جامعة الثانوي تدعو الى وقفة احتجاجية    مقتل شخص وإصابة 3 آخرين في إطلاق نار بحفل في نيويورك الأمريكية    تونس تشارك في المعرض الدولي 55 بالجزائر (FIA)    سعيد يشدد على ضرورة وقوف العالم الإسلامي صفا واحدا نصرة لفلسطين    برنامج تعاون مع "الفاو"    استرجاع مركب شبابي بعد اقتحامه والتحوّز عليه    مع الشروق .. خدعة صفقة تحرير الرهائن    الاعتداء على عضو مجلس محلي    اليوم الدخول مجاني الى المتاحف    لتحقيق الاكتفاء الذاتي: متابعة تجربة نموذجية لإكثار صنف معيّن من الحبوب    بنزرت الجنوبية.. وفاة إمرأة وإصابة 3 آخرين في حادث مرور    تدشين أول مخبر تحاليل للأغذية و المنتجات الفلاحية بالشمال الغربي    هند صبري مع ابنتها على ''تيك توك''    شيرين تنهار بالبكاء في حفل ضخم    تونس العاصمة : الإحتفاظ بعنصر إجرامي وحجز آلات إلكترونية محل سرقة    انعقاد ندوة المديرين الجهويين للنقل    بداية من الثلاثاء المقبل: تقلبات جوية وانخفاض في درجات الحرارة    وفاة 14 شخصا جرّاء فيضانات في أندونيسيا    غدا الأحد.. الدخول إلى كل المتاحف والمعالم الأثرية مجانا    4 ماي اليوم العالمي لرجال الإطفاء.    عاجل/ أحدهم ينتحل صفة أمني: الاحتفاظ ب4 من أخطر العناصر الاجرامية    روسيا تُدرج الرئيس الأوكراني على لائحة المطلوبين لديها    صفاقس :ندوة عنوانها "اسرائيل في قفص الاتهام امام القضاء الدولي    عروضه العالمية تلقي نجاحا كبيرا: فيلم "Back to Black في قاعات السينما التونسية    إنتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم: لجنة الاستئناف تسقط قائمتي التلمساني وبن تقية    قاضي يُحيل كل أعضاء مجلس التربية على التحقيق وجامعة الثانوي تحتج    الرابطة الأولى: برنامج النقل التلفزي لمواجهات نهاية الأسبوع    نابل: انتشار سوس النخيل.. عضو المجلس المحلي للتنمية يحذر    منع مخابز بهذه الجهة من التزوّد بالفارينة    بطولة الكرة الطائرة: الترجي الرياضي يواجه اليوم النجم الساحلي    عاجل/ تلميذة تعتدي على أستاذها بشفرة حلاقة    لهذا السبب.. كندا تشدد قيود استيراد الماشية الأميركية    الثنائية البرلمانية.. بين تنازع السلطات وغياب قانون    القصرين: حجز بضاعة محلّ سرقة من داخل مؤسسة صناعية    هام/ التعليم الأساسي: موعد صرف مستحقات آخر دفعة من حاملي الإجازة    القبض على امرأة محكومة بالسجن 295 عاما!!    "سينما تدور".. اول قاعة متجوّلة في تونس والانطلاق بهذه الولاية    التوقعات الجوية لليوم    فتحي عبدالوهاب يصف ياسمين عبدالعزيز ب"طفلة".. وهي ترد: "أخويا والله"    قتلى ومفقودون في البرازيل جراء الأمطار الغزيرة    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    قرعة كأس تونس 2024.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    العمل شرف وعبادة    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعوة إلى المخالفة ... بقلم الدكتور رياض الجوّادي
نشر في الحوار نت يوم 19 - 10 - 2010


"كتاب حسن، ولكن لا تغترّ بمخالفتنا فيه"..
أي ثقة في النفس هذه!
وأيّ احترام لحق المعرفة!
