الثلاثمائة متر الأخيرة أو ربع الساعة الأخير، هما تعبيران يستعملان كثيرا في بلاد الغرب، ويُراد بهما تحريض الهمم وتنشيط العزائم واستجماع القوّة لإتمام عمل أو مشروع بُدئ، وأراه ضامنا لحسن خاتمة العمل الدنيوي عندهم ولحسن خاتمة الأعمال عندنا إذا ما اعتُمِد الإخلاص... والملفت في بلادنا العربيّة عموما أنّ هذا التحريض أو هذا التنشيط قد أخطأ الرّبع الساعة الأخير أو الثلاثمائة متر الأخيرة واهتمّ بالمقابل بربع الساعة الأوّل، حتّى بتنا تقريبا لا نحسن الخواتيم، ما ينبئ – لا قدّر الله - بسوء الخاتمة... وللتدليل على ذلك فإنّه يكفي المرء المنصف التوقّف عند المَشاهِد، فهذا الحاكم العربيّ يفتتح عهده في أيّ قطر من أقطارنا ب"لعن" سلفه عموما، فيظهره فاسدا ويبادر هو بالإصلاح ويقدّمه متيّما بالحكم ويسنّ هو القوانين المانعة للاستمرار اللّانهائي ويبرزه ظالما فيَعِد هو بأن لا ظلم بعد اليوم ويتراءى له مستبدّا بالرّأي فيُؤلّف هو المؤسّسات ويعقد الاجتماعات ويصوغ الاتّفاقات... ثمّ سرعان ما يجلس الجميع بعد ربع الساعة الأوّل يتذاكرون مزايا السابق ويعدّدون محاسنه ويعدّون تجاوزات الحاضر حتّى ليترحّمون على الأوّل – دون وعي – وقد عَدّوه من قبل كافرا بنعم الله تعالى مخالفا لشرعه القويم... وهذه الفرق الرّياضيّة القوميّة تدخل في المباريات خلال الرّبع الساعة الأوّل بعزيمة تحدّث بالنصر المبين ثمّ تتقهقر – إلاّ ما ندر – إلى القاع تذكّرنا بأنّنا قد بتنا غثاء كغثاء السيل يركبنا كلّ كبير ووضيع... وهذه المنتديات الإلكترونية تأخذك بجمال مظهرها وتنوّع أبوابها وثراء بعض مواضيعها ثمّ سرعان ما تشهد من النّاس عنها انصرافا ومن القرّاء والكتبة فيها زهدا... يجتهد المجتهدون فيدرجون مواضيع تحرّك القارئ ثمّ تفقد بريقها بسرعة قاصمة ميئِّسة!... كلّ الأنشطة في مختلف الميادين منتعشة جادّة خلال الرّبع الساعة الأوّل ميّتة مميتة خلال ما تبقّى من الزمن أو العمر أو الحياة!...
قد لا تستقيم ملاحظاتي هذه إذا ما عُمّمت بالكلّية!... فهناك استثناءات تُحاكي الغرب في الاهتمام بالثلاثمائة متر الأخيرة أو بربع الساعة الأخير!... فذاك الحاكم الذي خارت قوّاه منذ ربع الساعة الأوّل – كما أسلفت – ولم يشأ متابعة ما عزم عليه أو ما اتّخذه وسيلة لترويض نفوسٍ يعلم أنّها قد كرهته، ينشط في الرّبع الساعة الأخير (أي ثلاثة أرباع الساعة المتبقيّة لديه) من حكمه فيستعمل كلّ وسائل ظلمه حتّى يُصدِّقَ على نفسه لعنة كان هو قد لعن بها سلفه، ويتحيّل لتوريث ولده حتّى إذا لم يكن له ولد تزوّج كيفما رأى ممّن تلدُ له ولده فلا يكون في الحكم من بعده إلاّ ولدُه... وهؤلاء، ملأ الحاكم الفاسقون وأصهاره، قد استُنْفِروا يشيّدون قصورهم ويهرّبون خيرات بلادهم ويغتصبون حقوق مواطنيهم... وأولئك الساديون من الجلّادين ومن حكّام الزور يُعمِلون أنيابهم في الأبرياء – وقد اتّهموهم – يسجنون يعرّون يعذّبون يطاردون يقتلون يدلّسون الحقائق والألسنة يُخرسون والأحكام القاسية عليهم يُنزلون ويتطاولون وحدود الله – دون خوف – يتعدّون... وهذا الفاسد الذي اصطلح على تسميته "مثقّفا" قد جدّ واجتهد ناسيا الإجهاد، فانتصب في كلّ ركن تمرّ منه الفضيلة يتناولها بالنقد يبغّضها للنّاس يُعسّرها ويعسّر الأخذ بها، يضع لها البديل السهل ويزيّنه حتّى لا تبقى نفس خائرة إلاّ أخذت به، ف"صغار أكاديمي" بدل الكتاتيب للصّغار، والأخوّة في الإنسانية بدل الأخوّة في الإيمان، والمساواة في الرّداءة بدل المساواة في الخلق والواجبات مع مراعاة الخصوصيات، و"أحنا هكّا": راقصين صاخبين ضاحكين متعانقين مقبّلين بعضنا البعض بدل أن نكون مسلمين رساليين محترمين لأعراف المروءة محافظين على الحياء والحشمة متمسّكين بمبادئ الرّجولة غيورين، بشرفنا متمسّكين... و"أحنا هكّا" لا تستفزّنا تعرية أخت أو زوجة بل ولا يحرّكنا تقبيلها من طرف "أخيها في الإنسانية" ذاك الساقط اللئيم، وقد كتبت الصحف عمّا هو أكبر بكثير من التقبيل، و"أبناؤنا في الإنسانية" يجوبون الشوارع مباهين بأمّهاتهم العازبات دون حاجة لآباء لم يغرسوا في نظرائهم الشرعيين إلاّ أفكار المجتمع الأبوي الرجعي!...
إنّنا حقّا بحاجة إلى عمل كثير على كلّ الأصعدة، الثقافية والحقوقية والإعلاميّة والنّضالية النّشيطة، التي من بينها الخروج إلى الشارع والمرابطة فيه لافتكاك الحقوق المغتصبة... ولكنّ الحقوق لن تُنال إلاّ بترسيخ التمسّك بإنهاء الرّبع الساعة الأخير... ولن يترسّخ هذا التمسّك إلاّ بتضامن النّاس بعضهم مع بعض، فقد عمل أهلنا في الجنوب التونسي في الرّديّف وقفصة عملا طويلا مضنيا وقد بدأوا العمل في مجال ومدار الرّبع الساعة الأخير لولا عدم حضورٍ كافٍ اقترفه بقيّة الجسم التونسي الواقع تحت تأثير ثقافة "أحنا هكّا" المسيئة لتونس وأهلها ودينها ولغتها!...