القيروان.. 7 مصابين في حادث مرور    أمين عام الأمم المتحدة.. العالم يجب ألاّ يخشى ردود أفعال إسرائيل    أخبار مستقبل قابس...عزم على ايقاف نزيف النقاط    صفاقس شاطئ الشفار بالمحرس..موسم صيفي ناجح بين التنظيم والخدمات والأمان!    نفذته عصابة في ولاية اريانة ... هجوم بأسلحة بيضاء على مكتب لصرف العملة    استراحة «الويكاند»    28 ألف طالب يستفيدوا من وجبات، منح وسكن: شوف كل ما يوفره ديوان الشمال!    ميناء جرجيس يختتم موسمه الصيفي بآخر رحلة نحو مرسيليا... التفاصيل    توقّف مؤقت للخدمات    محرز الغنوشي:''الليلة القادمة عنوانها النسمات الشرقية المنعشة''    مع الشروق : العربدة الصهيونية تحت جناح الحماية الأمريكية    رئيس "الفيفا" يستقبل وفدا من الجامعة التونسية لكرة القدم    عاجل/ عقوبة ثقيلة ضد ماهر الكنزاري    هذا ما قرره القضاء في حق رجل الأعمال رضا شرف الدين    الاتحاد الدولي للنقل الجوي يؤكد استعداده لدعم تونس في تنفيذ مشاريعها ذات الصلة    بنزرت: مداهمة ورشة عشوائية لصنع "السلامي" وحجز كميات من اللحوم    عاجل/ المغرب تفرض التأشيرة على التونسيين.. وتكشف السبب    عفاف الهمامي: أكثر من 100 ألف شخص يعانون من الزهايمر بشكل مباشر في تونس    الترجي الجرجيسي ينتدب الظهير الأيمن جاسر العيفي والمدافع المحوري محمد سيسوكو    رابطة أبطال إفريقيا: الترجي يتجه إلى النيجر لمواجهة القوات المسلحة بغياب البلايلي    عاجل/ غزّة: جيش الاحتلال يهدّد باستخدام "قوة غير مسبوقة" ويدعو إلى إخلاء المدينة    قريبا: الأوكسجين المضغوط في سوسة ومدنين... كيف يساعد في حالات الاختناق والغوص والسكري؟ إليك ما يجب معرفته    البنك التونسي للتضامن يقر اجراءات جديدة لفائدة صغار مزارعي الحبوب    عائدات زيت الزيتون المصدّر تتراجع ب29،5 بالمائة إلى موفى أوت 2025    أريانة: عملية سطو مسلح على مكتب لصرف العملة ببرج الوزير    سطو على فرع بنكي ببرج الوزير اريانة    أكثر من 400 فنان عالمي يطالبون بإزالة أغانيهم من المنصات في إسرائيل    عاجل: تونس تنجو من كارثة جراد كادت تلتهم 20 ألف هكتار!    دعوة للترشح لصالون "سي فود إكسبو 2026" المبرمج من 21 إلى 23 أفريل 2026 ببرشلونة    بعد 20 عاماً.. رجل يستعيد بصره بعملية "زرع سن في العين"    توزر: حملة جهوية للتحسيس وتقصي سرطان القولون في عدد من المؤسسات الصحية    10 أسرار غريبة على ''العطسة'' ما كنتش تعرفهم!    عاجل- قريبا : تركيز اختصاص العلاج بالأوكسيجين المضغوط بولايتي مدنين وسوسة    عاجل/ مقتل أكثر من 75 مدنيا في قصف لمسجد بهذه المنطقة..    مهذّب الرميلي يشارك في السباق الرمضاني من خلال هذا العمل..    قريبا القمح والشعير يركبوا في ''train''؟ تعرف على خطة النقل الجديدة    شنية حكاية النظارات الذكية الجديدة الى تعمل بالذكاء الاصطناعي...؟    بلاغ مهم لمستعملي طريق المدخل الجنوبي للعاصمة – قسط 03    نقابة الصيدليات الخاصة تدعو الحكومة إلى تدخل عاجل لإنقاذ المنظومة    مجلس الأمن يصوّت اليوم على احتمال إعادة فرض العقوبات على إيران    أغنية محمد الجبالي "إلا وأنا معاكو" تثير عاصفة من ردود الأفعال بين التنويه والسخرية    البطولة العربية لكرة الطاولة - تونس تنهي مشاركتها بحصيلة 6 ميداليات منها ذهبيتان    ما تفوتهاش: فضائل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة!    حملة تلقيح مجانية للقطط والكلاب يوم الاحد المقبل بحديقة النافورة ببلدية الزهراء    المعهد الوطني للتراث يصدر العدد 28 من المجلة العلمية "افريقية"    افتتاح شهر السينما الوثائقية بالعرض ما قبل الأول لفيلم "خرافة / تصويرة"    جريمة مروعة/ رجل يقتل أطفاله الثلاثة ويطعن زوجته..