لعلّ الظرف المعيش يفرض على الأقلام التوقّف عن الكتابة، أو على الأقلّ تغيير الحبر الذي تعوّدت الكتابة به، وهي ترى الشعب التونسي - الذي كاد صبرُه الجميل يُلصق بذاته صفة الخوف والاستكانة للظّالم - يكتب صفحات تاريخ بلاده مطلع القرن الواحد والعشرين، بدماء حمراء قانية طاهرة زكيّة...
وقد كنت – وأنا أحبّ شعبي وأكتب لأجله ومن أجله – ممّن لام عليه طول الصمت وكثرة القدرة على تحمّل ظلم لئيم ذميم دميم سادي قاسي القلب متخلّف السلوك منافق!... وقد صرت اليوم – والحمد لله – أشكره على بلائه وتضحيته وصفاء معدنه... فهذه السنون الطويلة الثقيلة العجفاء المحاربة لذاته لم تنجح في طمس هويته ولا تغييب رجولته ولا قتل مروءته ولا تغيير وجهته!... فلمّا سالت الدّماء ردّدت الحناجر مطمئنّة "لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله والشهيد حبيب الله"!... توحيد ويقين بالحياة وسرور بملاقاة ربّ رحيم حبيب تتحقّق (الملاقاة) بمجرّد اختراق رصاص الظالم الجسد الطفل والجسد المرأة والجسد الشاب والجسد الشيخ الذي علم أنّ حبّ تونس من حبّ الله تعالى وأنّ حبّها وحبّ الله تعالى لا يلتقيان مع طاعة مخلوق فاسد أمر جهارا نهارا بالدّوس على دين الأمّة... ارتفعت الشعارات ثمّ جاءت كلّها خادمة للشهيد المبجّل... وهل يكون الشهيد إلاّ ذلك الطاهر المبجّل!...
تكلّم الرّئيس المفدّى محدّثا بالصرامة في مقاومة حركة الشارع!... ثمّ تكلّم ثانيّة واصفا الشعب التونسي بالهمجيّة وبالحمق؛ إذ رآه - حسب رأيه الأخرق – فريسة سهلة سائغة لبعض الأطراف الخارجيّة المتربّصة بتونس (ولا ندري حقّا ما الذي يجعل هذه الأطراف تتربّص بتونس)... ثمّ تكلّم عن الملثّمين الذين تعمّدوا تخريب المؤسّسات العمومية وحتّى الممتلكات الخاصّة... وتكلّم ثالثة وكان منهارا ضعيف خوّارا مستجديا الثبات على كرسي علّمه الاستهانة بالشعب والتضحيّة بملأ الفاسقين الذين جعلهم دوائر دفاعيّة حوله، فلم يتردّد طويلا في عزل الوزير والمستشار يقدّمهم أكباش فداء (ولحمهم نجس لا يؤكل) أو يتخلّص منهم خوفا من خيانتهم؛ فقد علمهم بل لقد كوّنهم ونشّأهم خونة فاسدين يحرسون فساده من إصلاح المصلحين!...
ولقد رأيت في كلّ ما قال الرّئيس معلومة واحدة صحيحة (أكّدها أهلنا بتقاريرهم الحينية الدّقيقة)، ألا وهي تلك المتعلّقة بالملثّمين!... فإنّ مراجعة دقيقة لفترة النكبة في تونس تُظهر أنّ أغلب مصائبنا سبّبها الملثّمون... فمن اعتدى على الحقوقيين غير الملثّمين!... ومن اختطف شباب الصحوة إلى أماكن مجهولة أذابت قلوب الأمّهات غير الملثّمين!... ومن اعتدى على شرف بنات التونسيين غير الملثّمين!... ومن سرق خيرات البلاد غير الملثّمين!... وهل بن علي إلّا ملثّم قد تلثّم بالكذب والنّفاق والخداع وخدمة الصهيونية العالمية فبدا في صورة المنقذ المحبّ لتونس، ثمّ انبرى يذلّ النّاس وينقص الأخلاق ويذبح الفضيلة ويقتل الشرف وينهي دور الأب في العائلة ويتفّه الشريف ويرفع الوضيع ويقصي العالم ويبرز الجاهل!... ملثّم سيّء لا بدّ من محاصرته والاقصاص منه بما يشفي صدور التونسيين!...
رحم الله قتلانا وجعلهم من الشهداء الأبرار ونصر شعبنا على هذا العدوّ المندسّ الخسيس، ووفّق سياسيونا إلى اختيار طرق الصلاح بما يعود بالنفع على البلاد وعلى الإسلام والمسلمين...