بسم الله الذي علم بالقلم... علم الإنسان ما لم يعلم الدكتور عبد اللطيف المكي: نجاح جيل وهزيمة جيل. بقلم رافع القارصي: العضو السابق في المجلس العلمي لكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس
تزامنا مع احتفالات شعبنا في تونس ونخبه ومثقفيه بذكرى مئوية الشابي شاعر المقاومة وإرادة الحياة؛ تأبى هذه الأرض الطيبة المعطاء إلا أن تشارك على طريقتها الخاصة الاحتفاء بهذا الحدث الثقافي الهام وذلك بأن أعطت الدليل الذى لا يرتقي إليه الشك على أنّ أبناء هذه الأرض أحفاد "الزواتنة" والشابي والمصلحين الذين تحركوا فوق أديمها الطاهر مازالوا هنا يعيشون يبدعون ينجحون يقاومون ويرددون مع ذاكرة التاريخ إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر.
لم يكن الدكتور عبد الطيف المكي إلاّ ابنا بارا من أبناء تلك الأرض أراد له حبيب الظلام الموت فصنع الحياة وأراد له الفشل فعانق النجاح وأي نجاح أكبر من الصمود بامتياز في كليتين اثنتين الأولى عميدها وصاحبها سيدنا يوسف عليه السلام والثانية كلية الطب بتونس. أما نجاحك في الكلية "اليوسفية" (سبة إلى سيدنا يوسف عليه السلام) يشهد عليه صمودك في معتقل "بوشوشة" أحد مسارح جريمة الهولوكست النوفمبري حيث إني مازلت على يقين بأنه لم يكن يدور في خلد الجلاد الفار من وجه العدالة السويسرية عبد الله القلال أنّ الذى بين يديه اليوم سجينا سيكون غدا دكتورا في الطب رغم ما تعرض له من هول ودمار شامل في كل مراحل التحقيق وأثناء تنفيذ العقوبة الظالمة والتي كانت بعشر سنوات نافذة. وتمضي أقدار الله سبحانه و تعالى وتمضي معها المحنة بأيامها ولياليها ثقيلة حزينة مضرجة بدماء الشهداء ومطرزة بدموع الأمهات والآباء وتخرج أنت يا عبد اللطيف من زنزانات الموت أكثر إصرار على تعاطي مهنة الطب وعلى المضي في طريق مقاومة الأمراض العضوية بعدما اخرطت في مقاومة الأمراض السياسية التي تفتك بالجسم التونسي العليل. لم تكن أبواب كلية الطب مفتوحة أمامك كغيرك من الطلاب حيث رأت الآلهة النوفمبرية المزيفة الإمعان في التشفي والتنكيل بك منحدرة عبر هذا السلوك المتوحش بالفعل السياسي إلى أحط درجات البدائية شاذة عن ثقافة العصر فغدت بهذا النمط البدوي في الحكم كيانا ساديا يقوم على غريزة العنف وعنف الغريزة حيث أجبرتك على خوض معركة الأمعاء الخاوية لمدة قاربت الشهرين من أجل التسجيل الجامعي ومواصلة البحث العلمي داخل مكتبات ومخابر كلية الطب ومرة أخرى يتدخل المدد الغيبي العظيم ليشد على يديك ويثبتك فكان الانتصار وكانت العودة إلى مقاعد الجامعة حيث بدأت رحلة الدكتورا مؤذنة بانتصار جيل وهزيمة جيل. لعلك تلاحظ أخي القارئ بأنه لم يفصح الحقل الدلالي لألفاظ النص إلى حد الآن عن ماهية الجيلين المعنيين بالنصر والهزيمة وهو مسلك متعمد قصدت من ورائه إثارة السؤال فيك وإنعاش ذاكرتك بإحالتها على جزء مشرق من تاريخ البلاد ممثلا في تاريخ الجامعة التونسية أيام كانت مصنعا لتخريج النخب إلى جانب تخريج المواطنين الأحرار المنخرطين في حمل هموم الوطن وقضايا الأمة والإنسانية قبل أن يجتاحها جراد السابع من نوفمبر فحولها إلى أرض قاحلة يرتفع فيها صوت "فاطمة بوساحة" وتدوسها أقدام جحافل الأمن الجامعي. إنه ومع إقرارى سلفا بأنّ تجربة جيل أكبر من أن تختزل في تجربة ابن من أبنائه إلاّ أني لا أجد حرجا من الترميز إلى كلا الجيلين بسمين ووجهين كانا لهما حظورا نوعيا في الفضاء الجامعي وداخل الحركة الطلابية التونسية يحمل أحدهما اليوم صفة وزير في دولة الصنم النوفبري في حين يحمل الثاني صفة سجين سياسي سابق ودكتور في الطب حاليا إنهما المناضل عبد اللطيف المكي والمرتزق سمير لعبيدي وزير الشباب والرياضة في حكومة البوليس السياسي التونسي. وحتى يقع رصد ثنائية الهزيمة والنصر لكلا الجيلين نتجه إلى تثبيت بعض المقارنات في العناوين التالية:
