وزير الخارجية يلتقي بالكاتب العام لرئاسة الجمهورية الكامرونية    وزير السياحة يعلن الانطلاق في مشروع إصدار مجلة السياحة    درجات الحرارة لهذه الليلة..    صفاقس : خطأ عند الانتاج أم تحيل على المستهلك    رئيسة المفوضية الأوروبية تزورهذا البلد العربي الخميس    6 مليارات لتسوية ملفّات المنع من الانتداب…فهل هيئة المخلوفي قادرة على ذلك    الصحفي كمال السماري في ذمّة الله    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    وزير الثقافة الإيطالي: نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط حفظ الصحّة    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو إلى تنظيم تظاهرات طلابية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني    مصر.. تصريحات أزهرية تثير غضبا حول الشاب وخطيبته وداعية يرد    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    وزيرة الاقتصاد والتخطيط تترأس الوفد التونسي في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية    التعاون والتبادل الثقافي محور لقاء سعيّد بوزير الثقافة الايطالي    ملامحها "الفاتنة" أثارت الشكوك.. ستينيّة تفوز بلقب ملكة جمال    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة نجم المتلوي    دورة اتحاد شمال افريقيا لمنتخبات مواليد 2007-2008- المنتخب المصري يتوج بالبطولة    استقرار نسبة الفائدة الرئيسية في تركيا في حدود 50%    فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء    وزيرة التربية تطلع خلال زيارة بمعهد المكفوفين ببئر القصعة على ظروف إقامة التلاميذ    عاجل: هذا ما تقرر في حق الموقوفين في قضية الفولاذ..    دورة مدريد للماستارز: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 35 عالميا    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم السبت 27 أفريل    المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    "حماس" تعلن تسلمها رد الاحتلال حول مقترحاتها لصفقة تبادل الأسرى ووقف النار بغزة    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    تونس تسعى لتسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لليونسكو    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    تقلص العجز التجاري الشهري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من ينبغي أن يمنع من الترشح إلى المجلس التأسيسي
نشر في الحوار نت يوم 09 - 05 - 2011


دراويش الحداثة و العلمانية
أبو يعرب المرزوقي
فلنبدأ بتعريف المقصود بحلف الفضلات (لا الفضول) الخمس الحلف الذي يحكم تونس بعد سقوط رأس الاستبداد والفساد. فيمكن تعريفهم بالرسم و الوسم المغنيين عن الألقاب والاسم. فهم:
1-بقايا النظام ممن سرطن الحزب الدستوري فأفسد قياداته خلال عهد بورقيبة وعهد خلفه الذي حكم بهم كعادة كل مستبد يستبدل العصبية التي أسست الدولة بعصبية الولاء النفعي التي تمكن الزعيم من الاستفراد بالحكم. وهؤلاء الذين انضموا إلى الحزب الدستوري في المراحل الأخيرة من حرب التحرير .
2-قيادات فاسدة تنتسب إلى اليسار رضيت بتبادل الخدمات المباشرة مع الدكتاتور الفاسد الذي استفرد بالحكم مع مافيته لاستبعاد قيادات الحزب الدستوري في لحظات التحرير الأخيرة حتى تحقق بالتدريج القضاء على كل المخلصين من نخبه التي غذت جل أحزاب المعارضة التي قضى عليها ابن علي وعوضها بالأحزاب الكرتونية. وقد غزا الفاسد من نخب اليسار الحزب والدولة إما مباشرة أو بتوسط الاتحاد العام التونسي للشغل أداتين لغزو روح الشعب من خلال الاستحواذ على المنظومة التربوية والثقافية والإعلامية وتزيين صورة الدكتاتور عند الرأي العام الرسمي الغربي بسبب ما لهم به من علاقات وخاصة مع مركز الثقل فيه أعني الصهيونية العالمية.
