رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    بالفيديو: رئيس الجمهورية يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها    قيس سعيد يزور مطحنة أبة قصور بالدهماني ويتعهد بإصلاحها (صور + فيديو)    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    كيف سيكون طقس الجمعة 2 ماي؟    طقس الجمعة: خلايا رعدية مصحوبة أمطار بهذه المناطق    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    الرابطة الأولى (الجولة 28): صافرتان أجنبيتان لمواجهتي باردو وقابس    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معيار فقر أو ثراء الدول العربية -نصر شمالي
نشر في الحوار نت يوم 19 - 03 - 2011


معيار فقر أو ثراء الدول العربية

نصر شمالي
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.
يشهد الوطن العربي الكبير انتفاضات ثورية شعبية تاريخية نوعية، متزامنة ومتتابعة، تطرح على طاولة المعالجة والحلّ قضايا الأمة وأوضاعها من أساسها وبجميع جوانبها، الأمر الذي يشير إلى تأهّب الأمة للنهوض بعد طول قعود، ويشير إلى ما سوف يترتّب على ذلك من نتائج ضخمة وعظيمة، إقليمية ودولية.
ولا بدّ أنّ قضية الثراء المالي الفاحش في بعض الدول العربية، والفقر المالي المدقع في بعضها الآخر، تأتي في رأس القضايا التي تستدعي البحث. أمّا المال المقصود فهو الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية تحديداً.
إنّ الوضع الطبيعي، المستقرّ، للرأسمال المالي يشترط تكامل حركته وتناغمها مع حركة مجتمعه أو شعبه أو أمته، ويشترط تكامل هذه الحركة وتناغمها مع المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية الثابتة، الدائمة، لهذا المجتمع أو الشعب أو لهذه الأمة، فتوفّر الرأسمال المالي، أو السيولة النقدية، لا يشكّل في حدّ ذاته معياراً للثراء وإن شاعت مظاهر الثراء في بلدان أصحابه، مثلما أنّ عدم توفّره لا يشكّل معياراً للفقر، وإن شاعت مظاهر الفقر في بلدان أخرى، فهناك بلدان عربية تفتقر إلى السيولة النقدية، لكنها بثرواتها الطبيعية الثابتة، المستمرّة، البشرية والمادية، أعظم ثراءّ بما لا يقاس من بلدان عربية أخرى وفّر لها النفط عرضاً، ومؤقتاً، سيولة نقدية هائلة تفيض عالمياً، لكنّها منفصلة عن ثروات الأمة، الطبيعية الثابتة والمستمرّة، التي ينبغي أن تتكامل معها.
لقد ذكرت مصادر الأخبار قبل فترة أنّ الصين، بعدد سكانها الذي يقارب المليار ونصف المليار نسمة، تمتلك كاحتياطي نقدي أكثر من ثمانية تريليونات من الدولارات، وأنّ الهند، بعدد سكانها الذي يتجاوز المليار نسمة، تمتلك بدورها أكثر من ثلاثة تريليونات، وأنّ دول الخليج العربية، بعدد سكانها الذي لا يتعدّى العشرين مليوناً، تمتلك أيضاً أكثر من ثلاثة تريليونات، أي ما يعادل احتياطي الهند! غير أنّ الكتلتين النقديتين الصينية والهندية متكاملتين مع أمتيهما، بينما الكتلة النقدية العربية ليست كذلك، فهي منفصلة عن أمتها التي تعدّ حوالي 350 مليوناً، الأمر الذي يضعها في تصرّف الأسواق المالية الأجنبية، ويعرّضها لمختلف أنواع الاحتيال والابتزاز والسرقة، ويجعل مستقبل أصحابها عرضة للضياع التام.
إنّ وظيفة الرأسمال المالي هي تحقيق جدواه الداخلية أولاً، ومن ثمّ جدواه الخارجية. فالمجتمع الخاص هو الذي يعطي رأس المال المالي قيمته ودوره ومداه في الداخل، ثم في الخارج. ولنا أن نتخيّل المليارات، بل التريليونات، مكنوزة في الصناديق الخاصة، ومقيمة في حيّز بشري وجغرافي عاجز عن استيعاب طاقتها، الأمر الذي يفرض توظيفها في ميادين الإقراض أو الاستثمار الخارجي الذي يشبه الإقراض، ثمّ أن نتخيّلها في المقابل تتفاعل مع قدرات أمتها، وتدخل إيجابياً في صميم تفاصيل بنيتها التحتية، وبعد ذلك تنطلق متعاملة بندّية وجدارة مع الرساميل المالية الدولية، مثلما فعلت الصين والهند وغيرهما. إننا عندئذ سوف نكتشف الفارق الحاسم بين الثراء الحقيقي والفقر الحقيقي!
نقول ذلك وقد تابعنا بأسى تطوّرات الأزمة الاقتصادية العالمية، ورأينا رياح الأسواق المالية الدولية العاتية وهي تعصف بالتريليونات المالية النفطية العربية، فتتبدّد أرقام عظيمة منها كما يتبدّد الغبار، وفي مثل لمح البصر، وقد ذكر سوق لندن المالي، وهو المركز الرئيسي من مراكز الربا الدولي، أنّ الصناديق السيادية في "الشرق الأوسط"، تكبّدت في ذروة الأزمة، وخلال ساعات، خسائر جسيمة، بالمليارات، نتيجة اندفاعها إلى الاستثمار في سوق الدولار المتقهقر، وفي المؤسسات المالية التي "تعثّرت" بسبب أزمة الائتمان وسوق العقارات في الولايات المتحدة الأمريكية! أمّا عن ردّة فعل أصحاب تلك المليارات الضائعة فهو ضخّ أموال جديدة في المؤسسات الأوروبية والأمريكية "المتعثّرة"، لإقالتها من عثرتها كوسيلة لحفظ حقوقهم!
إنّ للكتلة النقدية النفطية العربية كتلتها البشرية والجغرافية التي تحتاجها، والتي ينبغي أن تتكامل معها، مثلما هو حال الأوروبيين، أو حال الأمريكيين الذين لا يزيد عددهم عن عدد العرب إن لم يكن أقلّ، ناهيكم عن الصينيين والهنود، بل إنّ الكتلة البشرية العربية أكثر انسجاماً وتجانساً وعراقة، ولا تقلّ عن غيرها استعداداً للتكامل مع الكتلة النقدية المنفصلة عنها وعن وطنها الكبير بمساحاته القارّية الشاسعة، الأمر الذي يلخّص أحد أهمّ وجوه المأساة العربية التي تهبّ الانتفاضات الثورية اليوم للخروج منها.
إنّ عرب الثراء المالي يعانون من الفقر الاجتماعي والجغرافي المدقع، وعرب الثراء الاجتماعي والجغرافي يعانون من الفقر المالي النقدي المدقع، وبينما يواجه عرب الثراء المالي خطر الانهيار الفجائي، والضياع النهائي حقاً وفعلاً، يواجه عرب الثراء البشري مختلف صنوف الإذلال والاضطهاد، والتمزيق والقتل، خوفاً من تكاملهم مع إخوانهم عرب الثراء المالي. إنّه التكامل الذي يعني في حال تحققه نجاتهم واستقلالهم جميعاً، ويعني حضورهم الإنساني جميعاً كأمّة تستحقّ الحياة الكريمة!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.