ثم ينتحر..!    بطولة العالم للكرة الطائرة رجال الفلبين: تونس تواجه منتخب التشيك في هذا الموعد    شهداء وجرحى بينهم أطفال في قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة..# خبر_عاجل    هذه الشركة تفتح مناظرة هامة لانتداب 60 عونا..#خبر_عاجل    في أحدث ظهور له: هكذا بدا الزعيم عادل إمام    تصدرت محركات البحث : من هي المخرجة العربية المعروفة التي ستحتفل بزفافها في السبعين؟    عاجل : شيرين عبد الوهاب تواجه أزمة جديدة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    سعيد: "لم يعد مقبولا إدارة شؤون الدولة بردود الفعل وانتظار الأزمات للتحرّك"    خطبة الجمعة .. أخطار النميمة    وخالق الناس بخلق حسن    يا توانسة: آخر أيام الصيف قُربت.. تعرف على الموعد بالضبط!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمة تحترق.. لتبقى
نشر في الحوار نت يوم 29 - 01 - 2011

كتب أريك هوفر مرة يقول "يحسب الناس أن الثورة تأتي بالتغيير، لكن العكس هو الصحيح". وقد صدق ذلك الفيلسوف الأميركي، فالتغيير هو الذي يأتي بالثورة: تغيير النفوس، والثقافة السياسية، والمعايير الأخلاقية.. ومما يبشر بخير تراكمُ تغييرٍ عميقٍ في نفوس شعوبنا وثقافتها خلال العقدين المنصرمين، وهو ما وضع الدول العربية على درب ديناميكية ثورية، لن تتوقف حتى تصل مداها وتؤتي أكلها.
فمنذ أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه أمام مبنى الولاية في مدينة سيدي بوزيد التونسية يوم الجمعة 17 دسمبر/كانون الأول الماضي وأنباء الاحتراق تدوّي في الإعلام العربي.
فقد تكررت الظاهرة في بلدان عربية عدة خلال بضعة أسابيع. لكن الاحتراق في أمتنا المكلومة في كرامتها لم يبدأ الشهر الماضي، بل بدأ مع حركات التحرر منتصف القرن العشرين، مرورا بالعمليات الاستشهادية في فلسطين وغيرها.. وما نراه اليوم هو تحول عملية الاحتراق الذاتي هذه من مقاومة للظلم الخارجي، إلى ثورة على الظلم الداخلي، ومن سيف موجه للغير إلى سهم موجه للذات، ومن فعل تدميري إلى رمز تعبيري..
وهو ما يدل على بركان كامن في نفوس لم تعد تثق في حكامها مثقال ذرة، أو تعوّل على نخبها المعارضة كثيرا. فما نشهده اليوم أقرب ما يكون إلى ما سماه لينين "حالة ثورية"، لا ينقصها سوى حسن التسديد وصلابة الإرادة.
وأهم ملامح هذه الديناميكية الثورية الجديدة دخول عامة الشعب معركة التغيير بكثافة وجرأة غير معهودة في العقود الماضية، وهو أمر لم يكن الحكام يحسبون له حسابا من قبل، والطابع الديمقراطي الذي لا لبس فيه على خلاف الانقلابات العسكرية التي تسمت ثورات في العقود الخالية، ثم عدم الرضا بما دعاه الفيلسوف جون لوك "سلام المقابر"، فلم تعد الشعوب العربية راضية بالدون، أو مستسلمة للذل والقهر.
لقد كانت تونس فاتحة الخير، وها نحن اليوم نشهد بشائر الثورة الشعبية تحمل نسائم الفجر الجديد إلى مصر واليمن ومواطن عربية أخرى. فكيف نحوّل هذا الاحتراق الاحتجاجي إلى تغيير منهجي مضمون الثمرات؟
لقد لخص المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي عوامل نجاح الثورات -أو "قواعد رفع الاستبداد" كما سماها- في ثلاثة:
أولها- عموم الإحساس بالقهر والغبن لدى عامة الشعب، "فالأمة التي لا يشعر كلها أو أغلبها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية" حسب تعبيره، وهذا قريب مما دعاه لينين "الحالة الثورية".
