من يسمع شعارات شباب الثورة أو يقرؤها تبدو له وكأنها سلبية في جملتها ما قد يجعل البعض يتهمهم بالسلوك التهديمي رغم أن سلوكهم كان سلميا إلى حد لا يكاد يصدقه من له دراية بأفاعيل الثورات في التاريخ الإنساني. لكن لا بد من الاعتراف بأن نص الشعارات يكاد في مجمله جميعا أن يرد إلى : "الشعب يريد إسقاط كذا....". فما دلالة ذلك ؟ رأيي أن هذا الطابع السلبي ليس إلا ظاهرا من الأمر حتى وإن غلب عليه التعبير البين على الغضب ونقمة المهضوم الحق والجانب. لكن حقيقة الأمر في هذه الشعارات من جنس حقيقة الكلمات الأضداد في العربية. فضمير هذه الشعارات هو المقصود بالإسقاط. وهذا الضمير هو وصف الموضوع المسمى: إنه الوصف السلبي المعين الذي تريد الثورة إسقاطه وليس عموم المسمى. فإسقاط رأس النظام ثم النظام ثم الحكومة التي خلفته ثم القوانين التي أسست له ولخلافته وخاصة الدستور أعني سلسلة المطالب التي عبرت عنها الشعارات ليس استهدافا لها بإطلاق بل بإضافة: المقصود هو ما اتصفت به موضوعاتها من صفات ألغت حقيقتها التي تسعى إليها الثورة.
فالنظام لم يكن نظاما بل كان مافياويا. ورأسه لم يكن رئيسا بل كان مافيوزيا. والحكومة الوريثة لم تكن حكومة بل كانت مجلس تسجيل لمقترفات المافيا-مع من تحالف معها من يسار متبرجز أو منحل ونخب نخرها الفساد والكساد حتى بلغ بها الجهل إلى حصر الحداثة في حرية الأكل كما تأكل الأنعام- تحاول الحفاظ على بقاياه والقوانين المستعملة لصد طموحات الثورة باسم تحقيق الاستقرار. لذلك فالثورة ما كانت لتريد تهديم النظام لو كان نظاما ولا القضاء على رأس الدولة لو كان رأس دولة ولا على الحكومة لو كانت حكومة ولا على القوانين لو كانت قوانين: وما كانت لتحصل أصلا لأن كون هذه الأمور على ما ينبغي أن تكون عليه يغني عن الحاجة إلى الثورة. الثورة ثورة على البدائل الزائفة منها. ومن ثم فالشعارات تريد إسقاط هذه البدائل من النظام والرأس والحكومة والقوانين. ما تطلبه الثورة هو جعلها: نظاما ساهرا على دولة ورأسا لدولة وحكومة لتسيير شؤون دولة المعنى السامي للكلمة. والشباب لم ييأس من النخب ويقدم على الاستغناء عن زعاماتها لأنها نخب بل لأن ما دب في جلها من فساد يتجاوز بأضعاف ما دب في الحكم وبطانته المباشرة: فهذا "الجل" كان معين المرشحين للبطانة بدينامية قتلت التربية والثقافة إذ جعلتهما مجرد أداتين إيديولوجيتين بل محافل بروباجندة لكاريكاتور الحداثة الذي يدعون التصدي به لكاريكاتوريهم عن الأصالة. لم تكن الساحة النخبوية عامة وساحة المعارضة خاصة إلا ساحة التنافس والمساومة على الترفيع في المقابل المطلوب أعني الحصة من النظام المافياوي: لذلك فبمجرد أن انفتحت فرصة المساومة تساقط البعض كالذباب ليأخذ قسطه قبل فوات الفوت أعني قبل أن تنجح الثورة فتحول دونهم وتجاوز قدرهم في المعادلة السياسية للبلد. وما ردود الفعل المنفعلة وحملة الافتراء والتشويه التي يتولاها بعض أزلام الحلف الرباعي على محاولاتي فهم ما يجري مع الحرص على أكبر قدر ممكن من الموضوعية ليس إلا دليل على أن ما أشير إليه من أدواء صار مرضا عضالا ومزمنا عند القافزين على الكراسي وأزلامهم وعند بعض من يريد أن يفرض على الناس عقائده معتبرا ذلك جوهر العلمانية حصرا إياها في اليعقوبية الإراهابية. وعندي ألا أحد يمكنه حقا أن يصلح شأن البلد بسعي جدي إذا لم يبدأ فينظر بعين الصدق لهذه الأدواء التي تنخر كيان الأمة الروحي. ذلك أن الناطقين باسم الحداثة لم يعوا بعد أنهم بخلاف ما يظنون أجهل الناس بها وبشروطها لأنها في