3-قيادات فاسدة أخرى منتسبة إلى اليسار لم يرضها مجرد تبادل الخدمات فطالبت بالمزيد وظلت تساوم إلى الأيام الأخيرة من النظام البائد تحت مسمى المعارضة المقصورة على نوع الحكم دون الأهداف الأساسية لسياسة التبعية الاقتصادية والثقافية والعداء لمقومات الهوية الوطنية. لذلك فمعارضتها كانت في الحقيقة أسلوب مفاوضة مع من تؤمن أنه أصل قيام النظام الفاسد والمستبد أعني فرنسا وأمريكا لعلهما يجعلانها البديل وأقصد بذلك الحزبين اللذين قبلا في الغاية التحالف مع النظام في أواخر أيامه لمنع الثورة من الذهاب إلى غايتها. ولعل قفز الحزبين اللذين يقدمان نفسيهما على أنهما مختلفان عن المعارضة الموالية على فرصة المشاركة في الحكم عشية سقوط الدكتاتور قد فضح هذا الأسلوب.
4-جل قيادات الاتحادات التونسية الممثلة لفروع العمل أعني جل قيادات اتحاد الشغل واتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين واتحاد النساء إلخ...فهذه القيادات متحالفة مع الفروع الثلاثة السابقة بل هي مثلها تعيش على استعمال أجهزة الدولة لامتصاص دم العمال وأصحاب العمل والفلاحين وكل منتسبيهم بحيث إنهم يمثلون فروع المافية الحاكمة ويتقاسمون مع المستبدين والفاسدين استغلال الشعب التونسي وامتصاص دمه إلى آخر قطرة.
5-جل قيادات ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني أعني تلك التي كونها النظام لسد المجال المدني على غير تابعيه أوتلك التي فرضها ما يسمى بالمجتمع المدني الدولي والتي هي في أغلب الأحيان في خدمة أجندات لا يعلم إلا الله طبيعتها حتى لا نقول أكثر من ذلك.
والعامل الموحد لهذه القيادات هو معاداة مقومات الهوية بدعوى التحديث الذي انحصر عندهم في أعراض الحداثة الاستهلاكية التي تؤول إلى توطيد التبعية من دون شروط التحديث التي نراها قد حققت الاستقلال والندية في جل بلاد آسيا وخاصة عند نمورها. وهذا ي ال
الحلف لم يتوان في فضح نفسه بممارسته التي طغت على كل ما أقدم عليه من أعمال وأقوال خلال استحواذه على الدولة وأجهزتها وأدواتها مباشرة بعد سقوط رأس الاستبداد والفساد ومنعه الثوار من تولي الأمر مدعيا أنه يسعى إلى تحقيق أهداف الثورة والإصلاح الدستوري فضلا عمن اختاره حلف الفضلات لتمثيله ممن عمل طيلة حياته شاهد زور في مجلس نواب المافية على الأقل في العقدين الأخيرين. لذلك فقد تبين للجميع باستثناء الجماعة اليائسة والبائسة التي أصبحت يتيمة بعد تداعي أركان النظام مصدر سلطانهم للحاجة المتبادلة بينه وبينهم وسطاء لدى رأي أسياده العام غباء الخطة التي انتهجوها قصدت أولئك الذين يدعون الثورية ويتكلمون باسم حداثة لم يفهموا منها إلا ما سماه الاستعمار بالمهمة التحضيرية وصاية على الشعوب بالاستبداد والفساد.
وليست الحداثة عندهم هي الحداثة الأصيلة أعني التنوير العقلي (الرشد النظري بمعرفة مسؤولية العقل المدرك لحدود علمه) والخلقي (الرشد العملي بمعرفة مسؤولية الإرادة المدركة لشروط تساميها على الضرورة) بل هي عندهم لا تتعدى الخطة المعهودة الهادفة إلى نفس الغاية التي لا تتجاوز جعل الدنيا غاية همهم والهوى أساس وجودهم. وحتى يبرروا هذا الفهم الرديء يلجأون إلى سلوك الجعجعة الإيديولوجية الجوفاء خاصة بعد أن يئسوا مما كانوا يعولون عليه للإبقاء على السند الخارجي المباشر في غياب السند غير المباشر الذي كان متمثلا في الاعتماد على رئيس مافية الاستبداد والفساد: الاستفزاز النسقي لتحريك التطرف المقابل لتطرفهم حتى يجعلوا ما ظنوه سيبقى إلى الأبد فزاعة (الحركات الإسلامية) ذا مصداقية لدى من يستنجدون بهم طلبا للتدخل الأجنبي.