ثانيها- الالتزام بمنهج النضال المدني في مقارعة المستبدين، "فالاستبداد لا يقاوم بالشدة، وإنما يُقاوَم باللين والتدرج". وكم يتمنى المستبدون تحول الثورات إلى عنف أهوج، من أجل نزع الشرعية عن غاياتها الشرعية.
ثالثها- إعداد البديل السياسي، والتواضع على قواعد لتداول السلطة قبل البدء بالثورة، إذ "يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد" (طبائع الاستبداد، ص 179).
وقد اشتملت ثورة تونس على دروس عظيمة يحسن بنا أن نتأملها، ونحن نضع أقدامنا اليوم على درب الثورة في أكثر من بلد عربي. من هذه الدروس:
أولا- أن الحرية ليست صدقة من دول الغرب التي طالما رعت الاستبداد في بلداننا، وهي تعظنا -نفاقا- بقيم الديمقراطية، كما أن التحرير عبر التدمير -على طريقة الأميركيين في العراق- ليس خيارا لأمتنا، بل هو امتهان للذات، واستسلام لمنقذ أجنبي غير نزيه.
ثانيا- أن حسن التسديد شرط من شروط نجاح الثورة. ويقتضي حسن التسديد اجتناب العنف الأعمى، فقد ضاعت فرصة الثورة الشعبية في الجزائر مطلع التسعينيات لأن الجنرالات الفرانكفونيين -ومن خلفهم فرنسا- نجحوا في تحويلها إلى مواجهة دموية هوجاء.
ثالثا- أن الوقوف في منتصف الطريق خيار بائس، وهو أقصر طريق لوأد الثورات وتبديد التضحيات. وكما كتب الفقيه السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل منذ 150 عاما "إن الثورة مثل الرواية، أصعب ما فيها هو نهايتها". فلا يجوز أن تقبل شعوبنا بعد اليوم ترقيعا ولا التفافا، أو أن ترضى بما دون تفكيك بنية الاستبداد.
رابعا- أن التغيير لن يحصل بدون جهود الجميع وتضحياتهم. لقد كان الصراع -إلى عهد قريب- صراع نخبة ضد نخبة، أو بتعبير أدق كان صراعا بين تنظيم سري اسمه "الحركة الإسلامية"، وتنظيم سري آخر اسمه "الأمن المركزي" أو "المباحث العامة"، ولم يتحول إلى تدافع اجتماعي شامل يجعل التغيير حتميا.
لقد احترقت الحركات الإسلامية في وجه الاستبداد خلال العقود الثلاثة الماضية، فكان لها الشرف في اجتراح البطولات ومقارعة الظلم يوم كانت عامة الشعب تنظر من بعيد إلى الصراع الدائر وكأنه لا يعنيها.
لكن مشكلة الصراع بين النخب أيا كانت هي أنه صراع على حكم الشعب لا على تحريره، وما نحن بحاجة إليه اليوم هو تحرير الشعوب، وهو أمر لا يتحقق إلا بنزول الشعب بثقله إلى المعركة وفرض منطقه الخاص، فمشاركة الجميع في الثورة ضمان سلميتها وقلة كلفتها ونضج ثمرتها.
إن في أعمار الأمم لحظات بطولة ولحظات بناء، فلحظات البطولة لا تهدف إلى البناء، بل إلى الهدم، هدم الكيان الظالم الذي يقف في وجه الحضارة. وقد بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة على "الدم الدم والهدم الهدم". والحق أن الحضارة يشق طريقها الشهداء الذين يعطون ولا يأخذون، ويضع أسسها العلماء الذي يعطون ويأخذون، ويفرّط فيها الأمراء الذين يأخذون ولا يعطون. وقد لاحظ المفكر مالك بن نبي أن الأبطال لا يقاتلون "من أجل البقاء، بل في سبيل الخلود" (بن نبي، شروط النهضة، ص 21).
