صرح عائد لتوه من البلد الذي كان أخضرا في الزمن الغابر ، لصديق احسبه صدوقا والله كفيله قائلا : آه يا أخي ، إنني مشطور ، احتاج ان القي إليك بحمل ضاق منه صدري ، عهدتك صبورا ، منصتا جيدا ... و لا أريد غير من يصغي إلي ...هذا كل ما في الامر ...اشتد بي الشوق بعد سنين طوال لمراتع الصبا ، وملاعب الشباب .. بدت لي بلدي كالجنة ، تكبر في خيالي و تتجمل ، كعروس تبتسم من بعيد ، تناديني تحثني أن اسارع إليها الخطى ... تلفت حولي ، راجعت نفسي ..ماضيّ النظيف ،لم أجد شيئا يستحق هذه الغربة وهذا البعاد عن الوطن و الاحبة ... في البداية ،كنت اتهم من طردني في جنح الظلام فعبرت الحدود متخفيا ، ثم شيئا فشيئا بدأت ألتمس له الاعذار ... وأخيرا اتهمت نفسي ، وعليه اتهمت إخواني بأننا نحن المذنبون في حق الوطن ..ولم لا في حق الامير ... في ليالي الثلج الدافئة ، كنت اسهر ، بينما زوجي و الاطفال نائمون ... مرة وانا مستلقي ناظرا سقفا ، لمعت في ذهني فكرة .. او فلتقل صورة ، إنها صورتي انا في الحقيقة ..ثم أخذت تكبر و تكبر ... حتى تصورت نفسي زعيما ، او على الاقل سفيرا للنوايا الحسنة ... بدوت في نفسي كبيرا ... قفز إلى ذهني فلان و فلان ... ثم فلان .. بدوا لي لا يفهمون في السياسة ..أليست السياسة مبادرة ... أنا عذيقها المرجل .. ولما كانت الفكرة لا تهدأ عن التضخم ، بدا لي أنني قد اكون المنقذ لهذا الوطن ... بدأت بالوسيلة الاقرب ، لأبين اعتدالي لأصدقائي ، وعيني في الحقيقة على أعدائي .. كنت أعلم ان كل خطوة تبعدني عن أصدقائي ذوي الافق الضيق ، تقربني من اعدائي الذين تعبوا من الاصوات التي تشتمهم ، ولا شك انهم سيقدرون خطوتي الاعتدالية و يأخذونها بعين الاعتبار ... كانت تلك الوسيلة ، هي صفحات الأنترنيت ، و ما اسهلها ... هناك بدوت بحربي الضروس و قد أوتيت قلما ... وكذبت من قال: إذا خلا الجبان بأرض ، طلب الحرب وحده والنزالا ... ثم كانت الخطوة التالية ، ذهبت لسفارة بلدي ، وبالمناسبة ، هي ليست سفارة النظام ...وهناك إلتقيت لاول مرة ، ومنذ سنين عدة ، بتونسي بدا لي نسخة أصلية ..ولكنني إكتشفت أنه يعرفني ويعرف من خلفني أيضا ... كان يبتسم كالصينيين ، أي ابتسامة ثابتة ...دعاني لمكتب داخلي ، وبعد أن شكرني على كتاباتي المنصفة و المتزنة ، طلب مني التوقيع على ورقة ..ارتجفت قليلا لا اخفيك ، ولكنني لما قراتها وجدتها قريبة من افكاري ...ثم بدت لي افكاري بعينها ولكنها صيغت بشكل مختلف .. وبعد ذلك الموعد بمدة حصلت على جواز سفر ... فرحة مشوبة بالغموض الحذر ..زادها نظرات اصدقائي المهاجرين قتامة ... ركبت الطائرة ، لاجد نفسي بعد سويعات بين المكاتب السوداء بأمن الدولة ... كانت شفاعة مقالاتي المعتدلة ،قد انتهت هناك ، يوم تسلمت جواز السفر ... هنا طلب مني أن اكتب كل شيء ،بداية من كيفية هروبي خلسة ، و حتى رجوعي الساعة ... عن محطات الطريق ..عن الاشخاص الذين قابلتهم ..عن إقامتي في الخارج ، وخاصة ،اي معلومة عن أصدقائي الذين لم يعتدلوا بعد ... ولشدة تأكيدهم على هذه النقطة ، اسقط في يدي ...لقد اشعروني بأنني تافه لا قيمة لي ... وأن الذينبدوا لي في ما مضى متحجرين من اصدقائي ، هم الاهم عند هؤلاء ... بعدها تركوني بعدما حلبوني ...خرجت اشعر بالخواء ، انزويت عند أول منعطف وأغرقت في ضحك هستيري ... لقد ترجل سفير النوايا الحسنة ... أكملت طريقي لبيتنا شاردا ... كانت زيارتي في ما تبقى ، غربة في وطني ... مشاهد الجروح النازفة أمامي ... شعرت بعجز قاتل يستحيل معه ترميم شيء ذا بال .. كل شيء تغير مع الايام ، إلا صورة القهر الأصفر اصبحت أشد وضوحا ...وذات يوم إلتقيت رياض ، صحبة قديمة ، أثر حي من الايام الحالمة ... قفزت في حظنه مشتاقا ، ولكن حظنه كان باردا ... بعد برهة ،قال و بحلقه غصة : لماذا عدت ؟ .... اجبته في شرود واستدراك : آه صحيح ، لماذا عدت أنا ؟ ..لماذا عدت ؟... لماذا عدت؟