وأيّ تواضع!
وأيّ بناء للمتعلّم وللعلم في آن!
لمّا قرأت الموقف لأول مرة هزّني بجلاله، وسحرني بجماله. واسمع معي إن شئت إلى ابن العربي وهو يحكي هذا الموقف مع شيخه الغزالي فيقول:
"فاوضت يوما الطوسي[1] في ذكر تآليفه، فأعرض عن بعضها، ثم نظرت في كتاب "المعيار"[2] فأعجبني فاستحسنته وجئت إليه وعلى كمي كراسة منه، فقال لي: ما معك؟ فاستحييت ورفعته إليه، فقرأه مليا وأنا أسارقه النظر وأرفض عرقا، ثم رفع رأسه إلي وقال لي: كتاب حسن، ولكن لا تغتر بمخالفتنا فيه"[3].
"كتاب حسن، ولكن لا تغتر بمخالفتنا فيه"، إنها من جنس كلمات الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". نموذج آخر يكشف لك حقيقة الشخصية الإسلامية التي بناها الإسلام في صورتها الفاعلة لا المنفعلة، والإيجابية لا السلبية. نماذج علمية لا تعرف الإقصاء، وتتواضع في محراب المعرفة، لا يعنيها أن يكون الحقّ دائما فيما تقول، ولا تتّهم المخالف بالخروج عن الحقّ، بل هي تدعو المطلع إلى المخالفة. إنها تؤمن ضمنيا بأن تطوّر العلم ليس دائما في إقرار الحقائق بقدر ما هو في تجاوز الأخطاء. ولذلك ما كانوا يتردّدون في تغيير آرائهم إذا ظهر الحق في غيرها، ولو نظرت في كتبهم لرأيت ذلك في أكثر من موطن. فعلها الشافعي في مذهبيه القديم والجديد. وفعلها الغزالي لما انتقل من المنخول إلى المستصفى.
"كتاب حسن، ولكن لا تغتر بمخالفتنا فيه"، إنه يخاطب بكلماته هذه طالبا من طلابه مازال في العشرينات من عمره، وفي تلك اللحظة بين الرجلين من مسافات العمر والمجد والإنجاز ما لا يخفى على أحد، فالأستاذ هو أبو حامد محمد بن محمد بن الغزالي الملقب بحجة الإسلام، زين الدين الطوسي ولد عام 450 ه بطوس، وهو علم من أعلام الشافعية ورائد من رواد الفلسفة الإسلامية توفي عام 505 ه. وقد كان ابن العربي (468- 543ه) يجله أَيَّمَا إجلال، ويُصوّر هذا الإجلالَ بوضوح في قانونه وهو يصف لقاءَه به فيقول: «..حتى ورد علينا "دانشمند" فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية مُعْرِضا عن الدّنيا، مُقْبلا على الله تعالى، فمَشَيْنا إليه، وعَرَضْنا أُمنيتَنا عليه، وقلت له: أنت ضالَّتُنا التي كُنَّا ننْشُد، وإمامُنا الذي به نسترشد. فلَقِيَنا لقاءَ المعرفة، وشاهَدْنَا منه ما كان فوق الصِّفة... فإنه كان رجلا إذا عاينْتَه رأيتَ جَمَالا ظاهرا، وإذا عَالَمته وجدتَه بحرا زاخرا، وكلما اختبرت احْتَبَرْت...»[4]
وأمّا الطّالب فهو أبو بكر ابن العربي محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، سأله تلميذه ابن بشكوال عن مولده، فقال: في سنة ثمان وستين وأربع مئة. رحل مع أبيه إلى المشرق يوم الأحد مستهلّ ربيع الأول من سنة خمس وثمانين وأربع مائة، أي وسنُّه أقلُّ من عشرين سنة. ودخل الشام ولقِيَ بها جماعةً من العلماء والمحدِّثين. ودخل بغداد وسمع من علمائها، ثم رحل إلى الحجاز فحج في موسمِ سنة تسع وثمانين، وسمِع بمكة عددا من العلماء. ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحِب بها العلماءَ والأدباءَ، فأخذ عنهم، وتفقّه بهم، وسمع العلم منهم، ثم صَدَر عن بغداد ولقِي بمصرَ والإسكندريةِ جماعةً من المحدّثين، فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادهم؛ ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين. وقَدِم بلدَه إشبيليةَ بعِلْمٍ كثير لم يُدخله أحدٌ قبلَه ممن كانت له رحلةٌ إلى المشرق.
