وزارة الخارجية.. الوضع الصحي للفنان ''الهادي ولد باب الله'' محل متابعة مستمرة    طقس الليلة    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    ماذا في اجتماع وزيرة الصناعة بوفد عن الشركة الصينية الناشطة في مجال إنتاج الفسفاط؟    حجز أطنان من القمح والشعير والسداري بمخزن عشوائي في هذه الجهة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    عاجل/ هذا ما تقرّر بخصوص زيارة الغريبة لهذا العام    القيروان: الأستاذ الذي تعرّض للاعتداء من طرف تلميذه لم يصب بأضرار والأخير في الايقاف    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    النظر في الإجراءات العاجلة والفورية لتأمين جسر بنزرت محور جلسة بوزارة النقل    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة إلى أكثر من 34 ألفا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    حامة الجريد: سرقة قطع أثرية من موقع يرجع إلى الفترة الرومانية    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    الترجي الرياضي: يجب التصدي للمندسين والمخربين في مواجهة صن داونز    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    القصرين: تلميذ يطعن زميليْه في حافلة للنقل المدرسي    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    حادثة انفجار مخبر معهد باردو: آخر المستجدات وهذا ما قررته وزارة التربية..    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    كميّات الأمطار المسجلة بعدد من مناطق البلاد    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    عاجل: زلزال يضرب تركيا    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    قيس سعيد يُشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض الكتاب    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    عاصفة مطريّة تؤثر على هذه الدول اعتباراً من هذه الليلة ويوم غد السبت    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    المصور الفلسطيني معتز عزايزة يتصدر لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم لسنة 2024    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحديث السفاهة والحمق
نشر في الحوار نت يوم 24 - 03 - 2011


أبو يعرب المرزوقي
عبرت في كلامي على هيئة العماية لحماية الثورة المضادة عن اطمئنان قد يعجب له الكثير اطمئناني على مستقبل الثورة. لكن هذا الاطمئنان ليس صادرا عن مجرد تفاؤل أو عملا بمبدأ "سبق الخير" "تلقى الخير" بل إن له أساسين قويين أحدهما موجب والثاني سالب:
فأما الأساس الموجب فهو طبيعة فَعَلة الثورة. فالشباب الذي أقدم عليها عامة ومنطلقه خاصة يؤكدان شرعية الاطمئنان. ذلك أن غالبية الشباب لا تزال أصيلة فضلا عن خيريتها ومثاليتها الفطريتين وهي مع ذلك أكثر إقبالا على التحديث السوي فكرا ومنظورا من كل المتكلمين على الحداثة التي لا تكاد تتجاوز عند أعداء الثورة تسيب الفرج والبطن. فهذه الخيرية والمثالية المصحوبتان بالفعل وغير المقصورتين على القول يجعلاني أطمئن إلى أن النبع الصافي يضرب أصله في أعماق حضارتنا ومن ثم فلا خوف من الاستيلاب مهما علا طنين الذباب في مزابل الأنظمة البائدة. وقد كتبت عن هذا العامل لما تكلمت على مطالب الشباب فتيات وفتيانا مطالبهم العالية.
وأما الأساس السالب هو ما تراكم من الأخطاء التي أقدم عليها منشئو هيئة حماية الثورة المزعومة التي هي هيئة عماية الثورة المضادة كما وصناها. فهي دالة دلالة لا جدال في كونها مفهومة للجميع على أن أعداء الثورة رغم ما يدعونه من خبرة وتجربة سابقتين لاستراتيجييها وموجهيهم في الداخل والخارج ليسوا على ما يزعم لهم من فطنة ودهاء. وقد كتبت كذلك عن هذا العامل لما بينت عماية هذه الهيئة وتبين لاحقا أنها تكاد تجمع جل سفهاء البلاد. وينبغي مع ذلك التمييز في تأليف الهيئة بين المكونات التالية حتى لا نظلم أحدا ممن هم فيها على حسن نية أو من باب "متابعة للكذاب إلى غاية كذبه":
فالمكون الأول يتألف من قلة تعد على الأصابع من الأسماء المحترم أصحابها أخذوا أخذ غرة. وهم لا محالة سيدركون أنهم إنما أُتي بهم للزينة ولذر الرماد لأنه لا أحد يصدق أن ما يناهز الثمانين من الأعضاء مسهم في التفكير يجعله ممكنا بصورة فعالة ومؤثرة خاصة إذا خضع لمسخرة التصويت على القرارات المعدة سلفا: إنهم قلة من الشخصيات التونسية ذات الشأن والصدق وهي حتما ستغادر بمجرد أن تتأكد أن حسن الظن بمخططي اللعبة لم يكن في محله.
