نلاحظ تعدد تسميات التجربة السودانية؛ فهي المشروع الحضاري، أو المشروع الإسلامي السوداني، أو مشروع النهضة الحضارية الشاملة، أو النموذج الإسلامي في السودان.
وهناك من يرى عملية التحديث والحداثة من منظور إسلامي؛ لذلك نصطدم بمفهوم واسع وليس شاملا يقول كل شيء ولكن لا يقول شيئا، لكن الحركة الإسلامية الحاكمة تكتفي بمخاطبة أجزاء دنيا من العقل، وقد ترضى بمجرد الانفعالات والعواطف، فنحن الآن أمام «مشروع حضاري» يطبق من دون أن يرهق مفكرونا بتحديد ماذا يقصدون بهذا اللفظ الذي تحول إلى تشريعات وقوانين وممارسات وأدوات لقمع الناس أو لتمييز الناس؟ ثم ألا يحتاج هذا المشروع إلى تنظير وتعميق فكري؟ وهذا الإبهام يظهر في الإصدارات والكتابات التي تتناول الموضوع على مستوى أعلى من المقابلات الصحفية والأحاديث الإعلامية.
ينطلق دعاة المشروع الإسلامي في تبريرهم للمشروع أنه محاولة للعودة للأصالة والاستقلال؛ إذ إن وضع السودان قبل الإنقاذ وقع ضحية تبعية مؤسسية للغرب في مجال المؤسسات الدستورية والحزبية ومؤسسات الثقافة والتعليم الحديث والإعلام، بالإضافة إلى التبعية الطائفية حيث تحالفت النخب العلمانية المتغربة مع الطائفتين الكبيرتين بهدف التواصل مع الجماهير التقليدية، وهذان هما مصدر الأزمات التي أدت إلى أن يكون السودان دولة أسيرة؛ لأن الاستعمار خرج ولكن خلف دولة أسيرة مرتبطة بالمصالح الاستعمارية من خلال ممثليه في قيادة مكونة من الصفوة الحديثة والزعامات الطائفية التقليدية، أما عامة الناس فقد تحول التدين لديهم إلى شعائر وطقوس خاوية من معاني القرآن والدين الحق، ومن ثم يصبح المشروع الإسلامي السوداني عند دعاته، كما يرى د.أمين حسن عمر، ود.التجاني عبدالقادر: «هو مشروع للتحرير من الهيمنة الإمبريالية الغربية، ومن حيث إنه مشروع لإعادة البناء الاجتماعي وفق رؤية تجديدية للدين تجمع بين الأصل السابق للظاهرة الاستعمارية والعصر التالي لها، كما يهمنا من حيث إنه يوفر طاقة معنوية هائلة تمكن الشعب من تجاوز واقع التخلف بأقل قدر مما يتوفر من الإمكانات المادية والوسائل التقنية».
أما المفاهيم التي يعتمدها المشروع الجديد في بناء نظامه فهي الثورة، ومبدأ الثورة هو أهم ما يميز المشروع، ويقصد به: فك علاقة التبعية للإمبريالية الغربية سواء أكانت أشكالا مؤسسية أم أنماطا سلوكية، وتفكيك العلاقات الطائفية سواء أكانت علاقات إستراتيجية كالتي بينها وبين أتباعها في الريف، أم علاقات تكتيكية كالتي بينها وبين العلمانيين في المدن، والنفاذ إلى العمق الجماهيري المسلم، وإخراجه من هوامش الحياة، وإعداده ليخوض معاركه المصيرية بنفسه والثورة -حسب المفهوم المعروض- لا يمكن أن تتصالح مع الغرب والطائفية، وهي ليست عملا عسكريا أهوج، ولكنها عمل دءوب نحو «إحياء الأمة بالتذكير والتفكير والموعظة الحسنة، والقدرة وترفّع الهمة».