فإذا علمت مسافة العمر والعلم والتاريخ والمجد في لحظة اللقاء، فاعلم أيّ تربية يُربي عليها الغزاليُّ تلميذَه وهو يشجّعه على نقد كتابه. إنّها مواقف تاريخية تحتاج منا إلى أن نقف أمامها محلّلين محاولين النفاذ إلى مقومات الشخصية التي أنجبت تلك المواقف، وإلى تشكيلة العقل التي يسرت على نفوسهم تلك التصرفات التي لم يعها لا الذين يقفون عند ما أنجبت لنا عقول الأسلاف ويدعوننا إلى أن لا نتجاوزها، لأنهم لم يتركوا لنا شيئا. ولم يعها كذلك الذين يلعنون تاريخهم ليل نهار لأنهم لم يروا فيه أي علامة مضيئة تنبئ برقي حضاري حقيقي. إلى هؤلاء وهؤلاء أُهدي مثل هذه المقولات والمواقف التي بثثتها في كتابي هذا. لا لأني أومن بأن التاريخ توقّف عند أسلافنا، وأننا سنبقى أبد الدهر نبكي تلك الأطلال، ولكن لألتمس في تلك المواقف قبسا من العزم ووضوح الرؤية نمشي به في طريقنا الذي بدأنا في بنائه من جديد، يهدينا قول كثيرين: "كم ترك الأول للآخر". ويحمّلنا المسؤولية قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولا تسألون عما كانوا يعملون" ويرفع عنّا الإصر والإحساس بالتهيّب من استكشاف الطرق الجديدة، والبحث المستمر عن الحق قوله صلى الله عليه وسلم مبشرا من أصاب في اجتهاده: "فله أجران" ومن لم يصب "فله أجر واحد". فلماذا التهيب من المحاولة ما دمنا نملك الآلة، ونقصد الحق، ونستهدي بتجارب الآخرين، وعندنا استعداد لمراجعة أنفسنا كلما سمعنا كلمات النقد البناء.
أي تربية يربي عليها الغزالي تلميذه ابن العربي؟

إنها القيم ذاتها التي يؤكد عليها القرآن في غير ما آية عندما ينعى على الذين يقتفون أثر آبائهم في غير تمحيص ولا نظر حصيف، ولا يقدرون على تمييز الحق من غيره فيما تركوا لهم: فيقول: "إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنا على آثارهم لمقتدون" ثم يجيبهم القرآن بكلام يصدّع استسلام المستسلمين للقديم لمجرد أنه قديم "أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون".