والمكون الثاني -ولعلهم كثرة للحشو- يمكن أن يعتبروا من أصحاب الطوية الحسنة الذين يؤمنون بالثورة وإن بمنظور عفوي غير مقدر لما يراد بها في هذا المجلس. ولعل بعضهم قد اعتبروا في ذلك رفعا من شأنهم قد يؤكد لهم ما يمنون به النفس من "الانتساب إلى الأعيان=نوتوار". والمهم أنهم في الأساس أبرياء من الخطة التي يظنها أصحابها شيطانية وهي كذلك خلقيا لكنها دون ذلك من حيث الفطنة والذكاء. وهؤلاء المعدون للحشو ليس لهم ناقة ولا جمل في "التكنبيص": وعندما يدركون أنهم دعوا للإيهام بالملاء الخاوي البديل من المشاركة الشعبية العامة سيغادرون هم بدورهم خاصة عندما تصبح المغادرة أكثر تمكينا من الانتساب إلى الأعيان من البقاء في الهيئة الذي سيتضح أنه من أكبر مصادر العار.
والمكون الثالث يمكن أن يعد مؤلفا طالحي القوم أي من أضداد عناصر المكون الأول الممثل لصالحي القوم الذين وضعوا لذر الرماد. ومن طلح هو ضعف أضعاف من صلح في هذه الهيئة. ذلك أن تغليب العملة المزيفة على العملة الصحيحة يقتضي ذلك دائما. فلا يتغلب على قلة الحكماء إلا كثرة السفهاء. لذلك فهم جميعا سفهاء "نوتوار" ليس في أخلاقهم الشخصية- فهذا أمر يعنيهم وحدهم-بل في ممارساتهم التي لطغوا بها ساحة الإبداع في تونس.
والمكون الرابع يمكن أن يكون مؤلفا من أضداد عناصر المكون الثاني. فهم نكرات مثلهم ولا ناقة لهم ولا جمل في الخطة. لكنهم بعكس حسني الطوايا هم من جنود الخطة الساعي أصحابها لمغالطة الشعب إنهم ملتزمون بها التزاما أعمى لتبعيتهم للمكون الأخير: إنهم "وزَّاكتهم" من النكرات التي تتطفل على الفكر والثقافة وخاصة على الإبداع الذي أصبح اختصاص عديم الباع من زعماء المكون الثالث.
والمكون الأساسي أو المحرك الداخلي لهذا الكارراكوز المسمى بهيئة حماية الثورة هم أصحاب الأجندة التي لم تعد خفية لكونها باتت تتجرأ على كل شيء اعتمادا على الابتزاز بتجويع الشعب إذا لم يحكموا في رقابه من خلال قدرتهم على وضعه في موضع من يحتاج إلى التسول باسمه بشرط أن يبقى عبدا لهم. إنهم أولئك الذين يحركون الدمى من الداخل متصورين أنفسهم زعماء التحديث ويدعون امتلاك الخبرة التي هي في الحقيقة مجرد إشاعة لكاسد البضاعة. فالقانون الدستوري والإسلامولوجيا والحضارة والنقد الأدبي والإبستمولووجيا والهرمينوطيقا إلخ من الأسماء الرنانة ليست إلا عناوين خاوية يتكلم عليها هؤلاء وهي منهم براء.
