لم تنطلق الثورة التونسيّة من نظريّة «ثورية» جاهزة استلهمتها واهتدت بقوانينها وانّما انطلقت من جملة من القيم العليا، أفصحت عنها شعاراتها منها العدل والحريّة والكرامة، وهذه الشعارات لم تتحدّر من بطون الكتب وانّما تحدرت من تجربة المحتجّين، من معاناتهم،من قمع النّظام السّابق، من شوقهم لحياة أجمل وأبهى. والواقع أنّ المثقفين، بالمعنى التقليدي للكلمة، لم يكونوا أمام هذه الثورة ولا وراءها وانّما كانوا في الأغلب الأعم شهودا عليها، اكتفوا بتأمّلها، بالتحمّس اليها، وفي بعض الحالات، بالإسهام الّرّمزي فيها. فهذه الثورة فاجأت هؤلاء المثقفين، أربكتهم، شوّشت كل «نظرياتهم»، دفعتهمّ الى مراجعة كلّ تحليلاتهم الواقعيّة أيقظتهم على حقيقة جديدة وهي أننا في حاجة الى شيء من الرومنطيقيّة لنغيّر الواقع ونعيد صياغته. هذه الثّورة التي جاءت على غير مثال سابق أعادت التّاريخ الى بدء جديد. إنّها ثورة بلا أشباه، ولا أسلاف، ولا ملهمين ولا منظّرين، ثورة اتكأت على نفسها ولم تلتفت الى الثّورات السّابقة تقتبس قوانينها وأهدافها. هذه الثّورة تقدّمت الى الأمام تغذوها أحلامها وطموحاتها وإيمانها بأن تحويل التّاريخ ممكن. لقد وقف هؤلاء الشباب على أنّ النظام السابق المؤتمن على حقوقهم قد خانهم، غدر بهم، حوّلهم الى هامش، الى طبقة من العاطلين، صادر أحلامهم، أفرغهم من كلّ أمل، أكثر من ذلك سلبهم إنسانيتهم، لهذا أقدموا على مواجهته فاتحين صدورهم، بشجاعة أسطوريّة نادرة، لحرابه وسكاكينه. الكلّ قد أخطأ التقدير.فالواقع لم يتمكّن من «شراء» هؤلاء الشباب، أو ترويضهم، أو اغلاق أعينهم عن تناقضاته. لهذا ظلّوا خارجه على اندراجهم فيه، منفصلين عنه رغم ارتباطهم به، فهم فيه وليسوا منه. ثمّة في هذه الثورة ضرب من الواقعيّة المدهشة، والمثاليّة الرّائعة، ثمّة ضرب من العنفوان الحماسي، والغضب البطولّي... ثمّة ايمان قويّ بأن هذا الواقع بات مختلاّ، اذ لاشيء في مكانه، لذا وجب تقويمه و اصلاحه حتّى يستعيد توازنه المفقود... ولن يكون هذا ممكنا الا بإسقاط النظام القديم الذي فقد، منذ زمن طويل، شرعيّته، واقامة نظام آخر مختلف. كأنّ التّاريخ، اذا أخذنا بعبارة ابن خلدون، قد أنهى دورة من دوراته كأنّ هذه الدّورة قد اكتملت، صارت جزءا من الماضي، مخلية المكان لدورة أخرى جديدة... أو اذا استخدمنا عبارات هيقل قلنا كأنّ الروح، قد تهيأت للقيام بخطوة جديدة، معلنة بذلك أنّ هناك شكلا من الحياة قدّ شاخ وهرم، وربّما قد مات، وأنّ هناك شكلا آخر قد تهيأ للظّهور و البروز... والآن وقد تحقّقت هذه الثّورة، أو لنقل قد تحقّقت أهمّ مراحلها وأخطرها وأعني بذلك مرحلة اسقاط النّظام وجب على الثقافة أن تتقدّم الآن لتمنح هذه الثورة بعدها الفكري والابداعي، أيّ لتمنحها مضمونها الروحيّ والجماليّ فهذا الحدث المختلف في حاجة الى ثقافة مختلفة. لن أجرؤ على رسم ملامح هذه الثقافة، ولن أجرؤ على وضع خطوطها ولكن سأكتفي بالقول: ينبغي على هذه الثقافة أن تستلهم العنصر البروميثيوسي الخالد في هذه الثّورة، ينبغي أن تقتبس نارها التي لن تنطفئ أبدا، ينبغي أن تستحضر وميض برقها وهدير رعدها. وأنا أكتب هذه الورقة عثرت على نّص للفيلسوف الايطالي فبكو يختزل كلّ ما أردنا قوله في كلمات مشبعة بحكمة شاعريّة لافتة. يقول هذا النّص: من هذا اللّيل المظلم يلمع النّور الأزليّ، النّور الذي لا يستطيع أحد اطفاءه، نور حقيقة من المستحيل أن توضع موضع شكّ: حقيقة أن الانسان هو الذي صنع هذا العالم التاريخي، هذه الحقيقة الواقعة يجب أن تملأ بالعجب جميع الذين يجعلونها موضع تأمّلهم... لكن البشر أهملوا التفكير في هذا العالم التّاريخي لأنّه تاريخهم... هكذا ترى العين البشريّة كلّ الموضوعات الموجودة في الخارج لكنّها لا ترى نفسها... انّها في حاجة الى مرآة لكي ترى نفسها بنفسها. وهذه المرآة هي الثقافة... انّها هي التي تقول هذا النور الذي يلمع ساطعا من خلال ليل قديم ممعن في القدم.