رئيس الدولة يؤكد على ضرورة إعادة هيكلة هذه المؤسسات..#خبر_عاجل    بعد الآلة الذكية لكشف نسبة الكحول للسواق...رُد بالك تفوت النسبة هذي    اعتماد نظام الحصة الواحدة في التدريس..ما القصة..؟!    عاجل : وفاة والدة هند صبري    عاجل/ بشرى سارة للمواطنين: "الصوناد" تعلن عن اجراء جديد..    مطار جربة جرجيس يستقبل أكثر من 5700رحلة جوية من 17 دولة    خدمة إلكترونية تحلّك مشكل زحمة ال'' Péage''وتربحك وقت    "كريم الفيتوري يدعو إلى تحالفات بين علامات تونسية لاكتساح أسواق زيت الزيتون العالمية"    نقطة تحول في مسيرة العلامة التجارية/ "أودي" طلق سيارتها الجديدة "Q6 e-tron": أنور بن عمار يكشف السعر وموعد انطلاق التسويق..    يعاني وضعًا صحيًا صعبًا.. ما هو مرض لطفي لبيب؟    حمدي حشّاد: الصيف في هذه المناطق أصبح يتجاوز ما يتحمّله جسم الإنسان    عاجل : حريق ضخم يدمّر المسرح الرئيسي ل Tomorrowland قبل انطلاقه بساعات    الجامعة التونسية لكرة القدم تصدر بلاغ هام..#خبر_عاجل    مدرب الحراس التونسي مجدي مناصرية يلتحق بنادي يانغ افريكانز التنزاني    بعثة الأهلي تطير إلي تونس صباح الجمعة لاجراء تربص تحضيري    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة من هبوب رياح قوية..    تحذير: موجة حرّ خانقة تضرب تونس...وذروتها يوم الإثنين!    كيفاش يتحسب السكور وانت ناجح من دورة المراقبة 2025؟    حرائق، حوادث، وشواطئ... حصيلة ثقيلة في 24 ساعة فقط    عاجل/ الاطاحة بشخص مصنّف خطير..وهذه التفاصيل..    فظيع/ مشاجرة تنتهي بجريمة قتل..!    مهرجان الحمامات الدولي: مسرحية "ام البلدان" تستعير الماضي لتتحدث عن الحاضر وعن بناء تونس بالأمس واليوم    ''ننّي ننّي جاك النوم''... الغناية اللي رقدنا عليها صغار...أوّل مرّة بش تقراها كاملة    الدورة 45 لمهرجان صفاقس الدولي تراهن على تشجيع الإبداع التونسي ببرمجة 17 عرضا تونسيا من بين 20    هل الضوء في الصيف يزيد من حرارة المنزل؟ الحقيقة العلمية!    الزهروني: منحرف يروّع المواطنين بسيف والأمن يُطيح به في كمين محكم    ملتقى لياج الدولي لالعاب القوى ببلجيكا: التونسي عبد السلام العيوني يحرز المركز الرابع لسباق 1000م    سبالينكا لن تشارك في بطولة مونتريال للتنس قبل أمريكا المفتوحة    زلزال بقوة 7.3 درجة على سلم ريختر يضرب ألاسكا الأمريكية وتحذيرات من تسونامي    كارثة "إير إنديا": تسجيل صوتي يثير شبهات حول تصرف الطيار في قطع وقود المحركات    ما القصة؟ البلايلي بين المولودية والترجي    ترامب يصف أعضاء الحزب الجمهوري الذين يتهمونه بالارتباط بإبستين ب"السذج"    قيس سعيّد: مراجعة جذرية للصناديق الاجتماعية لبناء دولة عادلة    إلغاء محطة استخلاص "سوسة/القلعة الصغرى" يثير تساؤلات حول الرسوم والتسهيلات الرقمية: توضيحات من المدير التجاري لشركة الطرقات السيارة    "تعبت".. تدوينة مؤثرة ترافق استقالة مفاجئة للنائبة سيرين مرابط وتثير تفاعلاً واسعًا    فاجعة تهز العراق.. مقتل 50 شخصا إثر حريق ضخم في الكوت    التفويت بالدينار الرمزي لفائدة مؤسسة مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان    تأجيل الإضراب في قطاع الفلاحة إلى 20 أوت المقبل بعد جلسة صلحية    الجيش السوري يبدأ بسحب قواته من السويداء تنفيذا للاتفاق مع شيوخ الدروز ووجهاء المدينة    شرب الماء من أجل التخسيس: خرافة أم حليف فعلي للرشاقة؟    