إنها الثقافة نفسها التي أراد القرآن أن يبني عليها عقول المسلمين وهو يعلمهم بأن "الحق أحق أن يتبع"، وهو يعلّمهم احترام الحجة والبرهان، ويعوّدهم التسليم إلى الدليل فيقول لهم: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
إنها الثقافة نفسها التي بناها النبي مع أصحابه لما كانوا يسألون عن مقاله أهو من الوحي أم هو رأي شخصي، فإذا قال الرسول بأنه رأي، لم يتهيب الصحابة وهم الذين يجلون نبيهم كل الإجلال أن يقولوا: "والله ما هذا بالرأي". وما كان من النبي وهو النبي الذي اصطفاه ربه ورفع من شأنه بأصرح الآيات وأوضحها إلا أن يسلم للرأي إذا كان مقنعا، ويسارع إلى التنازل عن موقفه لأصحابه. فلا غرابة إذن أن نشهد هذا المعنى يتعمق مع الأيام في نفوس المسلمين ويُضحي مواقف تربوية يدلي بها الشيخ إلى تلميذه، ولا غرابة أن يستمر المجتمع في العطاء الحضاري مادامت تلك سجيته، حتى جاءت أجيال مات في نفوسها حس النقد والمراجعة، وظنت بأن الاكتفاء بما بلَغهم من مقولات الأسلاف هو الكفيل بأن يحفظ الدين وميراث الأجداد من الأمجاد، فأجهزوا على تلك الأمجاد من حيث ظنوا أنهم يحفظونها. لم يع هؤلاء أن الذي حفظ أمجاد الآباء إنما هو المراجعات الدائمة التي ضمنت التطور المستمر، وتنقية الميراث من الشوائب. فلما تخلت الأذهان عن التنقية كثرت الشوائب حتى غلبت على البناء الحضاري فتهشم.
إنه "الكدح" مرة أخرى، مسيرتنا كدح مستمر، لا يعرف التوقف، كدح بنّاء، لا يصلح الواقع البشري إلا به. ومن ظن بأن الهناءة بالمتحقق يُسعد، بنى سعادته على الأوهام، لأن واقع البشر إذا توقف عن الحركة ركد فأسن وتعفن. فمن توقف عن التفكير فكأنما أجهز على حضارته بمعول السكون، وسكاكين الشوائب المتراكمة أبدا. ولذلك ينجح في استمرار عطائه الحضاري من علَّم أبناءَه أن يستمروا في التفكير جيلا بعد جيل، لا يتهيب من التفكير قدر تهيبه من التكفير. فالله ووحيه ودينه ورسله لا يخشون التفكير، فكيف يخشى التفكير من يقول: "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون قولا"، إنه لا يريدك أن تسمع إلى القول وتسلم له من قبل أن تفهمه فهما عميقا ينفذ إلى دلالاته ويدرك أبعاده. إنه يريدك أن تفكر في ما يقول لك. وإلا فاسمع إلى قوله في موطن آخر: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" إنه يريدك أن تتدبر كلامه، وأن تنفذ إلى أعماقه، وأن لا تقف عند حافته ظانا بأن ذلك يغنيك في التقرب منه.
لقد صنع الإسلام أمة تفكر، واستمرت كذلك على مدى حيويتها الحضارية تفكر وتسأل وتراجع وتولد الجديد وتنقد وتحلل وتبدع وتطور. فعلى قدر سكينتها في علاقتها بربها على قدر منازعتها للكون وتحدياته، عبَّر عن ذلك الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو يقول -بحسب رواية ابن تيمية-: "إن الناس إذا بلغوا القدر أمسكوا، وأنا قد ظهرت لي فيه روزنة، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق". ولا يعني الجيلاني بمنازعة الأقدار منازعة الغيب أو صراعا بين الإنسان وربه، وإنّما يعني أساسا نزاعه المشروع والذي خُلق من أجله وهو منازعة تحديات الحياة وعقباتها معتمدا سننها وقوانينها... حتّى لكأنّه يسبق إلى بعض ما أقرّه بعض الفلاسفة الغربيين بعده وهو يقول: "إن العلوم إذ تُقرّ بالضّرورة التي تحكم الأشياء، تهبنا الوسائل التي بها نقدر أن نسيطر عليها..."
