مات البوعزيزي، لكن وُلِد الشعب التونسي، كان يمكن أن يمر موته دون أن يتفطن إليه أحدٌ ماعدا عائلته، ولا يرثيه أحدٌ عدا أمّه ولا يبكيه أحدٌ سوى أخته، ولا ينحبه أحدٌ سوى أقرباؤه. أضرم النَّار في جسده النَّحيل، لأنَّ كبرياءه العظيم كان فوق المعتاد، شابٌّ كآلاف التُّونسيين أرهقه الإحباط، مزَّقه الشُّعور بالظُّلم والقهرِ والاستبداد. كغيره من التُّونسيِّين، كان يتألَّم لوضع البلد، ولكنَّ بطش النِّظام كبَّل حركتهُ وأطفأ لهيب الحريَّة داخله، نظامٌ سخَّر كلَّ ما أوتي له من قمعٍ لكبت صوت الشَّعب، وتكبيل حريَّته: من خلال منع الأحزاب، منع الحريَّات، منع الصحافة المستقلة ومنع النقابات. ظنَّ النظام أنَّه بمثل هذه القبضة الحديديَّة سوف يبسطُ نفوذا أزليًّا على الشعب. لكن الأقدار أثبتت أنَّ المسرحية كان لا بدَّ لها من نهايةٍ تراجيديَّةٍ، تفاجئ الجميع. فمن توقَّع رحيلَ بن علي؟ من توقَّع تغيير نظامه؟ من أمل حتَّى في بصيص من الحرية؟. تتسلسل الأحداث وتفاجئ الجميع حتى النظام نفسه. أسئلة كثيرةٌ تطرح، لا أحد يعرف جوابها، على الأقل إلى حدِّ الآن سوى بن علي. كيف لهذا الجنرال المتمرس رجل الأمن القوي، والمْعَلَّم كما يسمونه أن يفرَّ تاركاً وراءهُ شعبا دون حماية، سفينةً دون ربَّان، لماذا لم يختر مخرجا آخر، لماذا فرَّ فرار الجبناء، لماذا هرب هروب الفئران المذعورة، أين تلك الشجاعة التي عوَّدنا عليها، أكان كل ذلك خداعاً، أكان كل ذلك زيفاً؟. مات البوعزيزي، أضرم النَّار في جسده، فكانت الشرارة التي ألهبت نار الثَّورة، وأجَّجت بركانا من الغضب، زعزع أركان نظامٍ قائمٍ منذ الاستقلال، نعم منذ الاستقلال، فتونس استقلت على مرحلتين، الأولى برحيل فرنسا، والثانية برحيل نظام بن علي وما يرمز إليه، نظام قاسٍ شرس، جنَّد نصف المجتمع في أجهزة الدولة، والنِّصف الآخر، لخدمة عائلته الموسَّعة، وبقيت أقليَّةٌ من الشعب تصارع الظلم والظلام، تقاوم الخوف بالصَّمتِ، وتمنِّي النفس ببعضٍ من الأمل علَّه يأتي يوماً ما. كيف لنظام قائمٍ منذ ربع قرن أن ينهار بهذه السهولة، أين هي النسب العالية جدًّا في نتائج الانتخابات، أين هي ميليشيات التجمع التي كانت تملأ الأماكن العامة والمساحات الإعلامية كلَّ يوم، أين هم زبانية الحزب الحاكم، لقد فرُّوا. تنقلب المعادلة وتتلخبط الأمور، والكلُّ يذكر ذلك المشهد المخيف والمحزن المعبِّر في آن واحد، محمَّد البوعزيزي في مواجهة عظيمةٍ مع بن علي. الأوَّل ممدَّدٌ على فراش المرض، لعلَّه يصارع الموت أو لعلَّه يحتضر، بل فعلا إنًَّّه يحتضر، أما الثاني، فكانت بادية عليه علامات الاضطراب والذهول، وهو أكيدٌ يتساءلُ أمِنْ أجل هذا قامت القيامة وانتفضت الشعب، لقد قتلنا طيلة سنوات مئات من الأشخاص، فلم يتكلم أحد، فلماذا الآن بالذات. يموت الشاب الذي أصبح أشهر تونسيٍّ بدون منازع، فلا هو رجل أعمال، ولا رياضي متميز، ولا سياسي محنك، إنَّما ببساطةِ، واحدٌ من أبناء هذه الأرض الطيبة، من أعماق تونس الخضراء التي اِكتساها لونٌ أحمر من جرَّاء الدماء التي أباحها بن علي. بموته تتسارع الأحداث، وتصبح المسألة التونسية في افتتاحيَّة الصحف العالمية ومقدمات نشرات الأخبار، حتَّى التَّلفزة الوطنية أخذتها الأحداث وأصبحت ملزمَةً بتغطيتها، لكن على مزاج النظام، فكانت تنعت القنوات الأجنبية بالمبالغة، ولكن كلُّ همها موجَّها للجزيرة، تلك القناة التي ساهمت في تحرير الألسن. فإن كان البوعزيزي قد أمضى على وثيقة هروب بن علي، فإنَّ قناة الجزيرة قد مهَّدت لهذا الفرار منذ سنوات، فكانت عينَ التُّونسي التي أعماها النظام، وصوته الذِّي أبكمه الظلم، ودمه الذي سفكه المستبد. وكانت أبيات الشابي تدوِّي في فمِ كلِّ تونسيٍّ : إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدَّ أن يستجيب القدر الأبيات نفسها كان يتغنَّى بها النظام، وهو في الواقع كان يدعو الشَّعبَ دون قصد إلى الثورة، إلى الحياة.