يرتبط العامل الثالث بما سبق مباشرة، وهو مبدأ الاعتماد على الذات باعتبار «أن تحرير الولاء لله، والاستقلال بالقرار وتأسيس الحياة الاجتماعية» لا يتم دون ذلك المبدأ.
المفهوم الرابع في نظرهما هو الجهاد الشعبي، والعنصر الأخير يكتسب أهمية قصوى في فهم سياسة نظام الجبهة الإسلامية في عسكرة المجتمع وتنمية العنف، وتهميش دور القوات المسلحة، أو على الأقل يوظفه أيديولوجيا وسياسيا لنظام حاكم.
وقد لا يغيب عن فطنة القارئ أن هذه طروحات عالم-ثالثية وطنية وليست إسلامية، وقد نجدها عند فرانز فانون صاحب كتاب «المعذبون في الأرض»، وعند رواد حركات التحرر الوطني من نكروما ونهرو ونيريري وكاسترو وكابرال وغيرهم، وعند مفكرين أمثال سمير أمين ومنظري التبعية في أمريكا اللاتينية، وفي منظري لاهوت التحرير المسيحيين، كما هي لدى التقدميين الإسلاميين مثل علي شريعتي ومحمد خاتمي.
ولكن السؤال هو: هل تستطيع الحركة «الإسلامية» برؤيتها الدينية وأصول عضويتها الاجتماعية والطبقية وطريقة تنظيمها أي العلاقات الحزبية والبناء التنظيمي والشخصية الكاريزمية التي أسبقتها على زعيمها التاريخي د.حسن الترابي وزعمائها الذين خلفوه أن تنجز مهام الثورة الوطنية؟ فالحركات «الإسلامية» تقدم برنامجا غير واقعي، كما أنها تعجز عن تأسيس دولة وطنية قوية باعتبارها الوسيلة لتحقيق شروط النهضة، فالدولة الدينية لا تقوم على حق المواطنة، ولا تضم كل المواطنين بل تقصي الكثيرين.

وقد طرح الإسلاميون هذا السؤال على أنفسهم، كما تساءل د.التجاني عبدالقادر في مطلع التسعينيات: كيف تستطيع طليعة إسلامية ما أن تدير دولة حديثة؟ أي أن تسير جهازا بيروقراطيا عريقا يرابط مفاهيميا ومصلحيا بالقوى الأجنبية المعادية، وتسخره لتوطيد أركان الإسلام وتربطه بأصوله في الاعتقاد والاجتماع؟ ويتفرع -في رأيه- عن هذا السؤال تساؤلات فرعية كثيرة مثل:
1 ما هي الصورة التي يجب أن يتحول إليها العمل الدبلوماسي الحالي، هياكلا ومقاصد وثقافة؟
2 ما هي الصورة والفلسفة الإسلامية التي تنظم فيها القوة العسكرية، تدريبا وعناصر وأهدافا مرجوة؟
3 ما هي صور التنظيمات التي تتخذها القوة العاملة في دولة إسلامية حديثة؟ وكيف تكون العلاقات بينها وبين رأس المال الخاص ورأسمال الدولة؟
4 ما هو شكل النظام السياسي الإسلامي الحديث، وما هو هرم السلطة فيه، وما هي علاقته بالفاعليات الاجتماعية الرئيسية؟
5 ما هي خطط نمط التعليم في نظام إسلامي حديث، وما هي علاقته بالأصول الإسلامية وبالحضارة الغربية، وبالطبقات الدنيا في المجتمع وبالخدمة العامة؟
6 كيف تدار حركة الاقتصاد في نظام إسلامي معاصر؟
يعترف الكاتب بعدم وجود إجابات مثالية جاهزة على الرغم من أحاديثهم عن أن الإسلام هو الحل، وأن الشريعة تحتوي على كل الإجابات، والسبب في غياب الإجابات هو أنه أثناء حكمهم أي من خلال التجربة والخطأ جعلوا من السودان معملا كبيرا للتجارب، وبعد عشر سنوات على استيلاء الحركة الإسلامية على السلطة، يعترف الكاتب الإسلامي نفسه: "إننا أغمضنا أعيننا وسرنا في مرحلة الدولة بإستراتيجية ما قبل الدولة، وبعدد محدود من الشعارات الجميلة التي لا تستند إلى عمق فكري ولا تتحول إلى فعل محسوس، وتحولت الشعارات وبقايا الإستراتيجية القديمة إلى نوع من الأيديولوجيا المغلقة"، "إن الأفكار التي فسرت الواقع ذات مرة لم تدرك كم تحرك الواقع بعيدا عنها".