لم تدرك نخب العهد البائد نخبه الجامعية والثقافية والسياسية التي هذا فكرها الحقيقتين التاليتين اللتين تثبتان أن هذه النخب قد فقدت كل صلة مع الواقع الخارجي (الذي كان معتمدهم الأول والأخير) والواقع الداخلي (الذي تمثل خصائصه علة حصول الثورة الحقيقية) الواقعين المحددين لطبيعة الظرفية وما يناسبها من علاج:
1- الواقع الخارجي: (وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك بهذه الفقرة) فهم لم يدركوا بعد "أن الغرب نفسه لم يعد يصدقهم وهو لم يصدقهم أبدا بل تظاهر بتصديقهم لأن ذلك كان يخدم أغراضه. ولما انهزم أمام مطاولة المسلمين اكتشف أن النتيجة كان عكسية فقبل مكرها الحقيقة التي لا مفر منها وهي أن الشعوب العربية خاصة والإسلامية عامة لا تقبل بالاستقلال الصوري بل هي تريده استقلالا حقيقيا أعني أن يكون تشريعها الروحي والحضاري عين العبارة السيدة عن إرادتها: لذلك فلا حاجة للأحزاب المخلصة للوطن والتاريخ أيا كان خيارها السياسي (إسلامي مستنير أو قومي متخلص من الفاشية أو يساري غير معاد لحضارته أو ليبرالي غير عميل) لإخفاء أجندتهم الاستقلالية بالمعاني التالية:
الاستقلال الثقافي
الاستقلال الاقتصادي
الاستقلال التربوي
الاستقلال السياسي
ومن ثم تحقيق شروط القيام الذاتي الممثل لخيارات قيمية لا تعتبر ما حصل في التاريخ الغربي محددا لمستقبل الإنسانية بل هي تسعى إلى المشاركة في رسمه من قبلتها القيمية التي تفتح أفقا جديدا للإنسانية يحررها مما آل إليه من عبادة للعجل الذهبي الذي جعل كل البشر عبيد المتدانيات التي حطت الإنسان إلى منزلة الحيوانيات التي جعلت الدنيا همها والهوى معبودها بدعوى التحرر من سذاجة الإيمان بالمثاليات والمتعاليات".
2- الواقع الداخلي: وهم لم يدركوا بعد أن مقومات الحداثة الأساسية انتقلت إلى صف النخب المدافعة عن الحداثة الأصيلة التي تنبع من فاعلية الحضارة العربية الإسلامية فاعليتها المبدعة لأن النخب المدافعة عن الخيار المقابل فقدت كل صلة حقيقية بهذه المقومات ولم يبق لها منها إلا الكلام عليها وعلى بعض ثمراتها العرضية. فلو قمنا بعملية إحصاء بسيطة بين النخب لوجدنا أن جل المنتسبين لحركة النهضة مثلا (ومثلها كل الحركات الإسلامية في البلاد العربية أو الإسلامية) هم من الحاصلين على التكوين الحديث في الميادين المقومة للحداثة في مجالي العلوم الصحيحة والإنسانية وتطبيقاتهما فضلا عما وفره لهم النفي من التعرف على الحضارة الغربية من قرب بخلاف النخب التي تدعي الحداثة حصرا لها في بعض ثمراتها المتعلقة بأنماط العيش وليس بشروط القيام المستقل والعيش غير التابع.