1 إن إحراز الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للطلبة على شهادة الدكتورا في الطب بعد عشرية كاملة من التعذيب والتنكيل وإرهاب الدولة هو في الحقيقة ترجمة عملية لثقافة النصر وقيم النصر وعقيدة النصر التى تربي عليها حيث لا مكان للسقوط ولا مكان للتثاقل إلى الأرض ولا مكان للانطواء على جغرافية الجسد بحثا عن متعة زائلة وعن مال زائل وعن سلطة لا تدوم. إنّ من تشكلت شخصيته ضمن هذا الفضاء القيمي الغني بالدلالات لا يمكن إلاّ أن يعانق الانتصار سواءا كان خطيبا في الجامعة أو سجينا لدى دولة المافيا النوفمبرية أو مدافعا عن أطروحة دكتورا. أما من اختار قيمه من خارج هذه المصادر [مع وجود الاستناءات والنماذج الشريفة ضمن هذا الجيل] فإنّ نسبة قابليته للسقوط تكون مرتفعة بحيث يكون مستعدا للتنكر لماضيه والتنصل من انتمائه الإيديولوجي بل حتى الانخراط في مشاريع سياسية على طرفي نقيض مع إرثه وتاريخ "جيناته السياسية والعقدية" وهو ما نلمسه في جيل الهزيمة ممثلا في المرتزق سمير لعبيدي الأمين العام السابق للاتحاد العام لطلبة تونس.
2 إن المبدئية والثبات على القيم والثوابت والانحياز إلى صف المستضعفين وتحمل ضريبة ذلك هي نتاج لتصور عقدي يستشعر مراقبة الله سبحانه وتعالى رب المستضعفين والكون والناس أجمعين وليست مجرد تعبيرة سياسية تخضع لقواعد التكتيك والاستراتيجية ولفن الممكن وللربح والخسارة وهذا ما انعكس على جيل النصر جيل الدكتور عبد اللطيف المكي وإخوانه من أمثال الفيلسوف المفكر التونسي عجمي لوريمي والباحث الأستاذ الصحبي عتيق والمهندس عبد الكريم الهاروني حيث كانت السياسة عندهم ومازالت تمثل عبادة وأمانة لا ينبغي التفريط فيها مهما كان الثمن وغلت التضحيات [قارن بين الثبات الأسطوري لمساجين الاتجاه الإسلامي خلال العهدين وإلى يومنا هذا مع سرعة سقوط قيادة مجموعة آفاق الماركسية في الستينات حيث كانت مطالب العفو تتاهطل على آلهة قرطاج طلبا للتوبة وللصفح وهي نفس الخطيئة التي أقدم عليها المدعو محمد الشرفي وكانت سببا في خروجه من المعتقل تاركا رفاقه لسياط الجلادين]
3 إذا كان جيل النصر قد جمعه نفس الفضاء مهما كانت الظروف السياسية وموازين القوى واتجاه الأحداث فكانت ساحات الجامعات وحلقات النقاش وشوارع تونس إطارا مكانيا جمعهم وهم طلبة كما جمعتهم نفس السجون والمعتقلات وزنزانات التعذيب أيام المحنة والاعتقال أما بعد الإفراج عنهم فجمعتهم من جديد فضاءات البحث الأكاديمي ومدارج الجامعات احتفالا بنيل شهادة عليا أو تهنئة لأحد المتوجين كما يظهر ذلك في الصورة المصاحبة للمقال أما في الضفة المقابلة فإنّ رموز جيل السقوط والهزيمة يحرص كذلك على التواجد في نفس الفضاء المكاني لكن مع تسجيل انقلاب جذري في الأدوار والخطاب طبقا لانتمائهم "الطبقي الجديد" حيث الانتقال من ساحات الخطابة في الكليات إلى الخطابة في جموع المليشيات والبوليس السياسي يتم بسرعة خرافية وهذا ما ينسحب على سرعة التحاق المرتزق سمير لعبيدي بالحكومة بصفته وزيرا للشباب ونفس الملاحظة نسوقها في شخص المرتزق الثاني المدعو محرز "بوقا" الذى عينه النظام قاضيا مختصا في إصدار الأحكام الجائرة والثقيلة في حق أبناء الصحوة وبهذه الصورة انتشر جيل الهزيمة كالخلايا السرطانية عفاكم الله في أجهزة الدولة التنفيذية والقضائية إما عن طريق التعيين أو عبر آلية الاختراق.
