في هذا اليوم، أكملت عشرين سنة في الغربة. لم أختر ذلك، ولكن شاءت الأقدار أن تكون هذه حصّتي من ديمقراطية بلدي تونس. فكان هذا القصيد. لله ما أمتن حبلا شدّني لقريتي لنخلتي لقبر أمّي وأبي لتُربة سقيتها بدمعتي حيّيتها كم مرّة بِعَرَقي، بصرختي عانقتها ، ضمَمْتُها بقوّة ودميَ البريء ينزف ... وينزف ولم أرَ منه سوى إرادتي ... وبَسْمَتي
أيّتها العذراء يا جميلةً أحببتها لم يُدرِك الباغون سرّ حُبّنا فزعموا أنّ مقصّا حافيا سيقطع أواصرهْ ويطمس معالمهْ يا وَيْحَهم من جهلهم إن طمِعوا أنّي سأنساكِ أأنسى رئتي؟
أو زعموا أنّي أرى بغير عينيْك فأنتِ عيناي وأنت رؤيتي
أو حسِبوا أنّي سأمشي في البراري هاربا منك فأنت رجلِي ويدِي وأنت كلّ مُهجتي
يا ويحهم كم جهلوا لمّا أغاروا أطفأوا الأنوار من حولي وظنّوا أنّني في ظلمة لقد عَمُوا عزيزتي وأصبح الأخضر والأزرق والأحمر والبسمة إذ تشرق من شفتيك ظلمةً كئيبة يرونها لا شيء غير الظّلمة
وأصبح العصفور إذ يزقزق والماء إذ يخرخر والعشب إذ ينمو ويخضرّ احتفاءً بربيع مُزْهِر تمرّدا مسلّحا يُبيح حرق ضيعتي يجيز قتل طفلتي ويوجب التنصّت على جريد نخلتي وذبح كلّ نحلة يغازلُ خرطومُها رحيقَ أيّ زهرةِ.
لله ما أمْتَنَهُ حبل تدلّى شامخا طوله عمر غُربتي يبتسم إن لَمَحَ زوبعة أو سمع ولولة بنظرة منه تزول غُصّتي وتستعيد قريتي ربيعها وتملأ الفرحة قلب أسرتي
يا ويحكم يا أيّها الباغون لو تدرون أنّ السّماء العاليهْ وضعتُ فيها هِمّتي حتّى إذا مِتُّ غدا ووُضِع التّراب فوق جثّتي سلوا التّراب يومها عنّي وعن قضيّتي ستعرفون أنّني حيّ وإن متّ أطير عاليا وأهتف لأمّتي
قِدّيسهم في مَعْبد القحطِ ترهّبْ ينحر القُربان للنّار بيُسْراه ويُمْناه تسوم القوم، تنهبْ كلّما ضجّوا، رماهم بجِرابٍ ليس فيه غير قضبان ومخلب
لو كان يبصر لرآها قريتي لما بغى لو كان يسمع لاستحى من صرخة الكون تردّدها النّجوم ويقشعرّ لها الفضاء لو كان يعقل ما تلذّذ بالحريق وقد رأيته يُشعِل النّيران صُبحا ومساءْ لو كان حيّا لاستحتْ دقّات قلبه من أنين الصّخر من دمع النّدى لكنّه يا قريتي ميْتٌ وأُقسِم أنّه الميْتُ وإن قالوا حيَا
قلت لها يؤلمني فراقك يا قريةً نهلتُ من كتابها صلّيتُ في محرابها ومنَحتْني كلّ ما حباها الله في شبابها ثم يجيء سافل يريد غلق بابِها فلا نجوْتُ إن نجا ولا حييت إن حيا لأنّني دوما كما علّمْتِني ما أنا إلاّ أنتِ وأنت عند أبنائي، أنا.
عشرون عاما بحثوا فيها عن السّر الذي علّمْتِنيه ليفكّوا شفرة الحبل الذي يربطنا وليغتالوا ذويه فإذا بالحبل عملاقا يضخّ الفجر في عينيّ ما أحلا انسيابه، والشّرايين تعيه، وهواء قريتي يستنشق الفجر عليلا ملء فيه.