الغرب كما في الشرق الذي أصبح في منزلة تمكنه من منافسة الغرب فيها ليست مقصورة على ما يسمونه حريات لا تتجاوز حرية الأكل كما تأكل الأنعام بل هي الإبداع والخلق والابتكار والعمل الشاق لبناء الحضارة بالعلوم والفنون والأخلاق. و هم لم يعوا خاصة أن هذا التغير الجذري حصل عند شباب الأمة بكل أطيافه وخاصة عند من كانوا يتهمونهم بالعيش في القرون الوسطى –لمجرد كونهم يريدون حداثة أصيلة وأصالة حديثة- أصبحوا أعلم بهذه الشروط وأقدر على تحقيقها منهم بسبب ما دفعوا إليه دفعا من التفرغ للمعرفة والتعلم خلال تفرغ أدعياء الحداثة للبروبادندا والتحكم والتنعم بما يتصورونه نعيما أعني الإخلاد إلى الأرض. سقطت كل حجج الفصام المرضي بين الحداثة والأصالة وبين دولة القانون والإيمان فأصبح دعاة الأكل كما تأكل الأنعام من جنس دونكيخوت يحاربون نواعير الطواحين: إنهم يحاربون طواحين كاريكاتو الأصالة التي يردونها إلى ما ولدوه من ردود فعل شوهاء لتسير محاربتها يحاربونها بكاريكاتور الحداثة التي حصروها في ما ابتصروه منها محاولين فرض صورتهم الكاريكاتورية على الآخرين ليبرروا نزعتهم الاجتثاتية بحيث لا يتصورون المسلمين قادرين على دخول الحداثة إلا بشرط الخروج من كل ما يمثل ذواتهم الحضارية المستقلة. ولما تبين لهم أن الغرب نفسه لم يعد يعول عليهم جن جنونهم بعد أن بدأ تساقط آخر حلفائهم أعني حكام العرب المستبدين والفاسدين فأصبحوا لا يدرون أي منقلب ينقلبون. لم يعد أحد يصدقهم أم يخاف مما يخوفونه به: التخويف من الدكتاتورية التي يريديون اقناع الجميع انها موجودة بالقوة للإبقاء على الدكتاتورية الحاصلة بالفعل والتي ينعمون بما توفره لهم من استعباد الشعوب والاستبداد بمقومات قيامها المادي والروحي. وإذن فالمشكل مشكلهم لا مشكل الأمة حتى وإن سبب موقفهم ذلك للأمة بعض العنت. مشكلهم أنهم لا يقنعون بأخذ قسطهم السياسي بقدر وزنهم في الحياة السياسية السوية بل يذهبون إلى حد اعتبار غيرهم لا يكون إنسانا إلا إذا رأى رأيهم واعتقد معتقدهم: فلا يكون الشباب ثائرا إلا إذا آمن بما يؤمنون به معتبرين إياه متنافيا مع أي إيمان غيره. وعندما يرفض الشباب رؤيتهم يصبح في نظرهم مجرد رعاع فوضي يستحق أن يصد بالكلاب ومن ثم فرغم دعواهم محاربة عقلية القرون الوسطى فإنهم قد أصحبوا كهان كنيسة الحداثة القائلة بأن الحرية هي حرية الأكل كما تأكل البهائم. الارتسام الذي أراد أن يروج له أصحاب الثورة المضادة هو ما ينتج عن الزعم بأن الثورة فعل سلبي ما لم يعبر عما يؤمن به أعداء الثورة فيزعمون أنها فوضى يريد أصحابها إزالة الموجود دون بيان للمطلوب الإيجابي. ولما كانوا يعلمون أن ذلك ليس صحيحا ابتدعوا ما سميناه بالملهيات وأهمها محاولتهم محاصرة المطالب العالية بحصرها في المطالب الفئوية حتى يفقدوا الثورة سامي المطالب وسامي الأهداف. لذلك كان شعار الساعين لإيقاف دينامية الثورة الدعوة إلى التدخل السريع لإنقاذ "تونس" حتى بالاستنجاد بالأم فرنسا وبنصائح ساركوزي وتأبيد التبعية لروماالجديدة أي الاتحاد الأوروبي كما يتبين من تصريحات وزير الخارجية الآفل بتقعير فرنسي وعربي ثقيل. لكن الغرب نفسه أو على الأقل زعيمته كما يتبين من تصريحات أوباما: غسل أيديه منهم إما لأنه أدرك وهاء حبكتهم التي أوجدت ردود فعل أفسدت صورة الإسلام أعني كاريكاتور الأصالية الذي صنعوه ليفرضوا كاريكاتور الحداثة- أو لأنه اقتنع بأنهم لم يعودوا قادرين على خدمته فصاروا عبئا عليه وهو يبحث عن حل وسط مع غيرهم حتى وإن علم أن قواعد اللعبة تغيرت: فيكون