الأحد25 أكتوبر (تشرين الأول) 2009.. مشهد انتخابي بارد في تونس.. مشهد مأتمي جنائزي ظاهره الديمقراطية وباطنه الدكتاتورية.. اليوم يدفن التونسيون رئيسهم..
إذا كانت هذه الولاية الخامسة لهذا الرئيس هي الولاية الأخيرة بسبب الشيخوخة (73 عاما اليوم + 5 سنوات أخرى حتى 2014 = 78 عاما) هي الأخيرة فإنّ التونسيين يدفنون رئيسهم الذي انقلب عليهم في ليلة ليلاء من الليالي الأولى لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1987.. يدفنونه وهو حي يرزق في قصره بقرطاج فلا يضطرون لانتخابه بعد هذا اليوم إلاّ أن يسبقهم إليه غيرهم.. يدفنونه ويدفنون معه 27 عاما (1987 2014) من ضنك العيش..
بين يدي هذه المناسبة أسئلة ثلاثة لا مناص من مواجهتها
السؤال الأول:هل يتيح المناخ السائد إنتصاب إنتخابات رئاسية وتشريعية حقيقية؟ الانتخابات وسيلة ديمقراطية وفقرة معاصرة من فقرات إعادة الاعتبار للمجتمع وقيم المواطنة وكرامة الإنسان.. الانتخابات وسيلة وليست غاية.. غاية الانتخابات ومقصدها الأسنى هو: تجسيد الحرية وكرامة الإنسان وإدارة الشورى حدبا لأجل اصطفاء الأقوى المؤتمن لخدمة الناس.. الانتخابات وسيلة معاصرة كفيلة بتحقيق عقد التراضي والتبايع بين خادم هو الحاكم وبين مخدوم هو المجتمع.. إذا كانت الانتخابات وسيلة من وسائل أخرى في مشهد ديمقراطي حر مسؤول مفضية إلى تحقيق مقاصدها فحكمها حكم مقاصدها أي: الشرعية عملا بالمبدإ الواقعي المعروف: ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب.. أما إذا كانت الانتخابات مسرحية هابطة يستخدمها المستكبرون والمتنفذون لتأبيد سلطانهم يغرون بها السفهاء ويقمعون الأحرار فإنها تستحيل بالضرورة إلى فقرة ثابتة من فقرات الإرهاب الحكومي تؤبد المشهد الاستبدادي بطريق الزيف والخديعة.. أ هذه أبرز فقرات المشهد التونسي التي تجهض بالضرورة قيام انتخابات تحقق مقاصدها. *مقاطعة أحزاب المعارضة التونسية لهذه الانتخابات. أبرز تلك الأحزاب هي المنضوية تحت لواء هيئة 18 أكتوبر أي: حركة النهضة + الحزب الديمقراطي التقدمي + حزب العمال الشيوعي (حزب معترف به هو الديمقراطي التقدمي بزعامة السيدة مية الجريبي وذلك بعد أن سحب زعيمه السابق الأستاذ محمد نجيب الشابي ترشحه لرئاسة الدولة وحزبان يطرقان أبواب العمل القانوني منذ عقود دون جدوى هما : النهضة الإسلامية + العمال الشيوعي).. فضلا عن أحزاب أخرى تقاطع الانتخابات غير منضوية تحت لواء هيئة 18 أكتوبر من مثل المؤتمر من أجل الجمهورية بزعامة المعارض التونسي الشهير الدكتور المنصف المرزوقي.. * إعلام مقهور قهرا شديدا. الإعلام في عصرنا لسان المجتمعات والشعوب فهو بحق سلطة نافذة بامتياز سيما بعد نجاح ثورات الاتصال في نسج خيوط الأرض شرقها بغربها لحظة بلحظة. إذا كان ذلك كذلك فلا غرو أن تتجه رقابة السلطات الغاشمة بداية وبقوة وصرامة إلى تلك السلطة الشعبية النافذة لكتم أنفاسها أو تزييف كلماتها رغبا حينا ورهبا حينا آخر.. إذا كان ذلك كذلك فلا غرو أن تصبح المقاومة الإعلامية في عصرنا مقاومة صوالة جوالة بها يناط تقدم المجتمعات وترسم خطط النماء والرقي والتحضر.. الإعلام في تونس هو الضحية الكبرى، فما جرى لمنابر الحركة الإسلامية وآخرها الفجر في فجر تسعينيات القرن المنصرم وكذا لمنابر أخرى كثيرة منها: المستقبل والرأي والبديل وحقائق وغيرها كثير لا يكاد يحصى.. فضلا عما جرى للإعلام الإلكتروني.. بل ما جرى للإعلام الفضائي من مثل مراسل الجزيرة في تونس قبل وأده وقطع دابر الجزيرة بالكلية.. ما جرى لكل تلك المنابر على امتداد عقدين كاملين وزيادة لدليل باهر على أنّ الإعلام الحر في تونس هو الضحية الكبرى.. ولك أن تتصور مجلودا مظلوما قطع لسانه لا يملك حتى حق الاستصراخ كيف يصرخ أو يغاث.. لم يسلم من ذلك حتى إعلام الأحزاب المعترف بها من مثل الموقف لسان الديمقراطي التقدمي.. لم يسلم من ذلك حتى المبحرون في الشبكة العنكبوتية دون إذن من السلطة.. سجن