والمكون الأخير أو المحرك من الخارج من قريب ومن بعيد –دون أن يكون مذكورا اسمه في القائمة-هو من جعل المتكلمين باسم هذه الفنون رغم كونهم أساتذة عاديين جدا يكاد أفضلهم أن يكون متوسط المنزلة بين أهل الاختصاص يعتبرون أعيانا بتلميعهم في أعين الأنظمة والمعارضات اعتمادا على سمعة كاذبة مصدرها الاعتماد على المشاركة في إدارة الحكم تارة والمشاركة في إدارة المعارضة طورا أو في "النضال المزعوم" في الاتحاد العام التونسي للشغل أو في اتحاد الطلبة أو في ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني لتلميع شائعات تسوّق خبرتهم التي لا تتعدى في جل الأحيان تمثيل رجع الصدى الخافت لاستشراق بدائي هم دون مناهج أصحابه في فهم حضارتنا وأزيد منهم عداء لها.
وها أنا اليوم أحلل أمرين آخرين يوطدان الاطمئنان الذي أتكلم عليه دون الاستسلام للامبالاة فاقد الحذر المورثة للندم:
أولهما يدعم العامل المطمئن الثاني حتى يتأكد القراء أن أصحاب الثورة المضادة خاسرون المعركة لا محالة وقريبا قريبا جدا بسبب ما ذكرنا في تصنيفنا لمكوناتها حتى وإن كنا ما زلنا بحاجة إلى مداراة الأمر الواقع حتى نخرج البلاد من الاهتزازات التوابع للزلزال الذي يحيط بنا في كل الوطن العربي والذي بدأ عندنا.
والثاني يصف الصف المعادي للثورة حصرا إياه في المخططين ومن وراءهم في الداخل والخارج ليبين فهمهم السطحي إلى حد السفاهة والبلاهة إذ هم لا يعلمون أن الحداثة الحقة لا تكون إلا فرعا عن الأصالة الثابتة وأنها بهذا المعنى قد انتقلت فعلا من صف هذه النخبة المتأوربة في القشور حصرا منها للحداثة في ثمراتها الاستهلاكية إلى النخب الأصيلة التي تمثل البديل الحقيقي القادر على تحقيقها من حيث هي فاعليات إبداعية بمنطلق أصيل لأن الحداثة الأصيلة لا تكون إلا ثمرة للثورة الروحية المشتركة بين جميع البشر دون أن تكون نسخا لأي تجربة سابقة.
تدعيم العلة السلبية لتفاؤلي بمستقبل الثورة
صف أعداء الثورة لم يعد يخيف أحدا بعد أن قرر الشعب أخذ أمره بقوة حتى لو كانت قيادات الأعداء ذات فاعلية قيادية تنم عن القدرة الفائقة لمغالطته بصورة لطيفة. فكيف به لا يفعل إذا كانت كما نصف حمقاء تكرر ما فعله ابن علي إذ اعتمد على فلول اليسار المرتد عن قيم اليسار فصار ليبراليا بأفسد معاني الكلمة خلطا بين الليبرالية والليبرتانية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك فلحسن حظ الثورة أن قادة الثورة المضادة واستراتيجييها ليس لهم ذرة من "القماش" المتين للقيادات الفاعلة بحق بل هم أوهى من بيوت العنكبوت فكرا وعملا رغم حاجتنا إلى مراعاة الأمر الواقع مؤقتا لترتيب الصفوف وفرز القيادات.
فالمعلوم أن الثورة يتهددها الاندساس فيها أكثر من الخطر المتأتي من الصفوف المقابلة بوضوح. والفرز لا يكون ممكنا إلا بمعيار الاصطفاف خلال مباشرة أعداء الثورة الحكم. فذلك هو الامتحان حيث يكرم المرء أو يهان امتحان الحفاظ على قيم الثورة في المجالات التي وصفنا أعني مجالي صورة العمران (السياسة والتربية) ومجالي مادته (الاقتصاد والثقافة) المجالين اللذين على الشباب التمكن منهما والاستعداد لقيادتهما بدلا من النخب المهترئة التي تحكم حاليا والتي هي أخطر أعداء الثورة.