من التعب إلى التنميل : 11علامة على ارتفاع السكر في الدم... لا تهملها!    تاريخ الخيانات السياسية (17).. .مروان الحمار وخيانة صهره    دعم الورق المستعمل في صناعة الكتب    عطر 24 وبوشناق ..وصابر الرباعي للاهتمام ...مداخيل فاقت المليار في الدورة الفارطة    الليلة: خلايا رعدية محلية وأمطار متفرقة بالوسط الغربي    بنزرت: " رحلة أجيال ، من خميس ترنان إلى فيصل رجيبة " تفتتح الدورة 42 لمهرجان بنزرت الدولي    تجميع أكثر من مليون و300 الف قنطار من الحبوب بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    تونس: اللحوم الحمراء قد يصل سعرها إلى 80 دينار!    وزارة التجارة تعلن عن تنفيذ برنامج إستثنائي لتزويد السوق بمادة القهوة الموجّهة للإستهلاك العائلي    دراسة تحذر وتكشف: المُحليات قد تُسبّب البلوغ المبكر لدى الأطفال ومشاكل في الإنجاب..!#خبر_عاجل    الشبيبة القيروانية: ود منتظر أمام النادي الإفريقي .. وثلاثي يمضي غدا    "رَست" و"السارة و النوباتونز" يصدحان بأوجاع الاغتراب في المهجر على ركح مهرجان الحمامات الدولي    ديار جدودنا كانت تبرد، توا ديارنا تغلي... علاش؟    دوري نجوم قطر: نادي الغرافة يحسم مصير "فرجاني ساسي"    تاريخ الخيانات السياسية (16) .. تآمر ابن سُريج مع خاقان    تاريخ الخيانات السياسية (15)نهاية ملوك إفريقية    لحظة مذهلة في مكة: تعامد الشمس على الكعبة وتحديد دقيق للقبلة    التوانسة الليلة على موعد مع ''قمر الغزال'': ماتفوّتش الفرصة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمة تحترق.. لتبقى
نشر في الحوار نت يوم 29 - 01 - 2011

كتب أريك هوفر مرة يقول "يحسب الناس أن الثورة تأتي بالتغيير، لكن العكس هو الصحيح". وقد صدق ذلك الفيلسوف الأميركي، فالتغيير هو الذي يأتي بالثورة: تغيير النفوس، والثقافة السياسية، والمعايير الأخلاقية.. ومما يبشر بخير تراكمُ تغييرٍ عميقٍ في نفوس شعوبنا وثقافتها خلال العقدين المنصرمين، وهو ما وضع الدول العربية على درب ديناميكية ثورية، لن تتوقف حتى تصل مداها وتؤتي أكلها.
فمنذ أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه أمام مبنى الولاية في مدينة سيدي بوزيد التونسية يوم الجمعة 17 دسمبر/كانون الأول الماضي وأنباء الاحتراق تدوّي في الإعلام العربي.
فقد تكررت الظاهرة في بلدان عربية عدة خلال بضعة أسابيع. لكن الاحتراق في أمتنا المكلومة في كرامتها لم يبدأ الشهر الماضي، بل بدأ مع حركات التحرر منتصف القرن العشرين، مرورا بالعمليات الاستشهادية في فلسطين وغيرها.. وما نراه اليوم هو تحول عملية الاحتراق الذاتي هذه من مقاومة للظلم الخارجي، إلى ثورة على الظلم الداخلي، ومن سيف موجه للغير إلى سهم موجه للذات، ومن فعل تدميري إلى رمز تعبيري..
وهو ما يدل على بركان كامن في نفوس لم تعد تثق في حكامها مثقال ذرة، أو تعوّل على نخبها المعارضة كثيرا. فما نشهده اليوم أقرب ما يكون إلى ما سماه لينين "حالة ثورية"، لا ينقصها سوى حسن التسديد وصلابة الإرادة.
وأهم ملامح هذه الديناميكية الثورية الجديدة دخول عامة الشعب معركة التغيير بكثافة وجرأة غير معهودة في العقود الماضية، وهو أمر لم يكن الحكام يحسبون له حسابا من قبل، والطابع الديمقراطي الذي لا لبس فيه على خلاف الانقلابات العسكرية التي تسمت ثورات في العقود الخالية، ثم عدم الرضا بما دعاه الفيلسوف جون لوك "سلام المقابر"، فلم تعد الشعوب العربية راضية بالدون، أو مستسلمة للذل والقهر.