إنه الوعي بأن القانون في علاقة الإنسان بالسماء غير القانون في علاقة الإنسان بالأرض، بل على قدر تحقيق الوئام مع عالم الملكوت، على قد ما يكون النزاع في عالم الملك، بحثا عن الحق. هذا الوعي المنهجي هو الذي جعل المسلمين يُحلّقون في آفاق العالمين: الملك والملكوت، لأنهم عرفوا مفاتيح التعامل مع كلا العالمين، ولم يخلطوا الأوراق، فسلموا للسماء، ونازعوا الأرض. فنالوا الطمأنينة باطنا، وكانت حركتهم الحضارية حثيثة. فلما خلطوا الأوراق: صرت ترى النزاعات يعلو صخبها مع عالم السماء، واستسلاما إلى حد الاستكانة والموت مع عالم الأرض.
علما بأنّي لا أقصد بالنزاع معنى الصراع مع الناس، وإنّما أُورده في هذا السّياق وأنا أُريد به القدرة على مغالبة تحدّيات الحياة وتجاوز عقباتها المتجدّدة تحقيقا لمعنى سيادة الإنسان على الأرض، إذ لخلافة الإنسان لربّه في الأرض تجليان: العبودية للّه المستخلِف، والسّيادة على الكون المستخلَف فيه.
لقد جنت الأمة الإسلامية من منهج النقد للآراء وعدم الاستسلام للمقولات ما لم تكن وحيا، جنت إنتاجا فكريا متميزا، وحيوية حضارية لم يشهد التاريخ مثلها، وتطورا معرفيا ومنهجيا عالي النسق، وإليك في هذا المقام نماذج من هذا النقد المولّد والمضيف، خذها عناوين سريعة في هذا المقام، وبإمكانك قراءتها بتفصيل أكبر في مؤلفات أخرى:
1- نموذج أول يمثله نفس التلميذ بعد أن أُشرب معنى النقد والتمجيص، فقد نقد ابن العربي واقع التعليم في بلده فقال: "ويا غفلة بلادنا في أن تأخذ الطفل بكتاب الله في أول أمره، فيقرأ ما لا يفهم ويَنْصَب في أمرٍ غيرُه حينئذٍ عندَه أهمّ، ولا يتبسّط لهذا المطلوب العظيم ببساطه ويُعدّ له نشاطه"[5]. ويقترح ابن العربي نهجا بديلا يقوم على البدء بتعلم علم العربية والأشعار ثم الانتقال "إلى الحساب فتتمرّن فيه حتى ترى القوانين، فإنه علم عظيم لها خلقت السماوات والأرض"[6] وبعد ذلك يدرس القرآن فإنه يتيسر بما مرّ من مقدّمات.
وفي هذا النّهج المقترح قال ابن خلدون: "وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال...ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المشرق وأهل المغرب"[7].
2- نموذج ثان يمثله ابن القيم حين تصدى لنقد الممارسة الفقهية في زمانه فقال: إنّ "بعض الفقهاء جعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحقّ والتنفيذ له وعطّلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حقّ مطابق للواقع، ظنّا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنّها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه من شريعته باجتهادهم.. ويرجع هذا القصور البادي على فهم بعض المسلمين لسَنن الشريعة إلى نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر."[8]
3-نموذج ثالث يمثله القاضي عبد الوهاب حين سمع إلى الشافعي[9] يقول: "الاجتهاد والقياس اسمان لمعنى واحد"[10] فيردّ عليه بعد حين: "ذهب بعض أهل الأصول إلى أن الاجتهاد هو القياس، وأنهما اسمان بمعنى واحد، وهذا غير صحيح، لأن الاجتهاد أعم من القياس، ينظُم القياس وغيرَه، وهذا علمناه اجتهادا"[11]
4- نموذج رابع يمثله مالك وهو ينقد حديث "خيار المجلس"، يرويه بسلسلة إسناد ذهبية، ويتوقف في متنه. فقد أخرج في موطّأه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "البيّعان بالخيار كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار"[12].