وقد سار الحاملون لهمِّ النهضة في هذه الأمة أشواطا طويلة على درب البطولة، فاحترقوا شموعا وضاءة في وجه الاستعمار والاستعباد، وهاهم اليوم يشتعلون سُرُجا وهاجة في وجه الاستبداد والفساد. والبطولة ضرورة لتسوية النتوءات القبيحة، وفتح الثغرات في الطريق المسدود. ثم إن البطولة عملة نادرة بين البشر، وقد صدق الرئيس البوسني الأسبق علي عزت بيغوفيتش إذ كتب في كتابه "هروبي إلى الحرية" يقول "لم يُغنِّ الشعب للذكاء، وإنما غنَّى للشجاعة... لأنها الأكثر ندرة".
بيد أن البطولة وحدها لا تكفي، فهي تشق الطريق، لكنها لا تبني على جنبيه صروح العدل والحرية، ولا تحفظ العزة والكرامة على المدى البعيد، حينما يخمد وهَج الفداء وتركن النفوس إلى الحياة. وإنما يتم القطاف لثمار البطولات بوضوح الرؤية وعمق الفكرة. فشعوبنا اليوم بحاجة إلى التفكير في النهايات قبل البدايات، والتخطيط لما بعد الثورة قبل البدء في الثورة، وإلى استيعاب ما تمنحه ثورة الاتصالات من قدرة، وتجارب الثورات العالمية من خبرة.
لقد قدمت أمتنا ملايين الشهداء في القرن العشرين للتخلص من الاستعباد الخارجي، من الاستعمار الفرنسي للجزائر إلى الاستعمار السوفياتي لأفغانستان، لكن حصاد تلك التضحيات كان هزيلا جدا: حفنة من الجنرالات الفاسدين يتحكمون في رقاب الناس، أو فوضى عارمة يتقاتل فيها إخوة السلاح السابقون على فتات غنائم الاستقلال. وقد تلاعب العسكريون المُجدِبون من كل قيم الحرية والإنسانية بعواطف الجماهير، وجنوا ثمرات جهدها وجهادها ضد الاستعمار، مستغلين ضعف مستوى التعليم والوعي السياسي حينها.
ولو كانت شعوبنا على قدر من الوعي والبصيرة السياسية صبيحة رحيل الاستعمار، لكانت أدركت أن الحرية من الاستبداد صنوٌ للتحرر من الاستعمار، وأن الشرعية السياسية لا تُكتسب تلقائيا، وإنما تُمنح من الشعب تصريحا لا تلميحا، دون لبس ولا مجاز.
فقد قاد الجنرال ديغول معركة تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، لكن ذلك لم يمنحه شرعية قيادة الدولة الفرنسية صبيحة رحيل الألمان، بل كان عليه أن ينتظر الحصول على تفويض من الشعب بعد عقد من الزمان. وشعوبنا تساس اليوم بعسكريين فاسدين لم يمتلكوا شرعية الشعب ابتداء، ولا حتى شرعية النضال ضد الاستعمار التي امتلكها أسلافهم.
لقد احترقت أمتنا على فوهات مدافع الاستعمار العسكري منتصف القرن العشرين، ثم احترقت في وجه الاستعمار السياسي وبربرية الحضارة مطلع القرن الواحد والعشرين، وها هي اليوم تحترق في وجه الاستبداد الذي يعدّ وريث الاستعمار ومُخلِّد ذكراه.
وهذا الاحتراق الذي نعيشه اليوم أنبل الحرائق، وأسدُّها مَضرِبا، وأعمقها أثرا. وسيظل وهَج هذا الحريق وضاء حتى تضمن أمتنا لنفسها البقاء والعزة والكرامة.. وليس مطلوبا أن يحرق شبابنا أنفسهم، فذلك ظلم لأنفسهم ولنا، بل أن يحرقوا عروش الظلم والاستبداد والفساد.
لقد نادى منادي الثورة، وأشرقت وجوه الشعوب العربية، وما هو إلا صبر ساعة، ودفع ضريبة الحرية. وها نحن نرى الجمْع الهادر وقد احتشد في الحواضر، على نحو ما صوره خيال أبي الأحرار اليمنيين الشهيد محمد محمود الزبيري:
الملايين العطاش المشرئبَّهْ ** بدأت تقتلع الطاغي وصحبَهْ
سامها الحرمانَ دهراً لا يرى ال**غيث إلا غيثه والسُّحبَ سُحبَهْ
لم تنل جرعة ماءٍ دون أن ** تتقاضاه بحرب أو بغَضْبَهْ
ظمِئتْ في قيده، وهْي ترى ** أَكله من دمها الغالي وشُربَهْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.