لقد كانت تونس فاتحة الخير، وها نحن اليوم نشهد بشائر الثورة الشعبية تحمل نسائم الفجر الجديد إلى مصر واليمن ومواطن عربية أخرى. فكيف نحوّل هذا الاحتراق الاحتجاجي إلى تغيير منهجي مضمون الثمرات؟
لقد لخص المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي عوامل نجاح الثورات -أو "قواعد رفع الاستبداد" كما سماها- في ثلاثة:
أولها- عموم الإحساس بالقهر والغبن لدى عامة الشعب، "فالأمة التي لا يشعر كلها أو أغلبها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية" حسب تعبيره، وهذا قريب مما دعاه لينين "الحالة الثورية".
ثانيها- الالتزام بمنهج النضال المدني في مقارعة المستبدين، "فالاستبداد لا يقاوم بالشدة، وإنما يُقاوَم باللين والتدرج". وكم يتمنى المستبدون تحول الثورات إلى عنف أهوج، من أجل نزع الشرعية عن غاياتها الشرعية.
ثالثها- إعداد البديل السياسي، والتواضع على قواعد لتداول السلطة قبل البدء بالثورة، إذ "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد" (طبائع الاستبداد، ص 179).
وقد اشتملت ثورة تونس على دروس عظيمة يحسن بنا أن نتأملها، ونحن نضع أقدامنا اليوم على درب الثورة في أكثر من بلد عربي. من هذه الدروس:
أولا- أن الحرية ليست صدقة من دول الغرب التي طالما رعت الاستبداد في بلداننا، وهي تعظنا -نفاقا- بقيم الديمقراطية، كما أن التحرير عبر التدمير -على طريقة الأميركيين في العراق- ليس خيارا لأمتنا، بل هو امتهان للذات، واستسلام لمنقذ أجنبي غير نزيه.
ثانيا- أن حسن التسديد شرط من شروط نجاح الثورة. ويقتضي حسن التسديد اجتناب العنف الأعمى، فقد ضاعت فرصة الثورة الشعبية في الجزائر مطلع التسعينيات لأن الجنرالات الفرانكفونيين -ومن خلفهم فرنسا- نجحوا في تحويلها إلى مواجهة دموية هوجاء.
ثالثا- أن الوقوف في منتصف الطريق خيار بائس، وهو أقصر طريق لوأد الثورات وتبديد التضحيات. وكما كتب الفقيه السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل منذ 150 عاما "إن الثورة مثل الرواية، أصعب ما فيها هو نهايتها". فلا يجوز أن تقبل شعوبنا بعد اليوم ترقيعا ولا التفافا، أو أن ترضى بما دون تفكيك بنية الاستبداد.
رابعا- أن التغيير لن يحصل بدون جهود الجميع وتضحياتهم. لقد كان الصراع -إلى عهد قريب- صراع نخبة ضد نخبة، أو بتعبير أدق كان صراعا بين تنظيم سري اسمه "الحركة الإسلامية"، وتنظيم سري آخر اسمه "الأمن المركزي" أو "المباحث العامة"، ولم يتحول إلى تدافع اجتماعي شامل يجعل التغيير حتميا.
لقد احترقت الحركات الإسلامية في وجه الاستبداد خلال العقود الثلاثة الماضية، فكان لها الشرف في اجتراح البطولات ومقارعة الظلم يوم كانت عامة الشعب تنظر من بعيد إلى الصراع الدائر وكأنه لا يعنيها.
لكن مشكلة الصراع بين النخب أيا كانت هي أنه صراع على حكم الشعب لا على تحريره، وما نحن بحاجة إليه اليوم هو تحرير الشعوب، وهو أمر لا يتحقق إلا بنزول الشعب بثقله إلى المعركة وفرض منطقه الخاص، فمشاركة الجميع في الثورة ضمان سلميتها وقلة كلفتها ونضج ثمرتها.
إن في أعمار الأمم لحظات بطولة ولحظات بناء، فلحظات البطولة لا تهدف إلى البناء، بل إلى الهدم، هدم الكيان الظالم الذي يقف في وجه الحضارة. وقد بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة على "الدم الدم والهدم الهدم". والحق أن الحضارة يشق طريقها الشهداء الذين يعطون ولا يأخذون، ويضع أسسها العلماء الذي يعطون ويأخذون، ويفرّط فيها الأمراء الذين يأخذون ولا يعطون. وقد لاحظ المفكر مالك بن نبي أن الأبطال لا يقاتلون "من أجل البقاء، بل في سبيل الخلود" (بن نبي، شروط النهضة، ص 21).