وأصبحت التجربة الإسلامية تخاف الشعب بعد أن كان الشعب في عمقها الإستراتيجي، والدليل قوانين الطوارئ المستدامة، والقبضة الأمنية المستمرة، مع ممارسة التعذيب والقهر وكل أساليب الفترة الأولى ولكن بطريقة ناعمة تخاف الإدانات العالمية بينما لا تستحي من شعبها.
وأصبح المشروع رهينا لأزمة أخلاقية كبيرة؛ فالناس أخذوا على دعاته مآخذ تتعلق بالمسألة الأخلاقية كبراغماتية الحركة الإسلامية التي تمثلت في التحالف مع نميري، وما يتناوله الشارع السوداني عن سلوك أفراد الحركة، خاصة بما يتعلق بدنيا المال والأعمال.
ويرجع د.عبد الوهاب الأفندي قضية الأزمة الأخلاقية في الحركة الإسلامية إلى فلسفة الترابي في العمل والتغيير والتي يمكن ترجمتها بالتالي: (إن أنصار علي رضي الله عنه ما كانوا ليخسروا لو أنهم اتبعوا أساليب معسكر معاوية رضي الله عنه) (القدس العربي 7 سبتمبر 1999).
ويضيف الأفندي مؤكدا الأزمة: «وقد شهدت فترة ما بعد يونيو 1989 تدنيا متزايدا ليس فقط بالالتزام الأخلاقي، بل في الإيمان بدور الأخلاق في المنظومة الاجتماعية، وفي حوار خاص مع أحد كبار المسئولين أخبرني الرجل مرة بأنه أصبح فاقدا للثقة في الدوافع الأخلاقية لكل الخلق، بينما أخبرني الرجل نفسه مرة أخرى في معرض حديث آخر بأن المال قادر على اجتراح المعجزات، وسمعت آخرين يتحدثون عن فاعلية الردع والتخويف، وكان هذا في حال إسلامي مخالف اعتقل بغرض «تلقينه درسا».
حتى أضحت الحركة الإسلامية القائمة على رأس المشروع الإسلامي في السودان عند بعض دعاتها بمفهومهم عنها (كحركة تلتزم الإسلام وقيمه لا وجود لها في السودان، وأن كل ما عندنا هو حفنة من الانتهازيين تجري وراء المكاسب والمغانم). (المصدر السابق).
يكاد تقويم د.الأفندي أن يكون هو المفسر الوحيد لدافع الكتابة عن المشروع الحضاري؛ لأنه كان الوعد بالسمو الأخلاقي وهذا ما يمكن أن يكون الإنجاز الحقيقي لو حدث، ولكن كما يقول الكاتب: «والدرس من كل هذا هو أن هناك حدا أدنى من الالتزام الأخلاقي والديني لا تستحق الحركة بدونه أن تنسب إلى الإسلام.
موقف المشروع من مطلوبات الدولة الحديثة

بعد انهيار النظم الشمولية في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وبعض دول إفريقيا، اتضح بما لا يدع مجالا للتردد أن هناك مطلوبات جوهرية للدولة الحديثة، كالديمقراطية، والتعددية، وقيام الدولة على قاعدة المواطنة، والاحتكام للمؤسسات، واحترام حقوق الإنسان.