إن أقصى ما وجده الصف المقابل بوضوح لحماية نفسه هو المناورة المكشوفة والمداورة المفضوحة. وبين أنه لا يمكن للمناورة ولا للمداورة التي من جنس:
التلاعب بالدستور إلى حد السخف القانوني
والعبث بتركيبة الحكومات إلى حد الحمق السياسي
والتفنن في ترقيع أجندته بتكوين اللجان والهيئات كبائع الفريب.
ومحاولة الاندساس في إدارة الدولة استبدادا بمواضع المسؤولية في الجهات والسفارات خوفا من خسران السلطة.
وتخويف الشعب وابتزازه بالمجاعات ومنا عليه بتوزيع الفضلات والإعانات.
وإبهاره بحيازة رضا المستعمر من خلال ما يباهون به من قدرة على جلب السواح أو التسول لتحصيل التبرعات مقابل توطيد تبعية البلاد والعباد
وكل ذلك أخيرا لا يدل إلا على خوفهم على مستقبل طبقة لم تفهم بعد أن الشعب في غنى عن الوصاية الداخلية والخارجية وأنه قد أخذ المبادرة لأن يكون سيد نفسه ومحدد مصيره ومستقبله.
والرد على هذه الإستراتيجية الحمقاء لا أنتظره إلا من حماة الثورة الحقيقيين أعني الشباب فتيات وفتيانا بصورة لا تقل فاعلية من التي قلعت رأس النظام وبصورة سلمية وحضارية. وليس ذلك بالأمر العسير: فمن اليسر جعل الخادع مخدوعا بطرق أكثر فاعلية من الاعتصام في الساحات التي تعطل فاعلية الشباب الموجبة وتشل الحياة فتكون نتيجتها لصالح أعداء الثورة: فالاعتصام طريقة جيده في المقاومة لكنه ليس الطريقة المثلى فضلا عن كون تكراره يفقده مضاءه خاصة إذا صار عادة. وقد يكون مفعوله عكسيا في لحظة الابتزاز بالأزمة الاقتصادية المحتملة التي نتجت عن سلوك هذه الطبقة من هشاشة تخل بشروط القيام الحر والمستقل للوطن.
إنما العلاج الشافي هو في سد النقص الذي عانت منه الثورة علما وأن العنصر والجوهري في خطة أعدائها هو محاولة حصرها في مجرد فزة يمكن أن تهدأ بالفتات بإستراتيجية "جوع كلبك يتبعك": الرد هو في تحرير البلاد من الهشاشة بالاستغناء عن خدمات القيادات التي عملت عقودا ستة لتجعل هشاشة صورة العمران ومادته هشاشة بينوية وليست حالة ظرفية أي الهشاشة البنيوية في المجالات السياسية والتربوية والاقتصادي والثقافية. ثم هم يريدون الآن النفاذ إلى حصن المناعة أعني المجال الروحي للأمة فأعلنوا عليه الحرب التي لا هوادة فيها. ما ينقص الثورة هو التأطير ببعديه القيادي والمؤسسي. لذلك فالرد هو هذا العمل المزدوج:
1-فرز القيادات المدربة على إدارة الدولة بصورة عمرانها (السياسة و التربية) ومادته (الاقتصاد والثقافة):
فلما كانت كل الهيئات التي يتكون منها ما يسمى بالمجتمع المدني الموجود حاليا تنقسم إلى ما كان ثمرة مناورات النظام أو ثمرة مناورات المجتمع المدني الدولي بين ظفرين فإن بناء إستراتيجية الثورة بالاعتماد على هذين الصنفين لا يمكن إلا أن يؤدي إلى ما نراه حاصلا في ما وصفنا خاصة إذا علمنا أن جهاز الاتحاد العام التونسي للشغل وخاصة قسمه الأعلى لا يمكن إلا أن يكون أكثر خوفا من هذه الطبقة على مستقبله. ومن ثم فهو سيتحالف حتما معها.