موقفه موقف المكره أخاك لا بطل. وفي الحقيقة فإن ما يراد إنقاذ تونس منه ليس خطرا آخر بل هذه الصورة التي يوهمون الناس بأنها ما زالت تنطلي على أحد ومن ثم فهو الثورة نفسها أعني السعي إلى: وضع نظام يحررنا من النظام المافياوي وانتخاب رئيس يكون رمزا للنظام السليم واختيار حكومة تسير شؤون الناس بما يستجيب لإرادتهم ومطالبهم وسن قوانين تعبر عن الإرادة الحرة والخيرة إن النظام الذي يريد الشباب عندما يقولون إن الشعب يريد إسقاط النظام هو ما يقدم بصفة النظام وهو عين الفوضى التي يريد أصحاب الثورة المضادة الحفاظ عليه وهو ما يحوجهم إلى العنف والفساد. وما يعتبره أعداء الثورة حياة عادية واستقرارا ليس حياة فضلا عن أن يكون حياة عادية بل هو موات وقتل نسقي لكل ما هو خير في البلاد: كل القيم قلبوها فصارت: الحرية تسيبا بهيميا والسير العادي للحياة حفظا للامتيازات والديموقراطية شكلانية تمكن من طغيان من يعمم الجهل والأمية السياسية والفقر حتى يتمكن من شراء الضمائر والأصوات والدفاع عن حقوق الإنسان اندراجا في أخطبوط العولمة ليس من أجل حقوق الإنسان التي هي مطلب الثورة بحق بل من أجل توظيفها لحصر هذه الحقوق في الأكل كما تأكل الأنعام ونسيان ما عداها من الحقوق أسماها كرامة الإنسان. أما وصف شباب الثورة بكونه شباب الانترنات ووسائل التواصل الاجتماعي فهدفها إخفاء أمر يحيرهم: فهو الشباب الذي أذاقوه الأمرين في أهم مرحلتين من نضوجه أعني خلال مرحلة ما عاشه من استبداد النظام الجامعي الذي ليس له مثل في العالم والانتخاب المهني بمعايير تتنافي مع كل عدل وكفاءة المؤسستان اللتان لم يبق منهما إلا الاسم والرسم بعد أن أصبحتا بيد غير أمينة أسسست لممارسات لا تقل استبدادا وفسادا من الحياة السياسية بات من اليسير أن يستشف من هذه الأوصاف وكأنها تحاول أن ترد الأمر إلى أزمة مراهقة فلا يكون ما يحصل إلى صراع جيل منبت استهواه مجتمع الاستهلاك فانجر إلى ما قد يؤدي بالبلد إلى الهلاك. كل ذلك لأن أصحاب هذه القراءة يريدون أن يغفلوا أن "إرادة إسقاط كذا..." ليست فعلا سلبيا بل هي سلبُ سلبٍ ومن ثم فالقصد إسقاط كل ما أسقط من الوطن ما يجعله وطنا: فأعداء الثورة الحالية هم الذين أفسدوا: النظام السياسي والنظام التربوي والنظام الاقتصادي والنظام الثقافي مؤسسين ذلك كله على حرب هوجاء يشنونها على أصل كل القيم أعني ما يحرر الأمة من الكاريكاتورين اللذين رأينا نموذجا منهما في تصور دولة القانون متنافية مع الإيمان التام ومن ثم اشتراط المستحيل لتحقيق الديموقراطية والعدل الاجتماعي: ينبغي أن يصبح الجميع لا يرون العالم إلا مثل بعض من يحاضرون على الحريات الشخصية ولا يرونها حقا إلا لهم بحيث إن بقية الشعب ليس لها حرية شخصية فتختار عكس ما اختاروا. لذلك ترى أصحاب هذه الرؤى الكاريكاتورية للحداثة الذين أصبحوا من جنس الحكام المخلوعين دعوى وتحكما وتشبثا بالبقاء إلى القبر في مستوى أعمق من الوجود الطفيلي أعني الحرب على القيام الروحي للأمة التي ينفون حتى وجودها مجرد الوجود متصورين إياها من أوهام العائشين في الماضي وحلم توحيد العرب في حين أنهم يعبدون من استعادوا سلطان روما بتوحيد أوروبا. لذلك تراهم يلحون على وصف هذا الشباب الثائر بطابع هلامي عديم الرأس وعديم الهوية السياسية –مجرد لقيط ابن الانترنات-ولا حضارية ولا أهداف قابلة للتعيين بأصول متجذرة في الهوية ومبادئ نابعة من خيارات حضارية: فيدعون أن الطابع الغالب على جماهير الثورة هو اللامبالاة بعالي المطالب والسخرية من التأسيس النظري المتين.