بسبب ذلك شباب غض طري من مدينة جرجيس منفى الإعلامي المرابط عبد الله الزواري منذ 7 سنوات.. بل سجن هذا الإعلامي المرابط كذلك بالتهمة ذاتها.. ربما كانت آخر فصول المأساة الإعلامية في تونس: استحواذ السلطة حتى على ما يعبر عنه في تونس بالإعلام شبه الحكومي أي: جريدة الصباح اليومية العريقة التي اشتراها صهر الرئيس صخر الماطري وبذلك يقطع الطريق على كل مشاغب بقلمه وتسترجع سكينة مفقودة وطمأنينة سليبة.. *سجون تؤوي تحت سراديبها الأحرار من كل لون. لم تخل سجون تونس منذ 21 ديسمبر (كانون الأول) 1990 حتى يومنا هذا (الاثنين 25 أكتوبر تشرين الأول 2009) من سجناء سياسيين ونقابيين. بقي من الإسلاميين الدكتور الصادق شورو الرئيس الأسبق لحركة النهضة ثم استولت السجون على آلاف من الشباب المتدين بتعلة مواجهة الإرهاب ثم جاء الدور على سجناء الرديف الذين انتفضوا دفاعا عن حقهم في العيش الكريم بعدما عضهم الجوع الكافر بنابه الغليظ.. *حرمان مئات الآلاف من المواطنين من حقوقهم المدنية. آلاف المواطنين من المعارضين وأقاربهم والمشتبه بهم والمثقفين والنقابيين والإعلاميين والسجناء المسرحين.. عشرات الآلاف من المواطنين محرومون من حقوقهم المدنية من مثل: حق الانتخاب وحق الترشح وحق جواز السفر وحق الشغل وحق بطاقة التعريف القومية وحق التنقل بحرية.. * حملات ضارية تستهدف المنظمات الحقوقية والنقابية. خطة السلطة النوفمبرية المنقلبة على نظام بورقيبة عام 1987 محكمة حيث طوقت كل جوانب الاختراق المعارض تطويقا عجيبا ولا يعزى ذلك إلا لتغذية تلك السلطات بإطارات إيديولوجية سابقة مدربة على مثل تلك المطاحنات الجبانة التي استقوت بالسلطة من داخلها ثأرا من الحركة الإسلامية التي هزمتها في ميادين العلم والمعرفة في الجامعات والكليات والمعاهد ودور الثقافة.. خطة أقيمت على أضلاع ثلاثة: مقاومة الإعلام الحر كما أنف ذكره + مقاومة المنظمة النقابية + مقاومة المنظمة الحقوقية التي كانت في تلك الأيام: الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وذلك قبل أن تولد منظمات حقوقية أخرى حاولت ملء الفراغ من مثل اللجنة الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين وحرية وإنصاف وغيرهما.. ولك أن تتصور المشهد بمثل ما يلي: مواطن تونسي ممنوع من الكلام الحر فإذا اخترق ذلك الحاجز وتعرض لاضطهاد السلطة وميليشياتها في الحزب الحاكم وفرق الأمن لم يجد منظمة حقوقية تدافع عن حقه حتى في لقمة عيش كريمة في غياهب السجون، أما إذا فصل عن عمله بسبب ذلك فلا يجد منظمة نقابية تقف إلى جانبه.. أجل!.. هي خطة حكومية خبيثة أحكمت الطوق من كل جانب حتى جردت التونسي من كل وسائل الدفاع عن نفسه وعن حقه.. *التونسي مشغول إما بلقمة العيش أو بالهجرة إلى شمال المتوسط. سجلت معدلات الهجرة السرية إلى شمال المتوسط في تونس في العقدين الأخيرين ما لم تسجله أي بلاد أخرى من مثل المغرب الأقصى وموريطانيا وليبيا والجزائر ومصر أي: كل البلاد العربية المطلة على الحوض المتوسطي الجنوبي.. معدل الهجرة التونسية مرتفع جدا حتى لو أغفلنا إعمال القانون الرياضي المعروف: القياس الطردي أي اعتبار المعدل بحسب عدد السكان.. لا يعزى ذلك لقصر المسافة البحرية بين الشاطئ التونسي والشاطئ الإيطالي ولكن يعزى ذلك إلى أنّ البطالة في تونس بطالة غير عادية أي بطالة مفروضة من جانب الاحتكارات التي تزاولها العائلات المالكة المستبدة بفرص العمل والكسب (أنظر كتاب: حاكمة قرطاج الصادر حديثا بقلم صحافيين فرنسيين بارزين) وهي كذلك بطالة تكتنز في أحشائها قيم التشفي والتنكيل بالشباب يستوي في ذلك الجامعيون مع من دونهم علما وثقافة.. أما من سلم من غثيان ومخاطر قوارب الموت التي تلقي بضحايها مع مطلع كل شمس ومغربها في يم المتوسط.. فإنه يخشى الطرد التعسفي أو الاتهام بالمعارضة فضلا عن الاتهام بالانتماء أو التعاطف مع الإسلاميين وعندها تحل الكارثة بداره ويسوء صباحه ويدلهم ليله..
