الشوق إليك يا بلدي يلطمني، يصفعني، يتماوج كوجع الضرس في جسدي.. سألت عنك بلدي غابات الزيتون والصفصاف والزعتر؟ سألت عنك في غرقي وغربتي عيون كل عائد؟ سألت عنك أفواج الطير عندما تعود وحين تهاجر؟ سألت عنك يا وطني الخطاب العائد قبل مواسم المطر؟ سألت عنك قرطاجة بين السطور، بين طوابير الانتظار، بين حقائب السفر؟ في عيون الأطفال، في ملامح المسافرين في غبار السفر، فهل من خبر؟ لا عطر أمّي يفوح ولا عطر أمي ينتشر.. غارق وحدي أنا بعشقك يا بلدي يا أنشودة الأصيل وترانيم الصحر.. غارق وحدي حتى صرت قضية بلا حدود بلا زمن.. غارق وحدي وسألت حتى مللت السؤال الذي سألت؟ ونمت بين غابات الذكريات كالشيخ المحتضر، ينتظر الإدلاء بآخر وصية، وينتظر موعد السفر، وتحفظ القضية، قضية العشق والماء والحرية وعودة الأرض السبية.. كانت هذه المشاعر المتماوجة تتلاطم على شواطئ عيون " فاخر بن محمد" وترحل مع نظراته السابحة في الأفق الضباب، وتتخاصم في ذهنه المشتت بين هنا وهناك وهو بعيدا عن الديار، في بلد آخر وفي وطن آخر، وفي مجتمع آخر، كالطائر الجريح يحط ويرحل بين تضاريس الزمن، يخبأ بين ضلوعه حلما يتشابك مع السحاب، مستعيدا محطات من رحلة العذاب، تسيجها ثقوب جراحات بلده الذي تناثرت فيه قطعا من لحم الحرية المترامية على قارعة الطريق، ليعود ويحتمي بقولة - محمد الماغوط - " لا تنحني لأحد مهما كان الأمر ضروريا، فقد لا تواتيك الفرصة لتنتصب مرّة أخرى ". ينتفض - فاخر- من مكانه ليختصر المكان والزمان، ويختصر الوقت والكلام، ويطوي حديث المسافات الطويلة، ليعبر على مركبة الحروف الذبيحة إلى الحلقة العاشرة من رحلة أشواك الصبّار، ليتولى كما في السابقات متابعة رسم حكاية، هي حكايتنا نحن وهو، وأنت وانتم، وهي وهم، وحكاية ذاك الجيل الذي كتب دون كلام، ودوّن دون أقلام، ونقش دون أحجار، وسجّل دون أوراق قصص شروخ وعذابات الهجر والمنفى، التي لم تطوها الأيام، ولم يختزلها الزمن، لنستمع إليه حيث يقول: كانت الجزائر رغم الوجع، رغم ضبابية الرؤيا السياسية في تلك الفترة، ورغم حالة الانتظار المشوب بالخوف والحذر والتخبط بعد تعطيل تجربة الانتخابات التشريعية لم أشعر فيه بالغربة. وكذلك ممّن قابلت في مثل وضعيتي، كما أن أناسها كرماء طيبون.. كنا مجموعات موزعين في بعض البيوت، في العديد من مدن الجزائر منها: - عنابة - قسنطينة – تبسة – العاصمة. غير أن أعدادنا تتزايد يوما بعد يوم، ومع كل فارّ جديد كنا نستمع منه إلى اخبار ثقيلة، تتعلق بأحوال البلد التي لطمتها الاعتقالات العشوائية، وأنهكتها المحاكمات الجماعية، وخرّبتها العديد من قصص " فقه التعذيب"، واستشهاد العديد من المناضلين في وزارة الداخلية..ليكون مصير الذين انحازوا كانت الهواتف المنزلية لأهالي البعض منا خاضعة للمراقبة والتنصت من طرف أجهزة البوليس السياسي، حيث في تلك الفترة لم تظهر للوجود بعد الهواتف النقالة، وحتى الهواتف المنزلية كانت نادرة.. بدأ تدفق العائلات والأفراد على محطتنا هذه، وكل واحد منهم يختزن في صدره حكاية، ويخبأ بين عيونه ملامح قصة، وقعتها ليالي ونهارات وساعات الاختفاء والتنقل والاختباء، وسفرات الشقاء ومخاطر الطريق، ومغامرات التمويه، ووعورة المسالك والثنايا، لتلتقي وتتقاطع هذه الحكايات أمام وجع الفراق، وتجتمع حول الألم والخوف ومواجهات الصعاب.. ممّا ولّد بيننا ألفة وتكاتف، فالمصائب وتشابه المصائر تجعل الناس أكثر توادد، وأكثر قربا من بعضهم، وأكثر تعاطف وتضامن.. لم يكن هنا في محطتنا هذه وفي مرفأ العبور هذا تنظيما بالمعنى السياسي المتعارف عليه، بل كان هناك شكلا من أشكال " قافلة إسعاف " كما لخّصها يوما ما عالم الاجتماع الدكتور - عادل السالمي - امتزجت فيها شهامة وكرامة بعض الأشخاص، " بالنيف " الجزائري، وحميّة بعض المواطنين الذين بقوا يحملون دينا تجاه تونس التي آوتهم أيام الثورة الجزائرية، وتآزر بعض الأفراد أبناء القضية، الذين تمكنوا من الوصول إلى أوروبا، وظلوا يسعون ويجتهدون في البحث عن حلول للعالقين في الجزائر، من أجل محاولة إسعافهم بجوازات سفر مستعملة، لإعادة استعمالها من جديد إلى جانب تبرع البعض بإرسال بطاقات سفر من دول أوروبية لبعض المنتظرين والمتهيئين للعبور...