ولعل تصور هؤلاء الوسطاء للسياسة المشروط بتنافيها مع متعالي القيم العقلية والنقلية ليس إلا التبرير غير الواعي لسلوكهم في التعامل مع ثروة الأمة وتراثها نهبا للأولى وتبديدا للثاني: فهي الانتهاز ولا شيء عدا الانتهاز كالحال مع كل من أخلد إلى الأرض فعاد إلى وضع المكب على وجهه. وليس لهياجهم الحالي من عذر عدا ما هو مفهوم حقا بعد ما نكبوا بتساقط الدكتاتوريات العربية التي كانت بحاجة إلى فنهم في الطلاء والماكياج مع لعبة المعارضة الموسمية للمساومة وتبدل الواقع الداخلي والخارجي الذي لم يعد ملائما لدعاواهم. لم يعد لهم من يتكئون عليه لممارسة الاستبداد الثقافي الذي يمكنهم من خدمة تزيين الاستبداد والسياسي باسم التحديث الاستبداد الذي وزع أداتي الحكم المعهودين بالتساوي:
الإطماع لهم من خلال المشاركة في نهب الشعب وتقاسم مزايا المافية الحاكمة حتى إن جل من حكم بهم ابن علي هم من فاسد نخب اليسار في عهد بورقيبة وعهد ابن علي لأن جل من كان بيده النفوذ من حولهما لم يكن من القاعدة الحزبية بل كان دخيلا عليها وواردا من اليسار الذي تخلى عن قيمه. وجميع من عاش الحقبتين يمكن أن يشير إليهم بالاسم وإن كنت هنا اكتفي بالرسم.
والعنف للشعب من خلال الحرب الرمزية والنفسية التي تولاها هؤلاء الخدم من سياسة اجتثاثية لكل من يمثل أصالة الثقافة الوطنية بحربهم الاستعمارية على الدين الإسلامي واللغة العربية تحت اسم تجفيف المنابع والحرب المادية التي تولتها الأجهزة الأمنية الموازية وجلها معينه "قوادو" الجامعات والمؤسسات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
وظنهم أن حذر الحركات المعارضة الوطنية إسلامية كانت أو قومية أو ليبرالية وطنية أو يسارية تدافع عن العدالة دون نفي للأصالة لتجنب محاولات الإجهاض التي تتعرض لها الثورة يمثل فرصة العمر لتمرير ما ينوون تمريره من إجراءات الكل يعمل عداهم أنها لا مستقبل لها. لذلك تراهم قد سيطروا من خلال نفس الحلف بين هذه الرهوط التي وصفنا على الدولة والهيئة المزعومة لتحقيق أهداف الثورة حاصرين هذه الأهداف في ما يعنيهم من الحقوق:
فالثورة صارت ثورة من أجل الديموقراطية والعلمانية بمعناهما الذي يحصر حقوق الإنسان في الحقوق السياسية التي يطلبونها لتحويل تونس إلى ما كانت عليه مصر الباشوات
والثورة صارت غافلة عن حقوق الإنسان الاجتماعية التي هي أصل كل الأفعال ومنطلق كل القيادات الميدانية للحركة الشبابية التي لم تعد تقبل بالظلم الذي لا بد أن يتواصل إذا قبلنا بخيانة القيم التي جعلت من كان يزعم الكلام باسم الديموقراطية الشبعية يتحول إلى الكلام باسم الديموقراطية البرجوازية.
والثورة صارت غير مبالية بالحقوق والثقافية التي من دونها لا معنى للقيام المستقل للأمم والشعوب وخاصة تلك التي اضطهدت في مقومات وجدها الحضاري خلال حقبتي الاستعمار والاستقلال الصوري الذي عاشته طيلة نصف قرن.
والثورة تنازلت عن جعل هذه الحقوق الثلاثة الأخيرة تحدد ليس بالقياس إلى القانون الخاص بالدولة الوطنية فحسب بل وكذلك بالقياس إلى القانون الدولي (حقوق كل الشعوب في العدالة الاجتماعية والخصوصية الثقافية) الذي بات حكرا على القوى الاستعمارية بحيث صار الكنجرس الأمريكي يشرع للبشرية وأصبحت الشعوب المستضعفة خاضعة لسلطة تشريعية وتنفيذية وقضائية ليس لها أدنى دور في انتخابها.