وقد سار الحاملون لهمِّ النهضة في هذه الأمة أشواطا طويلة على درب البطولة، فاحترقوا شموعا وضاءة في وجه الاستعمار والاستعباد، وهاهم اليوم يشتعلون سُرُجا وهاجة في وجه الاستبداد والفساد. والبطولة ضرورة لتسوية النتوءات القبيحة، وفتح الثغرات في الطريق المسدود. ثم إن البطولة عملة نادرة بين البشر، وقد صدق الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش إذ كتب في كتابه "هروبي إلى الحرية" يقول "لم يُغنِّ الشعب للذكاء، وإنما غنَّى للشجاعة... لأنها الأكثر ندرة".
بيد أن البطولة وحدها لا تكفي، فهي تشق الطريق، لكنها لا تبني على جنبيه صروح العدل والحرية، ولا تحفظ العزة والكرامة على المدى البعيد، حينما يخمد وهَج الفداء وتركن النفوس إلى الحياة. وإنما يتم القطاف لثمار البطولات بوضوح الرؤية وعمق الفكرة. فشعوبنا اليوم بحاجة إلى التفكير في النهايات قبل البدايات، والتخطيط لما بعد الثورة قبل البدء في الثورة، وإلى استيعاب ما تمنحه ثورة الاتصالات من قدرة، وتجارب الثورات العالمية من خبرة.
لقد قدمت أمتنا ملايين الشهداء في القرن العشرين للتخلص من الاستعباد الخارجي، من الاستعمار الفرنسي للجزائر إلى الاستعمار السوفياتي لأفغانستان، لكن حصاد تلك التضحيات كان هزيلا جدا: حفنة من الجنرالات الفاسدين يتحكمون في رقاب الناس، أو فوضى عارمة يتقاتل فيها إخوة السلاح السابقون على فتات غنائم الاستقلال. وقد تلاعب العسكريون المُجدِبون من كل قيم الحرية والإنسانية بعواطف الجماهير، وجنوا ثمرات جهدها وجهادها ضد الاستعمار، مستغلين ضعف مستوى التعليم والوعي السياسي حينها.
ولو كانت شعوبنا على قدر من الوعي والبصيرة السياسية صبيحة رحيل الاستعمار، لكانت أدركت أن الحرية من الاستبداد صنوٌ للتحرر من الاستعمار، وأن الشرعية السياسية لا تُكتسب تلقائيا، وإنما تُمنح من الشعب تصريحا لا تلميحا، دون لبس ولا مجاز.
فقد قاد الجنرال ديغول معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، لكن ذلك لم يمنحه شرعية قيادة الدولة الفرنسية صبيحة رحيل الألمان، بل كان عليه أن ينتظر الحصول على تفويض من الشعب بعد عقد من الزمان. وشعوبنا تساس اليوم بعسكريين فاسدين لم يمتلكوا شرعية الشعب ابتداء، ولا حتى شرعية النضال ضد الاستعمار التي امتلكها أسلافهم.
لقد احترقت أمتنا على فوهات مدافع الاستعمار العسكري منتصف القرن العشرين، ثم احترقت في وجه الاستعمار السياسي وبربرية الحضارة مطلع القرن الواحد والعشرين، وها هي اليوم تحترق في وجه الاستبداد الذي يعدّ وريث الاستعمار ومُخلِّد ذكراه.
وهذا الاحتراق الذي نعيشه اليوم أنبل الحرائق، وأسدُّها مَضرِبا، وأعمقها أثرا. وسيظل وهَج هذا الحريق وضاء حتى تضمن أمتنا لنفسها البقاء والعزة والكرامة.. وليس مطلوبا أن يحرق شبابنا أنفسهم، فذلك ظلم لأنفسهم ولنا، بل أن يحرقوا عروش الظلم والاستبداد والفساد.
لقد نادى منادي الثورة، وأشرقت وجوه الشعوب العربية، وما هو إلا صبر ساعة، ودفع ضريبة الحرية. وها نحن نرى الجمْع الهادر وقد احتشد في الحواضر، على نحو ما صوره خيال أبي الأحرار اليمنيين الشهيد محمد محمود الزبيري:
الملايين العطاش المشرئبَّهْ ** بدأت تقتلع الطاغي وصحبَهْ
سامها الحرمانَ دهراً لا يرى ال**غيث إلا غيثه والسُّحبَ سُحبَهْ
لم تنل جرعة ماءٍ دون أن ** تتقاضاه بحرب أو بغَضْبَهْ
ظمِئتْ في قيده، وهْي ترى ** أَكله من دمها الغالي وشُربَهْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.