ولما كانت القيادات التي أطرت الثورة بصورة مرتجلة متأتية في الأغلب من قاعدة بعض المنتسبين إلى مهن حرمت غالبيتها من أسباب العيش الكريم بسبب اقتسام كبار حيتان المهنة لخبزة القاتو-على سبيل المثال ملفات الشركات بالنسبة إلى المحامين أو عقود الدعاية التسويقية بالنسبة إلى أصحاب الصحف أو المناصب الوظيفية بالنسبة إلى النخب ذات الطموحات السياسية إلخ..-فإن الفرز في هذه القيادات سيتم بعون الله خلال هذه المرحلة الانتقالية فنعلم الغث منها والسمين فندرك من الجدير بأن يكون من المؤطرين الحقيقيين للثورة ومن لن يصمد فيلتحق بأعدائها القائمين على الثورة المضادة: من هنا كلامنا على ما ننتظره من الخروج من الهيئة المزعومة.
2- تكوين المؤسسات التي تمكن القيادات التي أنتجت الثورة وأنتجتها الثورة:
ذلك أن الارتجال يمكن أن يكون منطلقا للثورات لكنه لا يمكن أن يكون كافيا لنجاحها وللعمل ذي النفس الطويل في بناء الأمم الحرة والمستقلة وذات الوعي المنتح على حيوية هويتها. ومن ثم فلا بد من البديل عن هذه المنظمات كلها بهجمة نسقية على تكوين الجمعيات لا الأحزاب. ولتكن الجمعيات ثقافية ورياضية واجتماعية وحقوقية. وليكن أول هذه المؤسسات معاهد البحوث والتقادح الفكري لتكوين مجموعات تخطط لعمل صورة العمران ومادته ببعدها وتكوين القيادات الرشيدة والحكيمة خلقيا والقادرة والعاملة معرفيا.
مفهومهم للحداثة هو أصل الاستبداد والفساد الذي يمارسونه
من المعلوم أنه لا يمكن لإستراتيجية البدار الذي سلكه أعداء الثورة أعني خطتهم المفضوحة والتي هي لست خطة محكمة ولا مؤثرة على الأحداث إلا في الظاهر أن تغير من الأمر شيئا: الشعب فتح شبابه فتيات وفتيان أبوب الفعل التاريخي الحر والمقدام ولا رجعة في ذلك أبدا مهما فعلوا. فالهيئة فاشلة حتما لأن هدفهم منها يفيد بأنهم يتصورون الشعب مغفل: جعلوها مجلسا دستوريا خفيا يفرغ المجلس الدستوري المنتخب من كل معنى إذ سيناقشون فيه كل شيء ويقدمون له "الكسوة الجاهزة التي بشرنا بها رئيس الحكومة وتكون حسب "لي جوست موزير ديبوبل=خروتشاف". وهبنا سلمنا بحق أصحابها في محاولة الاستماتة وتسمية استعبادهم للشعب خدمة للوطن سعيا لاستعادة المبادرة وإعادة التاريخ إلى الوراء في تونس وفي كل الوطن العربي:
فهل شباب الثورة غافل إلى حد القبول بما يخططون له حتى وإن سكت عليهم حتى يفرز قياداته ويستجمع صفوفه ليوم الحسم في الانتخابات التي ستكون تيارا جارفا لتحرير تونس من حلف الفضلات التي سبق أن حددنا ؟
وهل من الحنكة السياسية أن يكون تخطيطهم بهذا الغباء الذي لم أر له مثيلا: فمن حسن حظ الثورة أنهم في يأسهم وربما بسبب الطابع المفاجئ للثورة لم ينهجوا طريق المخاتلة والمرحلية البورقيبيتين. لذلك ترى هؤلاء الخريجين مدرسته بسبب حمقهم يوجهون النقاش الوطني كله في هذه الهيئة توجيها سيوصلهم حتما إلى نهايته. فبما كانوا حمقى جعلوا مدار فكرهم كله موضوع فحص يبين في الغاية أنهم لا يدافعون إلا على تصور لا يميز بين الثورة الخلقية التي تمثلها الحداثة في حقيقتها التاريخية المعلومة لمن لا يكتفي بالشعارات والانحراف اللاخلقي الذي آلت إليه عند من يحاكيها بجهل بشروطها وقيمها.
