أيّ هوية للكاتب التونسي اليوم؟ وأيّ دور له؟ محمد آيت ميهوب من بين الأسئلة التي دفعت ثورةُ الشعب التونسي إلى طرحها، تساؤلُ الشريحة الاجتماعية المسماة تقليديا "النخبة المثقفة" عن صورتها في المستقبل وعن الدور الذي يمكن أن تلعبه في النظام الديمقراطي الجديد الذي ظلت النخبة تحلم به عقودا من السنين واستطاع أبناء الشعب، شبابه وفقراؤه وهامشيوه، أن يحطموا كل العوائق التي كانت تحول دون ذلك الحلم وينطلقوا به عابرين سموات المثل إلى أرض الواقع ويقدموه هدية للنخبة نفسها. بيد أنّ أيّ تفكير في المستقبل يشترط بالضرورة تقويما ذاتيا للماضي القريب منه والبعيد، وإنّ أيّ بحث عن الموقع الذي ينبغي على الكاتب أن يقف فيه اليوم يشترط منه بالضرورة أيضا أن ينظر إلى الأسفل فيما بين قدميه ويتأمل الموقع الذي كان يرابط فيه في الماضي القريب والبعيد ويتساءل: هل كان ذلك الموقع هو الأجدر والأليق به؟ وهل كانت مواقفه السابقة من الدكتاتورية ورموزها الملونة بألف لون هي المواقف المنتظرة منه فعلا؟ إنّ وقفة التأمل هذه ضرورية وبديهية في آن. لذلك كان من الطبيعي أن نجد المثقفين هذه الأيام كتابا ومسرحيين ورسامين يتلاقون فيما بينهم ويأخذون فسحة من المسيرات المتواصلة ليعقدوا مجالس للحوار والمصارحة والمحاسبة والمصالحة،. وهذه الوقفة أقامها ويقيمها كذلك في لحظات الانفراد بالذات، كل كاتب يفترض في نفسه أنه من نخبة المجتمع. وينبغي أن تؤخذ هذه الوقفة التقويمية بجدّ وأن يغوص كل كاتب يرى نفسه جديرا بهذا اللقب، في أعمق أعماقها وأن يتعامل معها على أنها تجربة وجودية حقيقة لا مجازا، وأنها منفذ له إلى ولادة جديدة أحقّ من ولادته الأولى، ومنطلق له إلى نحت الكيان. فينبغي أن لا تتحول هذه الوقفة إلى عرس مازوشي جماعي لجلد الذات يغدو فيه الإحساس بالذنب مصدرا للمتعة وأن لا تصبح طاحونة كبيرة يلتهم فيها الكلام الكلام. لتكن تجربة وجودية بكلّ ما يحمله هذا المفهوم من قيم المعاناة والإرادة والالتزام والفعل، ولتفض في أسرع وقت إلى المرحلة القادمة، مرحلة تشكيل الكاتب هويته الذاتية أو بالأحرى استعادة هويته الحقيقية، والاضطلاع بأعباء الدور الفكري والأخلاقي والحضاري الذي ينبغي أن يحمله. وذلك كله مشروط بأن يسارع إلى اللحاق بركب الشعب والوقوف بين يديه متعلما متدربا على قراءة التاريخ. لقد اقترنت صورة الكاتب طيلة التاريخ منذ المفكر المصري الفرعوني، فالحكيم الهندي بيدبا، والشاعر العربي الجاهلي، وفلاسفة عصر الأنوار،والمثقف العضوي عند غرامشي، وحتى لدى الشاعر الرومنطيقي نفسه المتغني بأناه، بمعاني قيادة المجتمع إلى الأمام، والتعبير عن مطامح الإنسان إلى الحرية والعدل، والقيام مقام الضمير الحي الصادق حارسا للقيم الإنسانية الخالدة. في مقابل ذلك كاد الشعب أن تصاغ له صورة نمطية لم يسلم منها المفكرون الثوريون، تقدمه على أنه تابع للكتاب والمثقفين منتظر لهم مقتد بخطاهم. لكنّ هبّة الشعب التونسي قلبت هذه العلاقة بين المثقف والشعب رأسا على عقب وأثبتت أنها معادلة نظرية تعشش في رؤوس المثقفين ويتخذونها ستارا يخفون وراءهم عجزهم. فلقد بينت لنا الملحمة الأخيرة أنّ الشعب متقدم أحقابا على كتابه وأدبائه ومثقفيه، وأنه كان أقدر منهم على تجاوز المسافة الفاصلة بين الحلم والواقع والنظري والتطبيقي وكانت لا تبدو لأعين النخبة المثقفة إلا مفاوز وصحارى رهيبة لا يمكن عبورها. والآن وقد تسلل الشعب وحده إلى معبد الآلهة وافتك نار الأولمب وجاء يهديها إلى الكاتب نورا يضيء مكتبه وأوراقه التي طال سكونها إلى العتمة، والآن وقد افتدى الشعب الحرية بدمه وقطف ثمار ذلك دحرا للخوف وافتكاكا للحق في قول لا، الآن لم يبق أمام الكاتب إن كان مريدا أن يكون كاتبا حقا، إلاّ أن يهبّ هبّته هو أيضا ضدّ نفسه وضدّ ما عشش في أعماقه من خوف ورقابة ذاتية وجريان إلى إلقاء المسؤولية على الآخرين، وأن يكتسب القدرة على تصديق نفسه أوّلا والإيمان بأحلامه التي ذهب في ظنه مدة أنها مثالية وأضغاث شعراء يتبعهم الغاوون. فقد كتب الشعب قصيدته وأعادنا إلى الزمن الأسطوري الشعري القديم حيث الكلمة والفعل شيء واحد، وحيث يكفي أن ننطق بالاسم حتى ينبثق المسمى كائنا ووجودا حيا، وبيّن أنه وإن علا الروح الصدأ فما زال ثمة فسحة للحلم والفعل في التاريخ. لقد فات الكتاب التبشير بثورة الشعب والسير في صفوفها الأولى ولكن ما يزال أمامهم مجال فسيح جدا للتعبير عنها وصيانتها وتخليدها والارتقاء بها إلى مصاف الرمز والقيم الخالدة، حتى لا تتحول إلى مجرد حدث تاريخي عابر وحتى يظلّ قبسها مرتفعا في يد الإنسان لا يخبو نوره.