خلاصة أولى:
تخلفت كل فقرات المشهد الديمقراطي المعروفة دوليا في تونس فأنى إذن لقيام انتخابات تحقق العدل والكرامة والحرية وتعيد للمجتمع اعتباره!!! تخلف الإعلام الحر وتخلفت التعددية الحزبية بل تخلفت معها التعددية الفكرية من خلال تغييب الإسلاميين إما في السجون أو في المنافي أو في مناطق الحصار الداخلية ممنوعين من كل حقوقهم المدنية بما فيها حق التنقل وحق العمل وحق الانتخاب وحق جواز السفر وحق بطاقة الهوية.. تخلف الجهاز الحقوقي والنقابي الذي يتولى الدفاع عن المظلومين والمسحوقين والمقهورين بل تخلف المواطن الذي يكدح ليل نهار صباح مساء إما لكسب عيش كريم أو لاختراق أمواج المتوسط على متن قوارب الموت.. تخلفت إذن كل شروط الانتخابات وتخلفت معها كل فقرات المشهد الديمقراطي.. عندها يستحيل الأمر عبث أطفال أو مسرحية هابطة لاهية..
السؤال الثاني : هل تخدم هذه الانتخابات مشهد الاستقرار الزائف في تونس أم أنها تعطي إشارة الانطلاق للسباق المحموم على قصر قرطاج؟ من شأن الانتخابات في الدول الديمقراطية أو السائرة على درب الديمقراطية أن تخدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي حفظا للثوابت العليا التي سطرها كل نظام لنفسه. لك أن تسأل بحق سؤالا إستراتيجيا مهما: ما هي الثوابت التونسية؟ من يضمنها؟ وكيف؟ إذا استثنيت الدستور الذي يداس بأقدام العسكر والأمن والطوائف المتصارعة على النفوذ داخل السلطة ذاتها ثم استثنيت سلطة المجتمع تاريخيا وحاضرا.. إذا استثنيت ذلك فإنه لك أن تطرح أكثر من سؤال عن الثوابت التونسية التي يمكن أن تعرف بها هوية البلاد.. قارن ذلك ببعض النظم العربية من مثل النظام المغربي مثلا الذي سطر هوية ثابتة بقطع النظر عن شرعيتها من عدم شرعيتها.. قارن ذلك بالنظم الأوربية.. إذا فعلت ذلك أدركت أنّ القول بأنّ البلاد تعيش أزمة هوية ليس قولا جزافا يساق على عواهنه.. حتى لو كان الاستقرار في تونس استقرارا صحيحا ثابتا فإنّ هذه المحطات الانتخابية الأدنى إلى المسرحية الهابطة العابثة لا تزيد ذلك الاستقرار إلا تذبذبا واضطرابا فما بالك إذا كان ذلك الاستقرار زائفا مكذوبا شبيها ببيت العنكبوب الأوهى.. الانتخابات في مثل هذه الحالات إنما تزكي استقرار الدكتاتورية والاستبداد والجور وامتهان كرامة الإنسان واستعباده. نشأت هذه السلطة عام 1987 عارية من أي سند شرعي فلا شرعية ولا مشروعية وسرعان ما تقمصت أردية حقوق الإنسان ونبذ الظلم والقطع مع الرئاسة مدى الحياة.. ثم ما لبثت أن بنت شرعيتها من فراغ فجمعت إليها الفصائل الأقوى حلفا والأشد شراسة لنبذ الحركة الإسلامية فكانت تلك هي اللبنة الأولى من الشرعية الواقعية ثم تلتها لبنات أخرى كثيرة منها خطاب منافق يضمر شيئا ويفعله ويصدر خطابا آخر مغايرا ومنها إرساء علاقات اقتصادية وثقافية وطيدة مع دوائر غربية وصهيونية معروفة هي التي دعمت التغيير الانقلابي ضد بورقيبة إنقاذا له من نفسه أو من الحركة الإسلامية أو منهما معا.. وما كان لكل تلك الشرعيات أن تتماسك لولا عصا البوليس الغليظة التي حسمت الموقف بسرعة كبيرة وضراوة أكبر.. وسرعان ما أضحت البلاد ثكنة عسكرية في حالة طوارئ قصوى تصدر إنتاج الدواء الكافي والبلسم الشافي ضد ما أسمته طبول الحرب المدقوقة ضد البلقان في تلك الأيام: التطرف والإرهاب.. أما أكبر الشرعيات التي زكت السلطة فهي: موت الاتحاد الروسي الشيوعي عام 1989 وانتصاب أمريكا شرطيا أوحد في العالم وزاد الطين بلة سحق الدبابات في الجزائر لصناديق الاقتراع ودخول الحركة السياسية العربية والحركة الحقوقية والنقابية في طور جديد هو طور ملازمة الأبواب الخلفية وشحذ أسلحة المقاومة حفاظا على الوجود أما كسب الانتصارات فأمر مؤجل حتى أيامنا هذه أو ربما بعدها بقليل..
