في هذا الكم الهائل من المشهد الاعلامي الذي يغطي وسائط الاعلام، شدني مشهدان إلى حد الذهول، والذهول هو لحظة ما بين الحقيقة والخيال.. بين الحلم والواقع.. المشهد الأول لرجل عاش متخفيا عن الانظار مدة عشرين عامًا... بحرها وقرها، بليلها ونهارها... يحذر ان ترقبه عين.. وما اكثر العيون المزلقة في بلدي في زمن نظنه قضى .. أما المشهد الثاني، فهو مشهد الجلاد في خطابه الأخير وهو يتوسل الخلاص حين يدعي أنه فهم في حالة مهانة لا يرضاها صاحب كرامة لنفسه.. إنهما المشهدان ذاتهما يتكرران عبر الزمان، مشهد الضحية والجلاد في لحظات الحساب.. اما الضحية، الذي ضحى بخطيبته وأهله، وغزا رأسه الشيب، وبدا شاحبًا مثل إسفنجة مرت عليها شموس الدهر، فبدا قويا واثقا كأيوب عندما دبت فيه الحياة بعد الابتلاء العظيم. قبل أن يرى أهله، سارع إلى مكرفون الجزيرة، ليعلن انبعاثه من جديد.. لحظتها ابكاني من الفرح... لقد كان يصدع بميراث سنين العذاب.. ولكن كمن ملك كل شيء، لان تضحياته لم تذهب سدى... وهو في الحقيقة لن ينال شيئا اجمل مما ناله: الحرية... أستغرب أحيانًا أيضًا، كيف لا تذهب الفرحة العظمى بأرواح بعض الناس، أولائك الذين لم يروا يوما منيرا في حياتهم... لعلها غريزة حب البقاء التي تتحدى الموت.. تقهر القهر، فيفسح لها الطريق مستسلمًا... أفكر بيني وبين نفسي، ألا يوجد مقياس للفرح، ولم اجد جوابًا، لأن لحظات بعينها من الفرج، تملا ما بين السماء والأرض، ولذلك سيظل الانسان عاجزًا عن صنع تلك الآلة...
أما الطاغية، فقد بدا كعادته أنيقا، لكنها أناقة النعيم الحرام، فبدا مصفر الوجه... ريقه ناشف كما يقول التونسيون، وكم نشف من ريق والدة دمعتها حرى... فاض الحساب على الحساب وجاء وقت تسديد الحساب، وجاءك يومك يا ظالم... إنه اراه الان يستجدى، يطلب فرصة أخيرة... ولكن عيال الله، كانوا يرددون: الآن و قد اجرمت قبل، ارحل..
يا لها من لحظة قاسية عندما يتسلل المجرم في جنح الظلام ذليلا، دون أمل إذ قطعه بسفك الدماء فلا رحم بينه و بين هذه الارض التي تحملته طويلا، حتى جاء امر الله... الذين تسبب في إخراجهم متسللين في جنح الظلام، اكرمتهم البلاد التي آوتهم و كانوا جيران خير في الدنيا، فنفعوا و استفادوا، ثم عادوا بعزة من نفس المطار الذي ركله بعيدًا، فكان جار سوء لمن جاوره، ولعنة على الذين آووه ليعيش ممنوعا من السفر كخلق الله...
نعم هذا هو المشهد السوريالي كما يقولون، ففي كل مرة نرى الآيات، ولكننا ننسى، فالله ينجي الفرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية، ولكن الفراعنة يمرون عن الآيات وهم عنها غافلون.