بالنظر للتجربة القائمة باسم الإسلام الآن في السودان، نجد أن موقف الإسلاميين السودانيين من الديمقراطية أنها سبيل فيها للفرقة والفتنة مقابل الوحدة والشوكة، وللإسلاميين نظرة أبعد من الرفض سياسيا للتعددية، بل موقف فلسفي ثابت يقود إلى حاكمية الله من خلال التوحيد؛ ففي سؤال عن فكرة النظام الديمقراطي في الحكم وجه للشيخ الترابي: هل تغير موقفك من هذه المسألة أم لا؟ وما هو انعكاس ذلك على تجربة الحكم الإسلامي في السودان؟ كانت الإجابة: «إن هدف الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية هو العودة بالأمة إلى نقاء المجتمع الأول، والانتقال بها من التمزق والشتات إلى الوحدة والانسجام، ورد الخلق عن كل ما يمكن أن يفتنهم من متعلقات بالله سبحانه وتعالى، ورد القوى المتباينة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى هدي الدين، ورد نسبية الظروف والأمكنة إلى الأزلي المطلق الخالد، ولو نزلنا إلى النظام السياسي فهو تقريبا محاولة للربط والبدء بما هو ابتلاء وقدر من تباين المناسك والأعراف ورد إلى أصل الوحدة بالدين لا بوسيلة القهر».
ويرون في الشورى محاولة لجمع مسيرة المسلمين الخالصة؛ حيث يسعون إلى إجماع يمثل وحدتهم، وينبغي لهذه الصورة السياسية التوحيدية أن تجسد في مؤسسات سياسية تعبر عن المسلمين وتبرز هويتهم، وهذا الرأي يتعارض مع القول بأن الإسلام دين الفطرة، لذلك أقر بالاختلاف والتنوع والتعدد بين البشر، بحكم إنسانيتهم، وبالتأكيد تواجه مسألة الوحدة بمطلب الحرية والتي يمكن أن يضحى بها بسهولة ولو خشينا من الانقسام والاختلاف.
فالديمقراطية عند الانقلابيين جميعا وعلى رأسهم الإسلاميون السودانيون (الجبهة الإسلامية القومية) ليست مبدأ ولا قيمة فكرية وأخلاقية بل هي واحدة من أدوات الوصول إلى السلطة السياسية، وهذا الفهم الأداتي للديمقراطية سبب الاستخفاف بالممارسة الديمقراطية.
ويرى منظر المشروع الإسلامي السوداني حسن الترابي أنه ليس هناك (أي داع لكي يقلد المسلمون هذه الصور، وألا يخجلوا من رفضها مهما كانت التسميات جذابة أو سائدة مثل الديمقراطية أو التعددية الحزبية، وكل هذه النظم -في رأيه- لا تعبر عن مضمون الإسلام وهو التوحيد والنظرية التوحيدية السياسية، ولكن الذي يعبر عنه، هو نظام يقوم أولا على الإيمان منطلقا لسيادة الشريعة كدستور في الحياة السياسية العامة، وثانيا على الحرية رمزا لعقيدة التوحيد حيث ينبغي أن يكون كل فرد متجردا لله.
ولهذا يدخل الاختلاف السياسي عند الإسلاميين إلى دائرة خطرة يخرج من المعارضة السياسية إلى مجال الكفر والتجديف، وتعتبر عملية التنميط وإلغاء الفوارق في كل شيء حتى اللبس والشكل، من الأدوات المهمة في النظم الشمولية؛ لأنها تضمن الخضوع والطاعة والاستقرار أو ما يدعى الوحدة الوطنية وهي الصفة المفضلة.