خلاصة ثانية:
هذه الانتخابات تحيل إلى أمرين أحلاهما مر: أولهما إعطاء إشارة الانطلاق الفعلية للسباق المحموم إلى قصر قرطاج بتزكية غربية (أروبية أمريكية بالأساس ربما فرنسية بالأكثر). سباق محموم يصوره المغفلون والانتهازيون على حد سواء تغييرا أو جمهورية ثالثة أو عهدا جديدا وربما يزيفونه ببعض المساحيق اللازمة ولكنه تغيير محكوم بالتوازنات الدولية والإقليمية والمحلية من جانب ثم بالاستحقاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقومية (فلسطين) المفروضة والمطلوبة.. أما الأمر الثاني الذي تحيل إليه هذه الانتخابات فهو: تأهيل البلاد إلى الوضع ذاته الذي كانت عليه يوم كان بورقيبة يوشك على توديع حياته اليومية (يوم كانت التلفزة الرسمية تعرضه في فترة سباحة صيفية دافئة بينما تلتهب كواليس القصر بتلاعبات وتجاذبات القوى المتصارعة على خلافته من لوبي الصياح حتى لوبي بن علي وبينهما سعيدة ساسي تهيئ خالها لهذا أو لذاك).. وضع ينذر بالخطر الشديد ويضع البلاد على شفا جرف هار.. لولا أنّ الله سبحانه سلم.. كل تلك الإحالات بسبب أنّ هذه الانتخابات تمكن التونسيين من دفن رئيسهم إلى الأبد بعد ولاية خامسة وحكم دام ثلاثة عقود كاملة إلا سنوات ثلاث..
السؤال الثالث:حركة التغيير متواصلة بتدرج لا تعثر فيه فكيف نحفظها ونرعاها؟ التغيير الحقيقي المثمر ليس حركة انقلاب عسكري أبيض أو أسود ولا فوز هذا في انتخابات ولا إخفاق ذاك.. التغيير الحقيقي المثمر المطلوب هو ما تقوم به بعض المعارضات التونسية والنخب المثقفة والنقابيين والإعلاميين والمهتمين بالشأن السياسي العام بشكل أو بآخر.. ذلك هو التغيير الحقيقي المثمر المطلوب.. ذلك هو التغيير عندما تهدأ العقول فتفكر بروية وتدبر محررة من ضغوط الواقع.. إذا كان ذلك كذلك فإنّ التغيير في تونس لم يسكن يوما واحدا.. حتى المساجين في سجونهم يصعنونه صنعا بل ربما يكونون هم أول وأكبر صناعه.. حتى المنفيون يساهمون فيه من موقعهم مساهمات فعالة مهمة.. ذلك هو معنى المقاومة الداخلية الصامتة أو المقاومة الذاتية الهادئة.. نحتاج إلى تواصل مثل تلك المقاومات التي تراكم الفعل لبنة بعد لبنة على امتداد عقود يقطف كل جيل من سلفه ثمرة جهده ويمضي بها إلى الأمام.. صمود المساجين مقاومة وتغيير، وصمود المنفيين مقاومة وتغيير، وصمود المحاصرين في البلاد يتخطفهم البوليس أينما حلوا مقاومة وتغيير، وصمود المثقفين والنقابيين والإعلاميين على ثوابتهم الفكرية مقاومة وتغيير .. أما العيش حياة بيولوجية أو تيئيسا وتثبيطا وفرارا حتى إلى خويصة النفس فضلا عن الفرار إلى حيث فرت شراذم معارضين سابقين يغذون قصر قرطاج بخبرات تجفيف منابع الإسلام.. ذلك عيش ليس فيه حبة خردل من صمود ولا من تغيير وإصلاح.. هو عيش من يخدر عقله ينتظر مهديا ينقذه من الجور وحسبه في الدنيا أن يكون مفعولا به أو إليه أما فاعلا مرفوعا فأمر دونه رغد عيش هنيء..