كان الفارون ممّن قابلت من شرائح وطبقات اجتماعية مختلفة:- طلبة – أساتذة – موظفون - كوادر – إطارات – تلاميذ – أطباء... ووراء كل واحد منهم قصصا يبيضّ منها الحبر، وتحمرّ منها الأوراق، فهناك من فرّ إلى ليبيا ثم من هناك تمكن من الدخول خلسة إلى الجزائر، وهي سفرات مضنية مرهقة مرعبة لا يمكن تصوّرها، وقد التقيت عائلات بأكملها استطاعت الفرار من البلاد، وآخرون تركوا زوجاتهم وأبنائهم، وهناك من فرّ إلى ليبيا ليلة عرسه، أذكر منهم أحدهم الذي فر إلى ليبيا بعد أن أصبح في سجلات المبحوث عنهم، ثم عاد سرا إلى تونس ليتزوج بطريقة متخفية عن الأنظار، ثمّ يعود منتحلا اسما آخر وهوية أخرى إلى ليبيا، ومن هناك يتجه في رحلة خطيرة إلى إفريقيا، ليتمكن في الأخير من الوصول إلى أوروبا، وبعد سنوات مكافحة يستطيع إلحاق زوجته. ومن بعض العجائب أن أحدهم عذّب كثيرا في كهوف وزارة الداخلية، وفي يوم من الأيام وقع اصطحابه مع أعوان البوليس السياسي تحت حراسة مشددة ليذهبوا به إلى بيته في الجنوب التونسي قصد إعادة التفتيش، وهو مقيّد اليدين " بالكلبشات " للخلف، ولما وصلوا به إلى محيط بيته، وانزلوه من السيارة وهو متعبا، وفي غفلة استطاع أن يفرّ من بين أيديهم، وتمكن من الدخول عبر الصحراء إلى ليبيا، ولكم أن تتخيّلوا مشهدا كهذا، مواطن تونسي بلا وثائق بلا هوية، مقيد اليدين إلى الخلف يدخل بطريقة غير شرعية إلى بلد عربي.. كنت أسكن في بيت به سبع شباب في أحد الأحياء، وكان العدد يزداد ولا يتناقص. وقد أطلقنا خبرا مقصودا بأننا طلبة ندرس في الجامعة، ومن أجل ذلك كنا نتعمد الخروج وكل منا يحمل محفظة كشكل من أشكال التمويه، غير أننا كنا تقريبا شبه متأكدين أن الجيران كانوا يعرفون أننا لا طلبة ولا هم يحزنون، ومع ذلك فلم نتعرض منهم لوشاية أو مضايقات، بل كان هناك نوعا من التعاطف الصامت أحيانا، والعلني أحيانا أخرى، خصوصا وأنهم لاحظوا استقامة في السلوك والمظهر، ممّا أوحى لهم أننا نخبأ بين أضلعنا جرحا سياسيا وشرخا وطنيا ووجعا قوميا. ورغم قتامة الوضع وضبابية الآفاق ومخاوف المجهول ولدت بيننا مساحات للألفة والود والطرائف، خصوصا أثناء طهي الطعام، أو شكل التعامل في الأسواق، والتنقل والتعامل الإداري، وغيرها من الحكايات الطريفة والمضحكة، والتي تبدد شعورنا بقسوة الفراق ورمادية المستقبل.. ..بدأ الوضع الجزائري يتجه نحو المزيد من التعقيد، وبدأت العمليات القتالية تطفو على السطح، كما بدأنا من جهتنا نبحث على إمكانية العبور إلى بلدان أخرى، ولكننا هنا اصطدمنا بانسداد كل المعابر في وجوهنا، ولاح مصيرنا غامضا وبدا شبح الترحيل إلى تونس يخيم على صدورنا، وظللنا نترقب عبورا بين غيوم الانتظار...
البقية في الحلقات القادمة
ملاحظة هامة هذه الشهادات تنطلق من تحقيقات ميدانية حيث أحداثها وتواريخها وإبطالها حقيقيون، ولكل منهم مغامرات مثيرة مع الترحال والتخفي والسجن..طبعا مع الانتباه والتحفظ على بعض الجزئيات، اتقاء للثأر أو التتبعات ضد الذين ساعدوا أو تعاونوا في تهريب هؤلاء.. حاولت أن لا أجعل من هذا العمل شهادات سردية جافة، بل حرصت وأنا أسجّل هذه القصص أن انتبه والتقط وأتعايش مع مشاعر وأحاسيس الرواة في كل ثناياها وتشعباتها، مستخدما بعض تقنيات العمل الصحفي والأدبي، قصد التوغل قدر الإمكان فيها وتصويرها واستنطاقها، وترجمة حالات القلق التي أرصدها وأنا أسجل مرويات هذه التغريبة التونسية.