وعمليا اتخذ «الإسلاميون» موقفا شديد الارتباك حيال الأحزاب والتعددية الحزبية؛ مما يدل على أنهم لم يجتهدوا مطلقا في الوصول إلى صيغة جديدة لوضعية الأحزاب في نظام سياسي إسلامي حديث، وما زالوا متوقفين عند الفهم القديم لكلمة الأحزاب والتي لم تكن تعني تشكيل حزب سياسي، ولكنها تعني التعصب والوقوف معا ضد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وبالجملة، تسعى النظم الشمولية ومنها نظام الإنقاذ رغم بدائيته إلى تحقيق السيطرة الكلية على المواطنين، وهذه العملية كما تعرفها حنة أرندت: (إن السيطرة الكلية هي التي تجهد في تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم اللانهائيين، وكأنما البشرية كلها إن هي إلا هوية ثابتة من ردود الفعل، هكذا يتسنى لكل مجموع من مجاميع ردود الفعل هذه أن يُستبدل بأي مجموع آخر).
وعلى هذه الرؤية الكلية يمكن أن نفهم أن تنصيصهم على المواطنة كأساس للحقوق والواجبات في دساتيرهم المتعددة إنما هي خطاب للخارج بقصد تجميل الصورة وتبييض الوجه.
أما احترام حقوق الإنسان، فإن ما أصابها من سوء على يد أصحاب المشروع الحضاري غير مسبوق بحال في السودان، وتشهد بذلك سجلات حقوق الإنسان العالمية، وما يزال ملف حقوق الإنسان في السودان مفتوحا في طاولة المؤسسات الحقوقية العالمية.
ماذا بعد؟
رغم تشدق القائمين على المشروع الحضاري بإسلام الدولة والمجتمع واعتبار دستور 1998 هو النموذج النهائي والمرتجى للدستور الإسلامي الذي ظلوا يدعون له من قبيل الاستقلال، ويكتسب هذا الدستور والموقف منه أهميته إن أجيز قبل انشقاق الحركة الإسلامية وخروج الترابي وجماعته من الدولة وأروقتها.
ورغم احتفال أصحاب المشروع الحضاري بدستورهم، تحفظ الكثيرون من ذوي الاتجاهات الإسلامية على دستور 1998؛ لعدم ذكر الدين الرسمي للدولة وعلى المواد 24 و25 الخاصتين بحرية العقيدة، ول«غامضة المعنى ضبابية المضمون»، ويعلق الشيخ عطية محمد سعيد: (وعدم النص في هذا الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي فيه استخفاف بالإسلام والمسلمين الذين يشكلون أغلبية ساحقة من السكان، فكيف أغفل ذكر الدين الرسمي في دستور السودان في عهد الإنقاذ في الوقت الذي ارتفعت فيه رايات الجهاد تعلن على الملأ عودة الإسلام إلى الحياة مخضبا بدماء الشهداء من شباب الإسلام بالسودان، وأخيرا إنني أتساءل وأرفع صوتي حتى يسمعه ولاة الأمر الذين جاءوا إلى السلطة على أكتاف الإسلاميين وبثقة الشعب السوداني المسلم هل هذا هو الدستور الذي ظلت الحركة الإسلامية تعمل له لأكثر من نصف قرن؟ وهل هو الدستور الذي من أجله وقف الإسلاميون في وجه الأحزاب وزعماء الطائفية والشيوعيين والعلمانيين وقوى الاستكبار في المشرق والمغرب، وهل هو ذلك الدستور الذي سالت من أجله دماء شهدائنا في الناصر وبور وتلشي وتوريت وتركاكا وجبل سندرو، اللهم لا).
والشيخ عطية رجل أفنى عمرا طويلا يدعو لدولة إسلامية وهو قد عاش ليرى رفاقا له يسنون مثل هذا الدستور الوضعي ومع ذلك يتحدثون عن عدم تراجعهم عن الشريعة!
