تكلّم الخطيب فأحسن البيان، وشدّ إليه الآذان، وحرّك الأنفس، وأيقظ القلوب بعد أن رجّها رجّا... فقد ناقش موضوعا خطيرا تعلّق بالحقوق دقيقها وعظيمها حتّى سمعنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُخبر عن كركرة (وكركرة كان على الأمتعة حين سفر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم) أنّه يُحرق في النّار لشملة (كساء يُتَغَطَّى به ويُتَلفَّف فيه) غلّها!... والنّاس في دنيا النّاس اليوم يسرقون الأنعام والأراضين والمركبات والعمارات والمدن والبلدان وحتّى التاريخ. بل يسرقون النّاس أو هم يخونونهم فيفسدون أخلاق مجتمعاتهم ويلبّسون على العامّة فيهم ويقتلون العدل ويوهّنون التقوى والخوف من الله ويعظّمون أمرهم ويفرضون الخوف منهم ومن نسلهم الخبيث... والرّسول صلّى الله عليه وسلّم يخوّف ويحذّر ويصلح: "واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ مِنْكُمْ شَيئًا بِغَيرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ الله تَعَالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلا أعْرِفَنَّ أحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ"، وهو صلّى الله عليه وسلّم إذ يذكر الأصناف التي ذكرها هنا فليس ذلك للحصر والاقتصار ممّا قد يُفهم منه نفيُ حمل غيرها؛ ولكنّه يذكرها ترهيبا بها وتحذيرا ممّا سواها، ليعلم الظالم السارق الخائن أنّه آت يوم القيامة حاملا لا محالة ما غلّ في الدنيا على أكتافه يفضحه حِملُه بين الخلائق دون أن يجد له ساترا يستر ولا شفيعا يشفع، وصدق الله تعالى دائما وإذ يقول: "وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ"...
وقد سبح ذهني رغم تركيزي على الخطبة التي أخذت منّي مأخذها أتفكّر في شأن صنف آخر من النّاس رأيته قريبا من صاحب الغلول وسألت الله تعالى لي وله النجاة من النّار ورجوت له التدارك كي يقلع عمّا تواطأ على اقترافه مع نفسه دون كثرة اكتراث... فقد جاءني بداية العطلة الصيفيّة أخ طيّب كريم خدوم يشكو لي تصرّف أحد إخوانه المبجّلين الذي أخلف معه وعدا كان يرى الإيفاء به عاملا من العوامل المهمّة التي تساعده على السفر الموسمي إلى بلده. فقد أقرضه قرضا مشروطا وحدّد لخلاصه يوما بعيدا ولكنّه كان موعودا، فالنّاس – وإن أغناهم الله من فضله – قد احتاجوا ما ادّخروا، والأخ هنا لم يدّخر من المال إلاّ ما قد أقرض... كان متألّما جدّا، وقد خشيت إن مات هو أو من كان بحوزته ماله ألاّ يكون راضيا عنه... والملفت أنّ أكثر ما آلمه لم يكن كما رأيت غياب المال وتأخّره في الرّجوع وقت الحاجة ولكنّ الذي آلمه هو "تردّي" شأن أخيه عنده، فقد كان يحسب أنّه ممّن إذا حدّثوا صدقوا وإذا وعدوا أنجزوا وإذا اؤتمنوا أدّوا وإذا عاهدوا أوفوا... كان يتألّم لما حدث وكنت أحاول التخفيف عنه دون قدرة على التخفيف!... ولكنّي تمنّيت ألاّ أسمع خبرا عن أخي ذاك كالذي سمعت!... فإنّ هذا الأمر (الاقتراض) موجود في معاملات النّاس... وهو إن قُبل وعُدّ من ضروريات التعايش والتعامل بين النّاس فقيرهم وغنيّهم محتاجهم وصاحب الفضل فيهم، فإنّ الإخلال بشروطه تعدّ عند المسلم العادي من المسقطات ناهيك عن وجه المجتمع المسلم!... ولَمَّا وَقفَ الزُّبَيْرُ رضي الله عنه يَوْمَ الجَمَل دَعَا ابنه إِلَى جَنْبه، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إنَّهُ لاَ يُقْتَلُ اليَومَ إلاَّ ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإنِّي لا أراني إلاَّ سَأُقْتَلُ اليوم مظلومًا، وإنَّ مِنْ أكبرَ هَمِّي لَدَيْنِي، أفَتَرَى دَيْننا يُبقي من مالِنا شَيئًا؟ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، بعْ مَا لَنَا وَاقْضِ دَيْنِي... ولعلّ الزبير رضي الله عنه قد قال ماقال لأنّه علم أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قال: "نَفْسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضى عَنْهُ"... قلت: وأجل المؤمن لا يعلمه إلاّ الله تعالى، فهلاّ سارع كلّ مؤمن يؤمن حقّا بالله وبالأجل إلى قضاء دينه كما لو كان مع الزبير رضي الله عنه يوم الجمل... أسأل الله أن يصلح حال المسلمين أجمعين... والله من وراء القصد...