على الرغم من أنّ الأمور لم تذهب باتجاه الحسم بعد على الجانب العربي سواء في البلدان التي حصل فيها تغيير (تونس ومصر) أو في البلدان التي لا تزال على اللائحة (ليبيا واليمن) أو في الدول العربية الأخرى المتبقية، فان اللاعب التركي يبدو الأكثر ارتياحا حتى الآن في الحسبة الإستراتيجية ضمن المعطيات الحالية والتي يتقدم فيها على كل من إسرائيل وإيران في ظل التقارير التي تشير إلى أنّهما لا يزالان يمتلكان فرصة لاستغلال الأمور لمصلحتهما لاحقا في سياق عملية إعادة التموضع التي تقوم بها القوى الإقليمية والدولية بما يمكنها من الاستعداد لمواجهة الانعكاسات التي ستتركها الانتفاضات العربية على المعطيات الإقليمية. مصادر القوة الناعمة التركية
في أول زيارة لرئيس دولة إلى مصر بعد رحيل الرئيس مبارك، قال الرئيس التركي عبدالله غول الذي التقى خلاله تواجده أيضا بالمرشد العام للإخوان بحضور عدد من القيادات، ومن بعدها أيضا عدد من القيادات الشبابية :"إننا في مرحلة يتعين فيها على المصريين التصرف بشكل عقلاني ويجب أن يديروا بأفضل السبل هذه المرحلة الانتقالية لتلبية مطالب الشعب. لقد جئنا لتبادل الخبرات والآراء بصدق في هذه اللحظات الحرجة".
عندما يتحدّث الرئيس التركي عن خبرات، فهو بلا شك يعني "التجربة التركية" و"النجاح" الذي حققته تركيا على مختلف الأصعدة الداخلية والخارجية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الإقليمية والدولية خلال فترة تولي حزب العدالة والتنمية الحكم منذ العام 2002 وحتى الآن، وهي فترة قصيرة مقارنة بالمنجزات الكبيرة جدا المحققة.
فالنجاح، وهو هنا أولى مصادر القوة الناعمة التركية وأهمها، هو بحد ذاته عنصر جذّاب يدفع الآخرين إلى اكتشاف معالم التجربة التي دفعت هذه الجهة أو تلك إلى الارتقاء بهذه السرعة وتجاوز كل العقبات وتحقيق أهدافها. وتستمد القوة الناعمة التركية قوتها أيضا من النموذج الذي قدّمه حزب العدالة والتنمية خلال فترة حكمه في السياسة والاقتصاد والسياسة الخارجية، وابرز معالم هذه النموذج، هي:
1- على الصعيد السياسي: تعزيز قيم الحرية والعدالة والشفافية والنزاهة والاستقامة وحكم المؤسسات والقانون والاحتكام إلى الشعب والى صناديق الاقتراع والاستناد إلى برنامج سياسي متكامل هدفه أولا وأخيرا خدمة الناس والنهوض بالدولة بدون تسرّع في التنفيذ وببعد نظر ونفس طويل. ويكتسب هذا النموذج قوته من خلال ما أثبته عن قدرته في مزج مفاهيم ظلّ كثيرون يشككون طويلا في إمكانية التقائها في مكوّن واحد، مفاهيم مثل "الديمقراطية والإسلام"، "الانفتاح والاستقلال"، "الإصلاح والاعتدال"، "التسامح والبراغماتية". 2- على الصعيد الاقتصادي: توظيف كافة قدرات البلاد ومواردها الطبيعية والبشرية، والاعتماد على التصنيع والتصدير، والمزج بين الزراعي (اكتفاء ذاتي) والصناعي (ثاني اكبر منتج لصفائح الزجاج في العالم، وسادس اكبر منتج للاسمنت والألبسة الجاهزة على سبيل المثال) والخدماتي (دخل القطاع السياحي يزيد عن 20 مليار دولار) ومكافحة الفساد والرشاوى والتدهور المالي وزيادة القدرة الإنتاجية والتجارية ورفع الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 470 مليار دولار عام 2003 إلى أكثر من تريليون ومئة مليار عام 2010 ورفع مستوى دخل الفرد من حوالي 3300 دولار عام 2002 إلى حوالي 13300 ألف دولار 2010، والنهوض بالبلاد من حالة الانهيار الاقتصادي إلى المرتبة ال15 عالميا خلال 9 سنوات فقط. 3- على صعيد السياسة الخارجية: تبني سياسة خارجية عقلانية مدروسة تقوم على رؤية واضحة وعميقة لمعطيات المنطقة ومتغيّراتها وتأخذ بعين الاعتبار قدرات تركيا ومعطياتها الجيو-إستراتيجية والتزاماتها الخارجية بما يحقق مصالحها أولا وقبل كل شيء دون وجود عقدة التعاون مع القوى الكبرى على أساس من النديّة والاحترام والمتبادل.