حفظ ذلك التغيير المتواصل ورعايته يتطلب أسسا وقواعد منها
أ رعاية الحوار الإسلامي العالماني خلوصا إلى أرضية سياسية مشتركة حتى مع وجود الاختلافات العقدية والفكرية الكبيرة.. ب مراجعة الملف الإسلامي على أساس التوافق مع أوضاعه الذاتية الجديدة وأوضاع البلاد تأهلا لأداء دور الريادة في حركة التغيير والإصلاح.. ج تغذية المجتمع بآلياته الدفاعية الضرورية وخاصة: الآلية النقابية والآلية الحقوقية فضلا عن جهاز جمعياتي أهلي يتحصن بالمناعة يوما بعد يوم.. د صياغة رسالة التغيير على أساس أنّ البلاد تحتاج إلى تواصل مرحلة التحرر الوطني من الاستبداد الحكومي والقمع الرسمي أي: رسالة الحرية هي الإطار الأوسع والأضمن لتحالف الإسلاميين مع اليساريين والنقابيين مع الإعلاميين والتقليديين مع التجديديين والسلفيين مع الصوفيين فلا صوت يعلو فوق صوت الحرية.. ه التعاون على توفير شروط التغيير إنضاجا وتهيئة شرطا بعد شرط أو توازيا لهذا مع ذاك على قاعدة أنّ الأولوية للبناء الاجتماعي بمعناه الواسع العريض نبذا للاشتباكات السياسية في ظل موازين قوى منخرمة بالكامل تقريبا.
بقي سؤال أخير:
سؤال من الذات وإلى الذات لا بد من طرحه بشجاعة.. انتصاب هذه السلطة على امتداد ثلاثة عقود كاملة تقريبا (حتى 2014) انتصابا كاد يلغي المجتمع بأسره فضلا عن مؤسساته وفعالياته وأحزابه ونخبه.. ليس بالتأكيد بسبب قوة مزعومة يخطئ الخطاب عندما يسند إليها من الخوارق البشرية ما تعجز عنه الجنة بمثل ما يخطئ الخطاب المقابل عندما يعاجلها بوابل من السباب والشتيمة مقابلة للتشفي بالتشفي متذرعا بأنه لا يزيد عن وصف الحقيقة غافلا عن كون الحقيقة لا تخطئها العيون حتى تحتاج إلى واصف شاطر ولكن تحتاج العقول إلى رسم خطة للخروج من المأزق.. انتصاب تلك السلطة على امتداد هذه الفترة الطويلة الحالكة لا هو شطارة منها ومهارة حتى وهي مدعومة اشتراطيا ومقايضة من الخارج وبعض شراذم الداخل ولا هو لعنة تلاحق المعارضين والمثقفين والطامحين إلى التغيير والإصلاح.. ولكن السؤال الكبير العملي هو: ما أعدت المعارضة ومن في حكمها حقيقة وحكما لنصب علامات على الطريق المسدود ونصب أخرى على الطريق الصحيح؟ يستوي في ذلك الإسلاميون مع اليساريين والعالمانيين وغيرهم.. بكلمة: نحتاج إلى الإيجابية والمسؤولية والتأهل للمستقبل فضلا عن رص الصفوف والتعاون على المشترك والتوحد الأقوى حول مطلب الحرية بصدق وإخلاص لا بميكافيلية فجة رخيصة.. أما أن يقول القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.. فإنّ الذئب المعتدي سيأكل الثور الأبيض ثم الأسود ولن يدع ثورا حيا يمشي على أربع وإذا لم يكن ذلك الدرس أبلغ درس فلنتعلم كيف نعارض وكيف نغير وكيف نصلح ثم يكون لكل حادث حديث.