تصاعدت حملة أئمة المساجد والدعاة في السودان ضد دستور المشروع الحضاري، ونشطت الجماعات الإسلامية في توزيع المنشورات المعارضة للدستور في المساجد والجامعات، ودعت إلى إسقاط مشروع الدستور، وأصدر طلاب أنصار السنة في الجامعات بيانا سياسيا انتقدوا فيه مشروع الدستور، وقالوا إنه أشار إلى الإسلام في خمسة مواضع «غامضة المعنى ضبابية المضمون»، وقالوا إن الدستور لم يحدد هوية البلاد ولم يحسم أمر الدولة الإسلامية وأعطى الديانات الأخرى شرعية دستورية في أول سابقة من نوعها في السودان، في وقت حسمت دول إسلامية كثيرة هذه المشكلة بجعل الإسلام دين الدولة الرسمي.
وقال البيان إن المادة الرابعة ذكرت أن الحاكمية لله وهي كلمة فضفاضة لا تعني الشريعة الإسلامية، واعتبروا المواد (1، 4، 24، 33، 37، 65، 139) مخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية وأنه جاء مخيبا للآمال، ويعتبر علمانيا، والمشاركة في الاستفتاء عليه جريمة، وقد أعربت الجماعة أنها كانت تأمل أن يجيء الدستور محددا للهوية الإسلامية للأمة السودانية ولكن جاء عكس ذلك. (صحيفة الحياة 11 مايو 1998).
وقالت جماعة الإخوان المسلمين، التي يقودها الصادق عبد الله عبد الماجد: «إن القول بأن الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة -استفتاء ودستورا وعرفا- هي مصادر التشريع، قول يحتاج إلى وقفة»، وأضافت أن «الدستور حمل مخالفات شرعية، منها أنه لم يشترط أن يكون الحاكم مسلما، وهذا أمر لا يملك أحد تغييره أو إنقاصه، ثم إنه جعل مصدر التشريع مشتركا بين الشريعة ومصادر أخرى، من استفتاء وعرف، وهذا أمر لا يملك أحد أن يغيره أو يضيف إليه أو ينتقص منه، فالشريعة عند المسلمين هي مصدر التشريع، ولا نحتاج لغيرها، فهي المهيمنة على كل أمر خارج عنها، ولا يجوز شرعا أن يلي قضاء المسلمين غيرهم، والدستور جعل غير المسلم يمكن أن يحكم بين المسلمين، فكيف يطلب من المسلم أن يطيع حاكما أو قاضيا غير مسلم؟! ومن الأمور التي يجب النص عليها حكم المرتد، الذي أغفله الدستور».
سبب السقوط
يعود سبب سقوط المشروع الحضاري إلى أن الفكر الإسلامي عموما لا يملك أي نموذج إرشادي مستمد من التاريخ لشكل ومضمون الدولة، وعلى الرغم من التمجيد لنموذج «مجتمع المدينة» فقد عجز الحكام (الإسلاميون) السودانيون عن التأسي بروح ذلك النموذج؛ إذ ليس المطلوب اتباع مؤسساته وتنظيمه، وأعني بالروح قيم ذلك المجتمع مثل العدالة والمساواة وتكريم الإنسان، وزهد الحاكم وعفته وبعده عن الترف والكبرياء والتكبر، وزاد غياب مرجعية تقدم شكلا مفصلا أو تقريبيا لدولة إسلامية تاريخية من صعوبة مهمة التأسيس لدولة إسلامية في نهاية القرن العشرين؛ مما يجعل الإسلاميين أسراء للوعي العربي القديم للدولة والسلطة، وكما قال العروي: «هل يتصور أن يتحول ذلك الجهاز إلى أداة طيعة تخدم هدفا روحيا مستحدثا وهو بين أناس لا خبرة لهم به؟! الأقرب إلى الواقع المعهود هو أن يبقى وفيا لهدفه التقليدي متجاهلا دعوة الإسلام، لا مؤثرا فيها ولا متأثرا بها».
أكاديمي سوداني
الاسلام اون لاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.