ولا يجب أن ننسى أنّ جدلية الإسلام والنظام الديمقراطي اكتسبت حيزا مهما فيما يراه الآخر (الإسلامي) عن النموذج التركي، وعن تجربة "حزب العدالة والتنمية" والقائمة أيضا على "تمييز" الديني عن السياسي في الممارسة بحيث يفصل الأجندة الدينية الصريحة من برنامجه السياسي، ولكنه لا يفصل القيم الإسلامية (الحرية، العدالة، الشفافية، النزاهة، الاستقامة، الأخلاق،...الخ) المتأصلة من هذا البرنامج في ممارسته أثناء انجاز هذا البرنامج.
التأثير التركي على الوسط العربي
هذا النجاح في كل هذه المعادلات الصعبة، يعطي اللاعب التركي المصداقية والأهلية للتحدث عن "تبادل الآراء والخبرات في هذه اللحظة الحرجة". فالتأثير الذي تركته القوة الناعمة التركية في الوسط العربي بدا واضحا قبل وأثناء وبعد الانتفاضات الشعبية العربية. في بداية العام 2002 و قبل استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "زغبي إنترناشونال" في كل من مصر والأردن والسعودية والمغرب ولبنان والكويت والإمارات العربية المتحدة وتضمن سؤالا حول نظرة العرب إلى 13 بلدا غير عربي، حلول تركيا في المرتبة الثالثة للدول الأكثر سلبية بعد إسرائيل وأمريكا من المنظور العربي. بعد 7 سنوات من حكم العدالة والتنمية في تركيا، أظهر استطلاع للرأي في تموز 2009 أجرته "المؤسسة التركية للدراسات الاقتصادية والاجتماعية" (TESEV) في مصر والأردن والأراضي الفلسطينية ولبنان والسعودية وسوريا، والعراق نظرة إيجابية جداً إلى تركيا، وكان من نتائجه:
· احتلت تركيا المرتبة الثانية إقليميا مع تسجيل نسبة 75 في المئة من المجيبين الذين ينظرون إليها بإيجابية كبيرة أو بإيجابية. · أن الرأي العام في هذه البلدان السبعة يعتبر تركيا فاعلاً أساسياً ويمارس تأثيراً قويا. · أن الرأي العام يؤيد قيام تركيا بلعب "دور أكبر في العالم العربي". · وافق 61% على كون تركيا نموذجا للدول العربية من حيث الانسجام بين الإسلام والديمقراطية.
وقد بدا هذا التأثير الايجابي واضحا أيضا أثناء الانتفاضة المصرية من خلال الطريقة التي استقبل بها المنتفضون في ميدان التحرير من مختلف التوجهات والانتماءات كلمة رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوجان التي تضمنت نصيحة للقيادة المصرية، مقارنة بالرد العنيف الذي قاموا به على كلمة المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي الخامئني على سبيل المثال في خطبته الشهيرة أو على كلمة أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصرالله التي وجهها إلى الثوّار.
وما يفسر الاختلاف في الردود على هذه التوجهات بين النموذج الإيراني والتركي، هو انّ تركيا مسنجمة مع نفسها فيما يتعلق بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والشفافية والتعددية الحزبية وعمل المؤسسات وحكم القانون ورفض الديكتاتورية وقمع الحريات وعمليات التزوير، وهي كلها قيم كان ينادي بها الشباب أيضا في ميدان الحرية وقبلها في تونس وبعدها في ليبيا وغيرها من الدول العربية، وهي قيم تتعارض بالضرورة مع النموذج الذي يقدّمه النظام الإيراني أو حلفاؤه وتوابعه في المنطقة العربية.
ومن مؤشرات التأثر بالنموذج التركي أيضا، تعامل بعض الإسلاميين مع الانتفاضات الشعبية بمسؤولية عالية وبوعي كامل لتفويت الفرصة على الأنظمة، على الأقل في مصر وتونس وليبيا حتى الآن. والسعي إلى إقامة أحزاب على شاكلة حزب العدالة والتنمية خاصة في مصر (حزب الوسط أو الحزب العدالة والحرية الذي أطلقه الإخوان المسلمون)، دون أن ننسى المواقف المتقدّمة جدا للتوجه الإسلامي التونسي المتمثّل بالشيخ راشد الغنوشي أثناء الثورة وبعدها وموقفه الأخير من النموذج التركي.
ندرك بلا شك أنّ الشكليات شيء والعمل شيء آخر، فنجاح هذه المبادرات يرتبط بمدى تهيئة المناخ المناسب لعملها من جهة ومدى التزام أصحابها بالنظرة التي يطرحونها لتأمين نجاح التجربة من جهة أخرى. لكن ذلك لا ينفي في المقابل أنّ النموذج التركي قد ترك تأثيرا ايجابيا كبيرا في العالم العربي، علما انّه من الخطأ التماهي مع النموذج التركي من منطق الاستنساخ أو التقليد، وإنما الاستفادة من التجربة من اجل تفادي الأخطاء واختصار المراحل.
