من وحي "الحملة الإنتخابية" وقفة مع مسرحية الماريشال
بقلم: رافع القارصي
لم يستقر عمل مسرحي تونسي في الذاكرة الجماعية لشعبنا كما استقرت مسرحية الماريشال عمار في أواسط سبعينات القرن الماضي؛ يومها كنا مازلنا صغارا ومازالت فينا بقايا طفولة بريئة تأبى الرحيل فكنا نحفظ مقاطع بأكملها ونردد بحماس وبراءة الطفل فينا "واو ياي الهيهة واو ياي الهيهة فنضحك ويضحك الجميع من حولنا.
وكبرنا وكبرت معنا الذكريات والأحلام والآمال والآلام ولم يفقد عم حمدة بن التيجاني "الماريشال" قدرته على إضحاكنا وإسعادنا كلما شاهدنا هذا العمل حتى كدنا ننسى زمن الرداءة والأحزان والتراجيديا النوفمبرية التى نعيش.
لقد نجح فقيد المسرح التونسي المخرج علي بن عياد إلى جانب المبدع عم حمدة بن التيجاني الذى قام بدور الماريشال وبقية الممثلين في تونسة النص حتى يخال من يشاهد العمل بأنه نتاج لنص تونسي ولبيئة تونسية والحال أنّ المسرحية مقتبسة من المسرح العالمي وهذا ربما هو العامل الذى جعل الجمهور التونسي لا يجد غربة بينه وبين مفردات السيناريو.
اشتغلت ذاكرتي هذه الأيام أكثر ما يكون؛ فتحركت وراجعت أرشيفها ومخزونها وهي تتابع وقائع ما يسمي بالحملة الانتخابية التى تقوم بها دولة البوليس في تونس وخاصة ما تجود به علينا قناة سبعة من نشرات إخبارية وتغطية يومية لتحركات واجتماعات أحد المترشحين الفائزين ألا وهو الجنرال بن علي فلم تجد المسكينة "ذاكرتي" إلاّ مسرحية "الماريشال عمار" لتستعين بها في تحليل ما يجري من كوميديا سياسية على ركح مسرح مملكة قرطاج.
إنه، وإن كانت إبداعات الممثل عم حمدة بن التيجاني عليه رحمة الله قد جلبت له محبة الجمهور واحترام النقاد من مختلف المدارس المسرحية لحسن تقمصه لشخصية الماريشال من حيث الأداء الركحي وخاصة من حيث براعته في إتقان اللهجة الريفية على الرغم من إنتمائه إلى الوسط "البلدي"، فإنّ مسرحية الماريشال في نسختها النوفمبرية وإن حافظت على طابعها الكوميدي إلاّ أنّ بطلها اليوم الجنرال بن علي قد أساء لشعبه ولبلده ولنفسه حيث أضحك عليه النقاد والمراقبين للشأن السياسي التونسي بفعل ما يأتيه من حركات وسلوكيات وخطابات على ركح مسرح مملكة قرطاج وخارجه ولسان حاله يردد مع الماريشال عمار "هكة إدنوا البلدية ورؤساء الدول وإلاّ لا" بما يوحي للمتابع للحملة الانتخابية بأننا أمام صناعة سياسية بدائية تقوم على الكوميديا السوداء وعلى إنتاج خطاب الرداءة ورداءة الخطاب ولا تستثني أى وسيلة في تأكيد وتثبيت الحظور في المشهد السمعي والبصري حتى وإن كان ذلك باستعمال التهريج والصخب ومختلف آلات النفخ وهذا ما ظهر جليا في اجتماعات المجالس الجهوية الأخيرة التي أشرف عليها بنفسه داخل مسرح المملكة الذي احتوى بالمناسبة على كل عناصر العمل الفرجوي من إضاءة وديكور وجمهور على قلته وخاصة على سيناريو مكتوب بعناية كبيرة أصر فيه الماريشال الجديد على الالتصاق بمفرداته حيث بشر فيه الناخبين بتعشيب الملاعب في قرية جبل "بولحناش" وبعث أكاديميات لفنون الحلاقة والتجميل في سبالة أولاد عمار قصد تشغيل حاملى الشهادات الذين طالت بطالتهم إلى جانب بناء مسبح في قرية العطش على أمل إدخال الماء الصالح للشراب لكل بيت في القرية بمناسبة الانتخابات القادمة وبعث ملاعب للغولف داخل الأحياء الفقيرة للترفيه عن الشباب وثنيه عن الحرقان للطليان أو الاهتمام بالشأن العام وارتياد المساجد... عندها وقف وتحرك الجمهور في حالة هيجان تذكرك بجمهور ملعب المنزه أيام زمان مرددا بصوت خشبي واحد "الله أحد الله أحد الماريشال ما كيفوا حد" ولم يرفع رأسه عن الورقة إلاّ ليرد عليهم التحية قائلا بصوت عسكري غليظ "أيا أقعدوا... أقعدوا... بارك الله فيكم... هاه... هاه.... . ."
هكذا إذا يعيد التاريخ نفسه ولكن في شكل مهزلة ومأساة تعكس ضحالة الثقافة السياسية لسكان مملكة قرطاج وتروي قصة مترشح فائز بأربعة تسعات رغم أنف شعبه ونخبه ورغم أنف الحداثة وثقافة العصر.
رحم الله زمانا كان فيه عم حمدة بن التيجاني "الماريشال عمار" يضحكنا على خشبة المسرح البلدي أما ماريشال العهد الجديد فإنه وإن كان ما زال يضحكنا إلاّ أنه بالتزامن مع ذلك مازال يضحك على ذكاء شعبنا، وهو ما لا نسمح به لأنه ضحك كالبكاء.