قال ابن العربي :"وقد مهدنا في مسائل الخلاف تأويلات هذا الحديث وحققناها من ثمانية أوجه منها قول مالك فيه "وليس عندنا في هذا الحديث حد معروف ولا أمر معمول به" إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعا، فكيف يثبت حكم بالشرع بما لا يجوز شرطا في الشرع، وهذا شيء لا يتفطن إليه إلا مثل مالك، فظن الجهال المتوسمون بالعلم من أصحابنا أن مالكا إنما تعلق فيه بعمل أهل المدينة وهذه غباوة"[13].
5- نموذج تأسيسي خامس يترجم فيه عمر بن الخطاب معنى الوعي بحق التاريخ والواقع، ويمارس فيه عملية النقد في أرقى صورها: لكان عمر يدافع عن رأيه لما احتدم النقاش بينه وبين عدد من الفاتحين حول الأراضي المفتوحة عُنْوة في العراق وفي الشّام وفي مصر، كلٌّ يُدافع عن صورة معيّنة من العدل والحكمة في التَّعامل معها:
فكان عدد من الفاتحين يُطالبون بأن يخرج الخمس لله ولمن ذُكِر في الآية، وأن يقسّم الباقي بين الغانمين، محتجّين بما فعله الرسول عليه السلام حين قسم خيبر بين الغزاة،
وكان عمر يجبهم: ...إذا قسمتُ أرض العراق، وأرض الشام، فما يُسدّ به الثغور؟ وما يكون للذّرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشّام والعراق؟
... وهكذا أقرّ عمرُبعد استشارة عدد من أصحابه- حبسَ الأرضين عن قسمتها بين الفاتحين، وتركها في يد أهْلِيها العاملين عليها يؤدّون عنها الخراج لينفَق على مصالح عامّة المسلمين، وأجمع معه المسلمون بعد ذلك.[14]
6- وبمثل هذا الوعي ينقد ابن خلدون المؤرّخين من قبله، وينقد الفقهاء في منهجهم، وينقد روّاد "الآداب السلطانية"...
7- وبمثل هذا الوعي يراجع الدّارقطنيّ البخاريَّ في أكثر من حديث يرويه في صحيحه...
8- وبمثل هذا الوعي ينقد الشاطبيُّ الأصوليّين قبله من حيث إضاعتهم لروح النص ومقاصد الشريعة، ويمشي على طريقه الطاهر بن عاشور...
9- وبمثل هذا الوعي يحقّ لأجيالنا أن تتساءل في منهج علميّ نقديّ لماذا بلغ العلماء من أسلافنا حافة العلم الحديث، ولكنهم سرعان ما ارتدّوا عنه دون أن يطؤوا أرضه؟ ولا يضيرهم أن يشاركوا "توبي أ. هفّ" نقده للتجربة العلمية العربية قائلا: "لقد تعزّز فهمنا للعلم العربي خلال العقود الثلاثة الماضية، ولكن ذلك لم يفسّر لنا سبب تدهور هذا العلم بعد القرن الثالث عشر وإخفاقه في إنجاب العلم الحديث؟ والصورة التي تكونت لدينا الآن تزيد من حيرتنا في الواقع، فقد وجّه مؤرّخو العلم العربيّ* جهودهم لاكتشاف أصالة هذا العلم. ويتّضح هذا أكثر ما يتضح في تاريخ الفلك، حيث بيّن الباحثون وبشكل يثير الإعجاب... أنّ النّماذج القمرية عند كلّ من كوبرنيكس ومدرسة مراغة كانت متطابقة. وهذا التطابق الأساسيّ للنماذج هو الذي دعا نويل سويردلو لأن يسأل لا "عمّا إذا" كان كوبرنيكس قد تعلّم نظريّة مراغة؟ بل "متى وكيف"؟.."[15]
10-وبمثل هذا الوعي نقول: "كم ترك الأول للآخر"...