لو كانت هذه الرهوط مهتمة فعلا بتحقيق قيم الحداثة لكانت ساعية إلى جعلها مطلوبة من الشعب ومستجيبة لهذه المطالب المشروعة التي لأجلها قامت الثورة ولم تقم من أجل تمكين بعض النخب العميلة من الاستحواذ على أدوات تعميق التبعية باسم ديموقراطية بانانية لا تتجاوز ما كانت عليه في مصر الباشوات. إنهم لا يهتمون بقيم الحداثة بل هم حولوها بسبب صورتهم الكاريكاتورية عنها إلى هندام حرب على حضارة الثوار ورمز عداء صريح لكل ما يؤمن به الشباب الذي قام بالثورة والشعب الذي دفع من أجلها النفس والنفيس. والشباب الثائر أقرب إلى قيم الحداثة الأصيلة (كل اليسار والليبرالية التي تريد أن تجد قاسما مشتركا بين حقوق الإنسان وقيم الأمة الأصيلة) وقيم الأصالة الحديثة (نفس الموقف وإن من الاتجاه المقابل أعني البحث عن القاسم المشترك بين قيم الأمة الأصيلة وحقوق الإنسان) من كل هؤلاء العملاء الذين لا يتصورون التحديث إلا بنفي الذات ومجرد المحاكاة القردية للغير:
لكن جميع الشباب الثائر بات يدرك أنهم يحاربون كاريكاتورا اختلقوة من الأصالة التي حصروها في ما يسعون إلى إثارته من ردود فعل مشتجنة قد يدفعون إليها الرأي العام الشعبي على الاستبداد والفساد الذي يواصلونه بسند الدكتاتورية الداخلية التي نصبتها دكتاتورية الاستعمار القديم والجديد في كل أقطار الوطن العربي.
وهو بات يدرك أنهم يحاربونه بكاريكاتور اختلقوه من حداثة استهلاكية لا تناسب إلا هذه الجماعة التي تمتص دم الشعب فجعلوها حربا على ما يؤمن به شباب الثورة والشعب من قيم لأنهم يرون أنها لا تستحق البقاء ومن ثم فالاجتثاث عندهم لم يعد يعني اجتثاث الإسلام السياسي فحسب بل هو سعي لاجتثاث الإسلام نفسه حتى يتم لهم فرض معتقد الأقلية على الأغلبية رغم الكلام على حرية المعتقد ومن ثم فمثالهم الأعلى صار وفاء سلطان (التي تحارب الإسلام) بل إن جل ممثلات النساء بينهم هن من جنسها وجل ممثلي الرجال بينهم هم من جنس نعيسة (الذي يحارب العروبة).
وبذلك فهم قد حولوا معركة القيم التي وظفوا فيها أجهزة الدولة ومناورات الهيئة فجعلوهما طرفا فيها بدلا من أن تكونا حكمين وحولوا المرحلة الانتقالية إلى كاراكوز تمرير إجراءات تقرر المستقبل بديلا من المجلس التأسيسي الذي مسخوه من الآن بحيل النظام الانتخابي ونظام المراقبة. والغلب على مناخ أحوالهم الفكرية والخلقية أنه لا يتجاوز "ضمار البلدية (=المزاح الثقيل( من جنس كسوة خروتشاف" رغم تصورهم إياه فهلوة وإبداعا. إنه مناخ لا يعدو أن يكون تحديث المترفين والمستبلدين. لذلك فهو قد جمع لاميوعة المتسيبين وشراهة المحرومين ممن لم يشارك في الثورة لكنه يريد أن يجيرها لصالح ما يتصوره حريات دون تمييز بين الليبرالية القيمية والليبارتينية الخلقية وبين حرية الفكر والاستهتار القيمي.
ولعل جماع هذا العداء هو ما تعين في الحلقة المضيقة المتنفذة بين مالئي الكراسي ممن لا يعنيهم من حضورهم إلا ظهورهم في ما أطلقوا عليه هيئة تحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي علنا وما قصدوا به هيئة الدفاع عن سلطان ضديد الثورة الخفي: فهذه الحلقة المضيقة تتألف من دراويش كاريكاتور الحداثة من حضر منهم في العلن ومن بقي حاضرا من وراء حجاب مدعين التخصص في المجالين الحقوقي (سعيا لتأسيس سلطان فقهاء الوضع بدعوى تحرير الشعب من فقهاء الشرع لكأن استبداد القانونيين ليس من جنس استبداد الفقهاء خاصة إذا كان ضمير مواقفهم هو إضفاء القدسية على علمانيتهم) والفكري (سعيا لتأسيس سلطان علم كلام يراوح بين اللاهوت المسيحي المتمركس واللاهوت الماركسي المتمسح بدعوى تحرير الشعب من علم الكلام الأشعري والحنبلي).
