تشهد المؤسّسات التربويّة بمختلف مستوياتها الابتدائيّة والثانويّة منذ مدّة استفحال ظاهرة العنف الموجّه ضدّ الإطار التربوي حيث تعدّدت حالات استهداف المعلّمين والأساتذة وحتّى العملة والإداريين أمّا الفاعلون فهم غالبا من الأولياء. ولئن حاولت الأطراف الرّسميّة التّقليل من قيمة الظاهرة واعتبارها مجرّد حالات عرضيّة معزولة فإنّ عمليّة الرّصد التي قام بها الطّرف النقابي تؤكّد استفحال الظّاهرة وانتشارها في كلّ جهات البلاد ومستويات التّعليم إذ يتبيّن من خلال عمليّات الرّصد المذكورة أنّ المستهدَفين كانوا من المعلّمين والأساتذة كما أنهم أيضا من العملة والإداريين. أمّا الأطراف الفاعلة فهي في الحالات الغالبة من الأولياء الّذين أصبحوا يسمحون لأنفسهم باقتحام حرم المؤسّسة التربويّة بل حرم القسم أحيانا للاعتداء على المربّين لفظيّا وجسديّا فضلا عمّا يتعرّض له هذا الإطار أحيانا خارج المؤسّسة من اعتداءات مختلفة. ولئن تمّ رصد أكثر من خمسة عشر حالة اعتداء خلال الشهر الأوّل من السنة الدراسيّة والجامعيّة الحاليّة فإنّه يُتوقّع حصول حالات لم يتمّ التبليغ عنها. أمّا ردود الفعل من قطاع المربّين فقد أخذت بدورها نسقا تصاعديّا موازيا لتصاعد العنف حيث بدأت هذه الرّدود في شكل عرائض وشكاوي قضائيّة للتحوّل إلى وقفات احتجاجيّة متفاوتة المدّة لتصل في جهة صفاقس إلى حدّ تنفيذ إضراب جهويّ بيوم كامل على إثر تعرّض عدد من المعلّمين لحالات تعنيف في مدارسهم وأمام تلاميذهم وزملائهم حيث كانت الحالة الأبرز هي حالة معلّم تهجّم عليه وليّ وعنّفه بشدّة دون أن يوجد لذلك أيّ سبب ورغم ذلك فإنّ عمليّة تتبع الجاني لم تكن بما يجب أن يكون من الجدّية و الملفّ مرجّح لمزيد التعقيدات إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات الكفيلة لإعادة الاعتبار إلى المربّي ومن ورائه القطاع ككل. أمّا الوزارة فإنّ ردّ فعلها الذي بدا متأخّرا في نظر العاملين في قطاع التعليم فإنّه أتى خلال الأسبوع الفارط على لسان وزير التربية نفسه الذي صرّح بأنّ الوزارة ستقاضي كلّ من يعتدي على الإطار التربوي. إلا أن خطورة الظّاهرة وما أصبحت تجسّده من تهديد فعليّ لاستقرار ونجاعة المنظومة التربويّة يقتضي اليوم عمليّة تشخيص دقيق وسعي جدّي وعاجل لإيجاد الحلول الضروريّة. فعمليّة مقارنة بسيطة بين المكانة الاعتباريّة لرجل التربية في المجتمع لسنين خلت ومكانته الحالية يلاحظ تراجعا واضحا فلم يعد المعلّم والأستاذ ذلك الرجل الذي ينظر إليه جيرانه وأهل حارته على أنه مرجعهم في الاستنصاح ولم يعد التلميذ ينظر إلى معلّمه تلك النظرة التي تكاد تضاهي التقديس وهو تراجع لا يتحمّل فيه المربّي الوزر الأكبر إذ يعود أساسا إلى تحوّلات في قيم المجتمع وسيطرة المادّة على مختلف أحكام وتقييمات النّاس حيث غدت معايير التصنيف الاجتماعي مادّية بحتة وهي معايير إن طُبّقت على المربّي فسيجد نفسه طبعا في موقع متدنّي من السّلّم. كما أنّ مكانة المؤسّسة التربويّة نفسها قد تراجعت حيث أصبح من العادي أن يتطاول الوليّ على المدرسة أو المعهد فيستبيح الساحة وحتّى الفصل في أوقات الدرس بكل ما يمكن أن يُحدثه ذلك من تشويش وإضاعة لتركيز المربّين والتلاميذ على حدّ سواء وهو أمر يعود لعدّة أسباب لعلّ من بعضها النقص الكبير في الإطار المكلّف بمراقبة التلاميذ وساحة المدرسة مثل القيمين في المعاهد بينما تصبح هذه المسؤولية من مشمولات المعلّمين والمدير في المدارس الابتدائيّة رغم حاجة هذه الأخيرة الى إطار مختص خاصّة مع تضخّم حجم بعضها. كما أنّ تخلّي سلطة الإشراف عن جزء هامّ من مسؤوليّتها في تجهيز المؤسسات التربويّة وصيانتها وإلقاء ذلك على عاتق المديرين الذين عليهم "الاجتهاد" في جمع مساهمات الأولياء .
نقول هذا دون أن نهمل مسؤوليّة عدد من المربّين وهي عموما تبقى حالات فرديّة غير قابلة للتعميم في تراجع المكانة الاعتبارية للمربي من خلال البحث عن حلول فرديّة لتراجع مقدرتهم الشرائيّة بالمبالغة في تعاطي الدروس الخصوصيّة مما يذهب أحيانا بهيبة ذلك المربّي ويجعله محل تندّر واستهانة من قبل البعض. إنّ سلطة الإشراف مدعوّة اليوم إلى معالجة هذه الوضعيّة معالجة جذريّة وذلك عبر عدّة قرارات حازمة قد تبدو مكلّفة لكنّها ضروريّة ومنها: - انتداب أعداد كافية من القيمين والإطارات التربويّة بما يعطي الإدارة قدرة على إحكام مراقبة وتسيير المؤسّسات التربويّة في المرحلة الثانويّة وكذلك انتداب إطار مسيّر في المدارس الابتدائيّة بحيث يتمّ تخفيف عبء المراقبة والمتابعة عن المعلّمين. - استعادة الدّولة لدورها في تمويل عمليّات تجهيز المؤسسات التربويّة وصيانتها بشكل مطلق بما يدعم هيبة مؤسسات التعليم العمومي ويعيد لها الاعتبار. - التعامل الصارم مع كل محاولات الاستهتار بالمؤسسة التربويّة والعاملين فيها والسعي الى تطوير المنظومة التشريعيّة في هذا الاتجاه. - تحسين القدرة الشرائيّة للمربّين بما يسمح لهم بمواكبة التغيّرات التي تصيب يوميّا الأسعار والاستجابة للاحتياجات المستحدثة مع تطوّر أنماط الاستهلاك.