جعلوا النقاش الوطني كله وبتهور وتجرؤ أحمقين لا يمكن لمن له أدنى ذرة من الفاعلية السياسية بدعوى الدفاع عن الحداثة أن يقدم عليه: فهم لا يدرون أنهم قد نفروا الجميع من خطابهم ومن الحداثة خاصة وتحالفهم مع الاستبداد والفساد ليس بحاجة إلى دليل. ثم إنهم لو كانوا حقا مؤمنين بقيم الحداثة لكانوا مؤمنين بأول شروطها أعني ما دعا إليه كنط عند كلامه على التنوير باعتباره الرشد النابع من الذات وليس التحديث المستبد الذي هو وصاية وهي حتما استبداد وفساد تماما كما حدث في كل الدكتاتوريات العربية التي تدعي التحديث والتي كانت الحامي الأول لهذه النخبة الخرقاء والخرفاء.
جعلوا النقاش يدور حول خرافات بقايا العمي الصم البكم من حاملي شعار التنوير أعني نخبا لم تتعلم من ثقافة أوروبا إلا "ريق" أبناء الطبقة المنحلة التي تتصور الحرية وحقوق الإنسان تحددهما فواشل الحياة ورواد الحانات وقواعد الصالونات (التي هي حانات لا تتميز إلا بسعر المشروب والمأكول والإطار وتأثيثه لا غير ولعلها دون الأولى من حيث الالتزام بقيم الثورة ). فكل هؤلاء لا يميزون بين قيم الحداثة التي أسست الحضارة الغربية على إصلاحات جوهرية تعلقت ب:
1- التربوي التعليمي
2-والعلمي التقني
3- والاقتصادي التكنولوجي
4-والسياسي الحكمي
5-والاجتماعي الثقافي
6-وكلها في إطار متقدم عليها تعلق بإصلاح روحي خلقي تبينت فيه بوضوح آثار دورنا الماضي في الحداثة الغربية ويمكن وصفه بكونه إصلاحا جامعا بين إصلاح النقل الديني وإصلاح العقل الفلسفي.
ورغم أن هذه الإصلاحات جميعا قد كان لفكرنا النظري والعملي فيها دور رئيسي لأنها جرت خلال لقاء جدلي حربي وسلمي بين الحضارتين العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية فإننا لن نتكلم هنا والآن على ذلك بل ما يعنينا هو الاعتراف بفضل غيرنا في ما حققه من منطلق حضارته المتخاصبة مع حضارتنا ومن ثم التسليم بضرورة التلاقح حاليا في الاتجاه المقابل ولكن على أساس إعادة الإبداع لا على أساس التقليد البليد ودون اعتبار الصيرورات التاريخية المختلفة. فكما تمت الحداثة الغربية بمخاض كان أساسه عرق جبين أهلها وبقيادة القلة من خلص أبنائها الذين آمنوا بضرورة الإقدام على مغامرة الإبداع والإنشاء التاريخي ولم يكتفوا بالتقليد فإن التحديث العربي عامة والتونسي خاصة بعد تجربة المحاكاة الفوقية لم يعد ممكنا إلا عندما يكون نابعا من الذات كما نراه عند الشباب الثائر.