"تصوروا أنهم بالاعتماد على موميات العهود الثلاثة البائدة (عهد البايات وعهد بورقيبة وعد ابن علي) والبعض من نسلهم العاق لماضي أسرهم يستطيعون "تنظيف" القصبة من المعتصمين والدولة من الوطنيين والمجتمع من مقاومي الاستبداد والفساد فاستقروا على سدة الحكم السياسي والاقتصادي والتربوي والثقافي في وجودها الفعلي من خلال أجهزة الدولة واستووا على سدته في وجودها الرمزي من خلال أجهزة الإعلام الذي تأكد الجميع أنه صهيوني حتى النخاع. تصوروا الشعب ستتآكل حركته الثورية في جدال عقيم حول الحجاب والعلمانية هلم جرا من قشور الموز التي رمز إليها قائد السبسي بكوستوم خروتشاف.
وما كانوا يخفونه تحت شعار الديموقراطية أبدوه الآن بكل وقاحة فجاءت المطالبة على لسان أحد دراويشهم. وقد لا يصدق من يحسن الظن ببعضهم أنهم جميعا دروايش لا يريدون إلا جعل فقهاء الوضع (المزعوم أساتذة قانون ومنظروه) يحتلون منزلة فقهاء الشرع (الفقهاء التقليديون) بحيث إن غاية مطلبهم هو تأسيس الكنيسة اللائكية. وبذلك تفهم تحالفهم الواضح مع التصوف والتشيع حيث تجتمع المعاني الثلاثة لمفهوم الكنيسة: السلطة الوسيطة بين الإنسان والمطلق (نظرية الإمامة ونظرية القطب ونظرية العقل المشرع بإطلاق).
وجل هؤلاء الدراويش يتصورون أنفسهم علماء في ما لو قيس بنماذجهم (المستشرقين) لكان دونه علمية وفوقه حقدا على الحضارة العربية ولو عرضوا بضاعتهم في أي جامعة ممن يباهون بأنها تدعوهم للمحاضرة فيها لكانت مسخرة بمجرد أن نحذف منها ما لأجله تمت دعوتهم: تمجيد الغرب وحتى إسرائيل والحرب على الإسلام والتعريض بالمسلمين. ذلك أنهم يخلطون في الفكر بين قشره ولبه فيتكلمون في فلسفة الدين بغير علم وفي العلمانية بحصرها في صورتها اليعقوبية ودون اعتبار السياقات فيكون كلامهم في كل الأحوال بأقل مما يمكن أن يتكلم فيهما أي مبتدئ في الفكر الفلسفي.
ولعل أكبر مهازل هذا الفكر أن أحدهم إذا قدم كلاما في عملنة الدين الإسلامي مثلا يصل إطراء آخرهم لسطحياته الساذجة في الفكر الديني إلى حد ظنه نازلا من فلك آخر تعبيرا عن الإعجاب بلاباليساديات عند من يعلم معنى الفكر الديني ما هو. فقد صار الفكر الديني الحديث والعلمنة مقصورين مراجعهما على فتاوى البابا وسطحي الملاحظات حول بعض مواقف المفاتي في القرن التاسع عشر دون أدنى كلام على أي من فلاسفة الحداثة فضلا عن أسانيد العلمانية والرفض التحكمي لكل شكل آخر غير الشكل اليعقوبي حتى لو كان مما رضيت بها نخب أول ديموقراطية حديثة تحققت بالفعل في تاريخ البشرية: علمانية الولايات المتحدة الأمريكية التي يؤدي الدين في حياتها السياسية وفي ديموقراطيتها دورا أساسيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.