هذا غيض من فيض نماذج تجلّت فيها جرأة البحث عن الحقّ مارسها الناس في أكثر من مجال، وقد كانت في أكثر من موطن سببا لاجتراح الجديد، فنقد الشاطبي لمن قبله من الأصوليين هو الذي فتح له كوّة إلى علم جديد هو علم المقاصد دشّنه في عمق كبير من خلال كتابه "الموافقات". ونقد ابن خلدون للمؤرّخين من قبله هو الذي أوقفه في مقدّمته على علم جديد هو علم العمران البشري. ونقد الجرجاني لغيره من اللغويين هو الذي جعله رائد علم البلاغة بيانا ومعاني في كتابيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة".
وقبل أن أختم الرحلة مع هذا الموقف الغزالي، لا بدّ أن أشير إلى أنه قد كان ما أشار به على تلميذه ابن العربي، فقد انتقد على شيخه فيه "أغراضا صوفية فيها غلو وإفراط"[16]، بل بلغ تميزه في هذا الشأن حد وضع قانون في المعرفة خاص أشار إليه ابن تيمية بقوله: "وكان للغزالي قانون هو المنطق، أما أبو بكر بن العربي فقد وضع قانونا آخر مبنيا على طريقة أبي المعالي ومن قبله كالقاضي أبي بكر الباقلاني[17]" [18].
فثقافتنا لا تختلف عن أيّ ثقافة أخرى آمنت بحقّ الاختلاف، وتربيتنا تلتقي دون أيّ تكلّف مع كلّ المرجعيات التربوية التي ترى بأن الاختلاف طبيعيّ بل وضروريّ، ولذلك تجد نفسها فيما قاله دوركايم في كتابه "Education et sociologie" عندما اعتبر أنّه "من دون حدّ أدنى من الاختلاف، فإنّ كلّ تعاون يضحي متعذّرا"[19]، (Sans une certaine diversité, toute coopération serait impossible)...
* رياض الجوادي: دكتور في المناهج وطرق التدريس. خبير في التدريب (التكوين) والجودة وتطوير المناهج
الهوامش:
[1]يعني الغزالي، والدليل الصريح يأتي سريعا عند حديثه عن كتاب "معيار العلم" مدار الموقف
[2] الكتاب "معيار العلم" وهو أحد كتب الغزالي المنطقية اعتنى به كثيرون أمثال سليمان دنيا وأحمد شمس الدين، طبع أكثر من طبعة من ذلك طبعة دار الكتب العلمية سنة 1990.
[3] القانون : 340 - 341
[4] القانون: 112
[5] القانون : 347، سراج المريدين : 59/ب
[6] م.ن
[7] المقدمة : 4/1362 - 1363
[8] ابن القيم: الطرق الحكمية: 13
[9] لا اقصد بأنه سمع منه مباشرة، ولا بأنّه قصده بالردّ، وإنّما عنيت في كلّ مرّة الرأي وما يقابله.
[10] الرسالة: 477
[11] فصول مختارة في أصول الفقه للقاضي عبد الوهاب: ملحق ب»المقدمة في الأصول «لابن القصار: 305
[12] الموطأ : كتاب البيوع : باب بيع الخيار : 2/666
البخاري : في البيوع : باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا : 3/84
مسلم : في البيوع : باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين
[13] القبس : 2/844-845
[14] القاضي أبو يوسف: كتاب الخراج: 34
[15] توبي أ. هفّ: فجر العلم الحديث: 70
[16] العواصم : 106
[17] هو محمد بن الطيب بن جعفر بن القاسم المعروف بالباقلاني البصري المالكي، رأس المتكلمين في عصره، صنف التصانيف الشهيرة كشرح الإبانة والتقريب والإرشاد وإعجاز القرآن، توفي سنة 403 ه. انظر شجرة النور الزكية: 92.
[18] موافقة صريح المعقول لصريح المنقول: 1/3، وانظر ابن خلدون: المقدمة: 326 - 327
[19] EmileDurkheim: Education et sociologie:102


http://www.muslimdiversity.net


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.