فهذا الشباب فتيات وفتيانا لا علاقة له بالحلف الخماسي الذي أشرنا إليه والذي لا يزال متشبثا بتلابيب النظامين السابقين بل وبأكثر لكونهم يعيبون على بورقيبة أنه لم يكن علمانيا بالحد الكافي ولم يغسل يديه من الهوية غسلا مطلقا فأبقى على البند الأول من الدستور مثلا ولم يلغ آيات الإرث. لكن حداثيينا بخلاف هؤلاء الأبطال يلوكون شعارات الحداثة التي صيروها مجرد حدّاثة بألسنة لكناء ترطن بلغة ماتت حتى عند أهلها (الفرنسية) لكنها بقيت عندهم النافذة الوحيدة على العالم الذي لم يعد يتكلم فرنسي منذ نهاية القرن الثامن عشر. لذلك فهم قد مسخوا ثورات الحداثة الغربية مسخوها ليستمدوا منها كاريكاتورا يقابلون به مسخهم عن الثقافة العربية الإسلامية التي حصروها في كاريكاتور بقايا الانحطاط الذي يمثلوه:
1-فلا عجب عند من يعيش مترددا بين كاريكاتورين من الأصالة والحداثة أن يتحنط فيه ما تحمس له في شبابه فيعتبر الثورة الروحية التي هي بالجوهر متعلقة بفهم النقل الديني والعقل الفلسفي مقصورة على دراسة الكتاب الأحمر ودروس المساء في الثقافة الشيوعية الشعبية من قبل مدرسين أغلبهم لا يفيق من السكر والثرثرة الثورية لطلاب الثانويات بدلا من تعليمهم شروط التفكير المنطقي والعلاج المنهجي لقضايا الإنسان والعمران. فصارت الفلسفة مجرد فكر تهديمي آل بالطلبة إلى تصور كل الفلاسفة زنادقة في حين أن أغلبهم من كبار المؤمنين بأسمى القيم وأهمها طلب الحقيقة معرفيا والسعي للحق عمليا. فلا عجب إذن إذا كان أرقى ما بلغوا إليه عندما يتكلمون في علوم الأديان وتاريخها وتاريخ نقدها هو اعتبار قشور لاهوت الفاتيكان فكرا دينيا وجدل الفرق فلسفة تتعلق بالثورات الروحية.
2-ولا عجب إذن إذا صارت الثورة التربوية عندهم سعيا دائبا لجعل المدرسة جهازا إيديولوجيا أنهي ما كان للمدرسة التونسية وخريجيها من سمعة محمودة في كل جامعات العالم وحولها إلى معمل تخريج الأميين حتى صار المجاز من جامعاتنا لا يستطيع كتابة رسالة بأي لغة شئت.
3-ولا عجب إذا أصبحت لديهم الثورة العلمية التي حققها رجال يعملون ليلا نهارا فلا يكادون يخرجون من محراب البحث العلمي ثرثرة سطحية حول الانقلاب الكوبرنيكي وعلاقته بمنزلة الإنسان الذي لم يعد مركز الكون بل هو مجرد نسل القرود ثم يدعي أشباه الرجال هؤلاء أنهم يدافعون عن الإنسان فيمجدون دناكشة الحكام العرب من الدكتاتوريين فيكتب من جعلوهم رموز الفلسفة الحقيقية عندهم عن ثورتهم الهادئة وتحولهم التاريخي حتى يحصلوا على النياشين والمسؤوليات التي تخول لهم اقتسام فتات المائدة بسرقة المئات من الساعات الزائدة رغم أنهم لا يعملون حتى ساعاتهم القانونية.
4-ولا عجب إذا أمست الثورة السياسية عند جلهم فذلكة بين المزعوم من خبراء القانون الدستوري وهم ليسوا خبراء ولا هم يحزنون بل هم بالكاد أساتذة عاديون لم يتميزوا إلا بالسمعة التي خلقتها الشائعات المحلية المسنودة بتبادل الضيافات على حساب الدولة مع زملاء أجانب من جنسهم ثم يقدمون ذلك على أنه تعاون علمي مع الجامعات العالمية-ولنا من ذلك الكثير من أغمار الأساتذة الذين صاروا من الأعيان في العهد البائد بفضل هذه اللعبة التي شجعها زعيم اليسار المرتد الذي حول المدرسة إلى جهاز صراع إيديولوجي في عهد الدكتاتور الفار سعيا لإخضاع شبابنا لغسيل المخ ضد قيمه وتاريخه ومقدساته بدل تكوينه العلمي وتربيته الإنسانية الخلقية والروحية: وفي الحقيقة فإن كل هذه النحلة يستمد أبطالها كل ما لديهم من خيلاء وإذلال للطلبة من رطانتهم بالفرنسية أمام شباب صار أبكم لكونهم جعلوه ضحية بتعميمها من دون شروطها على شعب ليست هي لغته لا الأولى ولا الثانية ولا حتى العاشرة. لذلك صار مونتسكيو مؤسس الحداثة الدستورية في حين أن فكره دون فكر ابن خلدون بسنوات ضوئية فضلا عن معاصريه من فلاسفة العصر الكلاسيكي.
