بعد عقدين من الزمن، أعود بإذن الله إلى بلدي يوم الجمعة القادم على الساعة العاشرة والنصف صباحا أيام قليلة تفصلني عن العودة إلى بلدي الحبيب بعد غياب وحرمان دام لأكثر من عقدين من الزمن. مشاعر واحاسيس متداخلة من الشوق والفرحة والرهبة والهواجس المتعدّدة، والحق أقول أنّني لم أعش سابقا هذه المشاعر في ذات اللحظة. أن تعيش هذه المشاعر منفردة يختلف تماما من أن تعيشها مجتمعة، وفي مرحلة فريدة من حياة هذا الوطن الحبيب، مرحلة دقيقة يكتنفها الكثير من الغموض، وتتوالى فيها الأحداث بنسق سريع ومفاجئ. إنّني وأنا أستعدّ إلى عودة كريمة وآمنة بإذن الله، أود أوّلا أن أترحّم على جميع شهداء تونس الأبرار، داعيا الله أن يتقبّلهم في علّيين، كما احيي شباب ثورة تونس، هذا الشباب الذي قدّم لنا هديّة نحن مدينين له بها ما حيينا، لقد ساهمتم يا شباب تونس في إحداث نقلة نوعيّة ليس في تونس فحسب وإنّما أحسبها والله أعلم نقلة في المنطقة بأسرها، وسيذكر لكم التاريخ أن بداية التأريخ الجديد للمنطقة العربية صنعه شباب تونس وشاباته، وسيكون يوم 14 جانفي تاريخا مهمّا لكل شعوب المنطقة، لقد توّجتم بثورتكم جل التضحيات التي قدّمها من جاء قبلكم من كل أطياف المجتمع طيلة العقود الماضية وأفلحتم في تأصيل شعارات من مثل " لا خوف بعد اليوم " و " الحريّة، لنا ولغيرنا" ، هذا الشعارات التي استمات من كان قبلكم من أبناء جركتنا في سبيل تحقيقها ولكن آلة القمع والبطش التي كان يمتلكها بن علي كانت أعنف من هؤلاء الفتية، فتحيّة طيّبة لكم أيها الأبطال، وتحيّة للأرحام التي حملتكم وللأرض التي حررتموها. أعود قريبا إلى بلدي ولن أجد والدي في استقبالي لأن أجل الله قد سبق، فرحل ولم أتبع جنازته ولم القي عليه نظرة الوداع الأخيرة... أعود إلى بلدي لأجد أمًّا قد شابت وهرمت واحترقت شوقا، أمٍّا، حُرمْتُ من خدمتها ورعايتها، وحُرمْتُ من أن أرمي رأسي على صدرها طيلة السنوات الخالية. أعود إلى بلدي لأجد جيلا جديدا من الشباب والصبايا ربما يمثّل أكثر من 50% من عائلتي، جيلا يسمع عن عمّ أو خال أو ابن عم أو ابن خال أو صهرولم يراه ولم يعايشه، يسمع عنّا ولم يرانا، جيل جديد وطيلة عقدين من الزمن كان ما يسمعه عنا من أبويه وكبار الحي يختلف تماما عمّا يبثّه إعلام بن علي ورموز نظامه، فتأخذ بعضه الحيرة وتتشوّه عنده الصورة، فيكوّن في خياله صورة هي أقرب إلى الشيء وضدّه وهو لا شكّ ينتظر هذه العودة ليعرف مدى تطابق الصورة التي كوّنها للعائد الغريب. عقدين من الزمن مرّت ونحن في المنافي نتلمّس سبيلنا وندافع عن مشروعنا غير عابئين بكيد خصومنا وتثبيط بعض الطيّبين من إخواننا، لقد مورس علينا كمّا رهيبا من الضغوطات سواء تلك التي كانت من طرف النظام ورجالاته داخل البلاد وعبر السفارات والقنصليات، او تلك التي تأتي من حين لآخر من أخوة أحبّة داخل الصف، بعضهم أعياه المسير وبعضه الآخر وبحس ظن منه أعتقد بإمكانيّة التواصل والتعايش مع هذا النظام السيّء مقابل تنازلات بسيطة. كان يمكن لنا أن نعود إلى أوطاننا في مراحل متقدّمة ومنذ أوائل الألفية الثانية، مقابل ان نعطي الدنيّة في حركتنا وأن نمضي وثيقة نعلن فيها "توبتنا" ووفاة مشروعنا، ولكنّنا ما هنّا وما لنّا، كان يمكن أن نعود عودة ذليلة وغير كريمة لو قبلنا بما عرضه علينا بن علي من عروض مذلّها ولكن صمودنا وقناعتنا بصحّة خياراتنا، كان يلهمنا الصبر والمصابرة والتوسّل بكل وسيلة تيسّر لنا العودة الكريمة الآمنة وما كان مؤتمر العودة الذي أنجزه المهجرون في جنيف إلاّ حلقة من حلقات هذا الصراع. أخيرا أعود وإخواني إلى تونس بعد أن غُيّبنا قسرا لنساهم مع غيرنا في تنمية وطننا الذي عشقناه وحرمنا من خدمته طيلة السنين الماضية، نعود لنضع أيدينا مع شركائنا في الوطن ونسهم سويا في حماية هذه الثورة المباركة من محاولات الإلتفاف التي ما انفكّ خصومها يصلون الليل بالنهار بغية إرباكها وصرفها عن إنجاز المهام العظام التي قامت من أجلها. نعود لنشارك في بناء حياة سياسيّة تستند على التوافق بين جميع كيانات المجتمع المدني دونما تهميش أو إقصاء، مبتعدين ما استطعنا عن مربّع الإستقطاب الذي قاد البلاد إلى كوارث لا تخفي على أحد. نعود وايدينا ممدودة للخير وبالخير معاهدين الله سبحانه وشعبنا الحبيب على خدمة تونس والعمل على عزّتها ورفعتها.