فكما هو معلوم، فان بيئة تركيا الاجتماعية تختلف كثيرا عن البيئة الموجودة في الدول العربية، والمسار التاريخي الذي أوصلها إلى الوضع الحالي مختلف أيضا عن نظيره في الدول العربية. كما انّ هذا الاختلاف يطال كل دولة من الدول العربية، فلكل منها خصوصيته التي تتطلب معالجة خاصة، لكن وأيضا مرة أخرى، فان ذلك لا ينفي أنّ النموذج التركي خلق نقاشا ايجابيا على الأقل حول عدد من القضايا المتعلقة بالديمقراطية والإسلام في النموذج السياسي، الاعتدال الإسلامي في النموذج الديني، تعايش الحضارات والأديان في النموذج الثقافي، الإصلاح والنزاهة والعمل في النموذج الاقتصادي، علما أنّ الدول العربية تمتلك من المقومات والموارد والخبرة التاريخية ما يخوّلها أن تكون نموذجا لغيرها إذا ما أحسنت استغلال الفرصة والتحول الديمقراطي.
انعكاسات الوضع العربي على تركيا
تعتمد الحسبة التركية في هذا المجال على المسار الذي سيسلكه التغيير في البلدان التي تشهد انتفاضات شعبية وعلى الشكل النهائي الذي ستحمله رياح التغيير للمنطقة ككل. لا شك أنّ تركيا ستربح إذا ما انتشر المد الديمقراطي، كما انّ الدول العربية ستكون في وضع أفضل للتلاقي على أجندات سياسية واقتصادية وعسكرية مع تركيا إضافة إلى الضغط على إسرائيل، لكن سيكون على أنقرة أيضا أن تثبت مصداقيتها فيما يتعلق بالتعامل مع النموذج الإيراني والسوري عندها. في المقابل، وإذا ما لم ينجح التغيير الحالي في كل من مصر وتونس وليبيا وذهب باتجاه الفوضى بدلا من الحسم باتجاه التغيير والاستقرار فيما بعد، وإذا ما امتدّ هذا التطوّر إلى الشام والخليج أيضا، فان تأثير مثل هذا السيناريو على أنقرة سيكون سلبيا جدا على أكثر من صعيد: 1- على صعيد السياسة الخارجية: سينسف هذا السيناريو مشروع تركيا الخارجي في منطقة الشرق الأوسط والقائم على تحقيق الاستقرار في محيطها والانفتاح باتجاه الشرق، وستضيع سياسة تصفير النزاعات في سياق فوضى نزاعات تنشا داخل كل بلد من هذه البلدان. ولذلك فان تركيا التي قام نفوذها الإقليمي في المنطقة في جزء منه على سياساتها الخارجية المبتكرة ستفقد هذا الحيّز الذي أعطاها هذه الأفضلية وهذا الدور لتلعبه.
2- على صعيد النمو الاقتصادي: سيضعف هذا السيناريو من قدرة أنقرة الاقتصادية بحيث يخفّض من نسبة النمو ويقلّص من صادراتها ويزيد من كلفة وارداتها خاصة البترولية في ظل ارتفاع أسعار النفط التي سترافق سيناريو الفوضى، وهو الأمر الذي قد يسبب لها مأزقا اقتصاديا في وقت هي أحوج ما يكون إلى مواصلة نموها الاقتصادي. فقد استثمرت تركيا كثيرا خلال السنوات الأربع الماضية تحديدا في بناء شراكات اقتصادية مع الدول العربية وفتح أسواق وإنشاء منطقة تجارة حرة مع عدد منها أيضا، وتضاعف حجم التبادل التجاري بين تركيا وهذه الدول أكثر من أربع أضعاف في الفترة بين العام 2002 والعام 2008 من 7 مليارات إلى حوالي 38 مليار دولار مع رغبة برفعها إلى 100 مليار مع تدفقات استثمارية عربية كبيرة إلى الداخل التركي، وأي سيناريو من هذا النوع سيطيح بكل المنجزات الاقتصادية.
3- على صعيد السياسة الداخلية: سيؤدي تراجع الوضع الاقتصادي وعرقلة السياسة الخارجية إلى مضاعفات على الصعيد الداخلي في تركيا، وقد يعزز هذا الوضع من جهود خصوم حزب العدالة والتنمية في النيل منه ويرفع من أسهمهم إذا ما أحسنوا استغلال الفرصة خاصة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة وهكذا ينعكس التطور السلبي العربي على تركيا بحيث تضطر إلى العودة للتقوقع والانغلاق حماية لنفسها، وبما يؤدي إلى انعكاس الأدوار الإقليمية وإعادة تظهير الدور الإسرائيلي والإيراني.