4 ليس من باب الصدفة أن يعانق النجاح والتألق كل الأمناء العامين للاتحاد العام التونسى للطلبة بدءا بالرمز الطلابي والوطني والشبابي المهندس عبد الكريم الهاروني الذى انخرط في الدفاع عن حقوق الإنسان مباشرة بعد خروجه من السجن وهو ما أهله إلى تحمل مسؤولية قيادية في منظمة حرية وإنصاف وصولا إلى الدكتور عبد اللطيف المكي الذي نحتفل هذه الأيام بنجاحه الباهر في الطب وانتهاءا بالأخ الدكتور نجم الدين الحمروني الذي يعرف بفضل الله نجاحا منقطع النظير في تخصص الطب النفسي في فرنسا بالرغم من عذابات المنفي وآلامه. وليس من باب الصدفة كذلك أن لا يقدر جيل الهزيمة جيل اليسار النوفمبري على إثبات ذاته إلاّ بالاعتماد على قوة أجهزة السلطة مع ما يتطلبه ذلك من تنكر للقيم وللشعارات حتى وإن قاد هذا المسلك المكيافيلي ماركسيا راديكاليا مثل المرتزق سمير لعبيدي إلى المشاركة في حكومة تقتل العمال والفلاحين في الرديف وتعتقل وتعذب النقابيين وتبيع الوطن في سوق النخاسة الدولي. هنيئا وتحية إلى آخر نفس إلى أبطال قيادة الاتحاد العام التونسي للطلبة ممثلين في شخص الدكتور عبد اللطيف المكي الذين نجحوا في امتحانات معركة الحريات ونجحوا في معركة كسر الإرادات في سجون السلطة ونجحوا في مدارج العلم والمعرفة والتألق الأكاديمي داخل البلاد وفي المنافي المختلفة والتحية موصولة كذلك إلى عائلاتهم الممتحنات والصابرات والمحتسبات وخاصة إلى أمهاتهم اللاتي جفت منهنّ الدموع وبحت منهنّ الأصوات إلا من صوت زغرودة حلوة عذبة كنسيم الصباح ارتفعت في يوم من الأيام من تسعينات القرن الماضي في قاعات المحاكم ساخرة من الأحكام الجائرة ومثبتة لأفئدة الأبناء وهم في قفص الاتهام في المحكمة العسكرية سيئة الذكر وها هي ترتفع اليوم من جديد بفضل الله سبحانه وتعالى بعد محنة السجن وتنطلق مدوية قوية من حنجرة أمي الحاجة والدة الد. عبد اللطيف في مدارج كلية الطب وفي مراكز البحث العلمي مستبشرة بنيل الشهادات وانتصار الإرادات مرددة بصوت عال وتلك الأيام نداولها بين الناس وحتما وبإذنه تعالى سترتفع الزغاريد في كل بيت وفي كل حي وفي كل شبر من تراب الوطن الغالي وعند قبر كل شهيد مؤذنة بزوال دولة الاستبداد وقيام دولة الحق والعدل والحرية......... ولكنكم قوم تستعجلون