الخطوط الجوية الفرنسية تعلن عن اختراق أمني لبيانات المسافرين... وتحذر من رسائل مشبوهة    قيس سعيّد: الشعب التونسي سيُحبط محاولات التنكيل به وتأجيج الأوضاع    "قتلوا للتو بيليه فلسطين " .. أسطورة مانشستر يونايتد يهاجم إسرائيل    رئيس الجمهورية يستقبل البطل التونسي أحمد الجوادي    النادي الصفاقسي يعزّز رصيده البشري تحضيرا لانطلاق نشاط البطولة الوطنية    بعد عقد على إغلاقها.. تونس تعيد افتتاح قنصليتها في بنغازي    تعرض لأزمة صحية شديدة.. نقل الفنّان المصري محمد منير الى المستشفى    متابعة للوضع الجوي لهذه الليلة..    عاجل/ وزارة الداخلية تعلن ملاحقة هؤلاء..    مستقبل القصرين: انهاء مهام المدرب ماهر القيزاني    اجتماع وزاري لوضع خطة لتطوير السياحة العلاجية وتصدير الخدمات الصحية    سياحة: تونس تسجل أرقاما قياسية في عدد الوافدين والإيرادات خلال النصف الأول من عام 2025    تاريخ الخيانات السياسية (38): قتل باغر التركي    20 ألف هكتار مهددة: سليانة تتحرك لمواجهة آفة 'الهندي'    في دورتها الثلاثين... تتويج مبدعات تونسيات بجائزة زبيدة بشير... التفاصيل    إيقاعات إفريقية في قلب العاصمة: ديان آدامز يحيي سهرة استثنائية بساحة النصر    ماكرون يأمر بتعليق إعفاء التأشيرة للجوازات الجزائرية الرسمية    مبادرة لتنظيم "الفرنشيز"    مدير جديد لوكالة التحكم في الطاقة    604 تبليغ بشأن امدادات مياه الشرب    حسّان الدوس في مهرجان ليالي المهدية: فلسطين في القلب... ولمسة وفاء لزياد الرحباني    بنزرت الجنوبية: وفاة مسترابة لإمرأة مسنة    مكانة الوطن في الإسلام    بوتين يجتمع إلى مبعوث ترامب في الكرملين على مدى 3 ساعات    بطولة الرابطة المحترفة الاولى: الاولمبي الباجي يعلن عن تسوية كل النزاعات والمشاركة في البطولة    قفصة : برمجة 18 مهرجانا صيفيّا خلال هذه الصائفة    مصر تشن حملة واسعة ضد محتوى ''تيك توك''    عاجل/ مقتل وزيرين في تحطم مروحية بهذه الدولة..    عاجل: لقاء الترجي مهدّد بالتأجيل... وهذا هو السبب !    مدنين: فتح تحقيق في ملابسات وفاة شاب أثناء شجار مع عدد من الأشخاص    السالمي: إلغاء جلسات التفاوض حاجة خطيرة وبرشة حاجات صارت اليوم تفوق الخطورة    اعتقال شقيق الممثلة أسماء بن عثمان في أمريكا : زوجته تكشف هذه المعطيات    مهرجان مرايا الفنون بالقلعة الكبرى من 15 إلى 24 أوت 2025    فتح باب الترشح للطلبة التونسيين للتمتّع بمنح دراسية بمؤسّسات جامعية بالمغرب وبالجزائر    توننداكس يسجل تطورا ايجابيا قارب 31ر16 بالمائة خلال النصف الأول من سنة 2025    ما هي التطورات المتوقعة في قطاع الاستهلاك الصيني؟    نجم المتلوي يعزز صفوفه بالمهاجم مهدي القشوري    عاجل : الحرس الوطني يكشف معطيات حول فاجعة اشتعال النّار في يخت سياحي بسوسة    عاجل- سوسة : غرفة القواعد البحرية للتنشيط السياحي تنفي و توضح رواية السائحة البريطانية    50 درجة حرارة؟ البلاد هاذي سكّرت كل شي نهار كامل!    عاجل: دولة عربيّة تعلن الحرب عالكاش وتدخل بقوّة في الدفع الإلكتروني!    عاجل/ رئيس قسم طب الأعصاب بمستشفى الرازي يحذر من ضربة الشمس ويكشف..    علامات في رجلك رد بالك تلّفهم ...مؤشر لمشاكل صحية خطيرة    كيلي ماك.. نجمة The Walking Dead تخسر معركتها مع المرض    الحمامات: وفاة شاب حرقًا في ظروف غامضة والتحقيقات جارية    اتحاد الشغل يردّ على شائعات "هروب الطبوبي": ملا تفاهات وأخبار زائفة!؟    لبنان يغيّر اسم شارع حافظ الأسد إلى زياد الرحباني    ماء الليمون مش ديما صحي! شكون يلزم يبعد عليه؟    إحداث قنصلية عامة للجمهورية التونسية بمدينة بنغازي شرق ليبيا    الرابطة المحترفة الاولى : شبيبة العمران تعلن عن تعاقدها مع 12 لاعبا    جريمة مروعة تهز هذه الولاية..والسبب صادم..#خبر_عاجل    أوساكا تتأهل إلى قبل نهائي بطولة كندا المفتوحة للتنس وشيلتون يُسقط دي مينو    فرنسا: حريق ضخم يلتهم آلاف الهكتارات بجنوب البلاد    مهرجان قرطاج الدولي 2025: الفنان "سانت ليفانت" يعتلي ركح قرطاج أمام شبابيك مغلقة    تاريخ الخيانات السياسية (37) تمرّد زعيم الطالبيين أبو الحسين    دبور يرشد العلماء ل"سرّ" إبطاء الشيخوخة..ما القصة..؟!    عاجل- في بالك اليوم أقصر نهار في التاريخ ...معلومات متفوتهاش    التراث والوعي التاريخيّ    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معيار فقر أو ثراء الدول العربية -نصر شمالي
نشر في الحوار نت يوم 19 - 03 - 2011


معيار فقر أو ثراء الدول العربية

نصر شمالي
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.