5-ولا عجب إذا صارت ثورة المجتمع المدني مقصورة في الأغلب عندهم على الاستقواء بأحزاب اليسار الفرنسية ثم ببوش وبجوقداليزا رايس لمساومة النظام من أجل الرفع في السهم المنتظر من امتيازات المافيا الحاكمة بدليل أن أغلب المستميتين في حوانيتها تجدهم مستعدين الآن للتحالف مع حزب الردة المستحوذ حاليا على السلطات كلها حتى بلغ به التحدي إلى الوعد بمجلس دستوري قُدم عليه مجلس دستوري للمجلس الدستوري: فما يسمى بهيئة حماية الثورة مجلس دستوري استباقي لتحريف عمل المجلس الدستوري الذي عليه أن يزكي ما يعده هذا المجلس لا غير.
6-وأخيرا من يمكن أن يعجب من رؤية الثورة الثقافية في عقول هذه الحثالة أعني جماع ما سبق من التحريفات تؤول إلى عبث أنصاف المثقفين وموشحي الصدور بالنياشين من شهود الزور في الجامعة التونسية وفي الساحة الثقافية حتى صارت نوادي الكتاب والشعراء والفنانين ومديري المؤسسات الجامعية والثقافية المعينين مجمع القوادة للداخلية المحلية وكل الداخليات الأجنبية. فالثقافة مقصورة على حفلات الرقص الهستيري في الصيف للطبقات الوسطى التي لا تستطيع أن ترقص في فنادق باريس من جنس ما يتمتع به العقلانيون العرب بفضل تمويل أحد المتنورين الليبيين إذ يوزع ما نهبه من شعبه على المزعومين عقلانيي العرب الذين يفعلون كل شيء ليفقدوا العقل خلال لقائهم للكلام على العقلانية.
7-لذلك فلعل هذا المجلس الذي يكاد يكون مجمع السفهاء إذا ما استثنينا بعض الأسماء التي تعد على أصابع اليدين السفهاء الذين يتصور من جمعهم أنه بهم يمكن في غفلة من الشعب وشباب ثورته أن يحمي بعض قلال الطبقة المستبدة والفاسدة والتي تكونت خلال العهدين السابقين ومنه استرد مكانته من طبقة العهد السابق لهما من خدم الباي أعني الطبقات التي أكلت حتى شبعت من النظامين الأخيرين ومن نظام البايات كما تبين الآثار في الأسماء والألقاب.
8-وكل من يعجب أخيرا من هذا الوصف المتشائم المصحوب بالنتيجة المتفائلة عليه أن يعلم أن ذلك هو المعنى الوحيد لفهم علل الثورة: فالفساد عم جل النخب العربية وليست النخبة السياسة بأكثرها فسادا ولا استبدادا بل إن النخب السياسية رغم كونها فاسدة ومفسدة فإنها ما كانت لتستطيع ذلك كله لولا هؤلاء الذين يمكن أن يكونوا بها هيئات من جنس هيئة عماية الثورة المضادة: فجل الهيئات في الوطن العربي هي هيئات طبل وزمر تعمي الساسة ولا تنيرهم ومن ثم فالساسة وإن لم يكون أبرياء فإنهم لا يلامون إذا وجدوا فيهم ملجأ لتزيين سلوكهم المافيوي الذي تعتبر هذه النخب أميل الناس إليه بما صار عندهم أشبه بالفترة: وقد اعتبر ابن خلدون في أحد فصول المقدمة إحاطتهم بالدولة من علامات نهايتها. وتلك هي علة انحطاط المنظومة التربوية وكل المؤسسات الوسطى بين الدولة والشعب سواء كانت نقابية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية وخاصة ما تعلق منها بالسلط الثلاث المعهودة. وزبدة القول إن سرطان الفساد والاستبداد لن يصفي منه دم البلاد إلى لهيب الثورة حتى وإن كان ينبغي لقياداتها ومؤسساتها أن تتكون على نار هادئة وتلك هي الحاجة إلى التكوين والوعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.