بعد أزمة الكلاسيكو.. هل سيتم جلب "عين الصقر" إلى الدوري الاسباني؟    آخر ملوك مصر يعود لقصره في الإسكندرية!    قرار جديد من القضاء بشأن بيكيه حول صفقة سعودية لاستضافة السوبر الإسباني    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    قيس سعيد: الإخلاص للوطن ليس شعارا يُرفع والثورة ليست مجرّد ذكرى    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    تعزيز الشراكة مع النرويج    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    دوري أبطال إفريقيا: الترجي في مواجهة لصنداونز الجنوب إفريقي ...التفاصيل    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    انتخابات الجامعة: قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أكبر دلالة للثورة التونسية أنها وقعت في بلد كان يتم تقديمه على أنه نموذج اقتصادي ناجح
المفكر القومي العربي التونسي محمد صالح الهرماسي في حديث نادر لجريدة الشعب: الشعب التونسي مساهم أصيل في الخبرة العالمية المعاصرة للثورة ضد الدولة البوليسية
نشر في الشعب يوم 26 - 02 - 2011

قيل عنه انه ذاكرة وطنية وقومية تختزل عديد المحطات السياسية والفكرية المثقلة بالأسرار ..ورأى فيه البعض الآخر أفضل من أرخ بكتاباته النقدية لأهم الإشكاليات الحارقة التي مازالت تطبع المشروع القومي العربي ..لم تمنعه مسؤولياته الرفيعة التي تقلدها وآخرها عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو المنصب الذي مازال يشغله حتى اليوم عن إعلان ولائه النقابي في تداخل مع كل ما هو سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي.. تداخل مزجه ضيفنا في هذا الحوار الاستثنائي طيلة السنوات الطويلة الماضية بعمق معرفة وروية وقدرة فائقة على تبليغ الفكرة والنضال من اجل الهدف الأسمى الذي يتجاوز القطري الى القومي ، والجزء الى الكل، والذاتية الى الموضوعية، ولا غرابة ان تزلزل مواقفه المتسمة بكل هذه الصفات أعداء المشروع القومي الحق كما يفهمه ضيفنا ويناضل في سبيل تطويره وتكريس مبادئه ومنع استهدافه من قبل أذناب المشروع الصهيو -امريكي، هذا المشروع الذي ما يزال يراهن حتى اليوم على تقسيم الأمة العربية والرمي بها في أتون الفتنة المذهبية والطائفية.
قد يكون اختصاصه الأكاديمي (دكتوراه في التاريخ) ونبوغه في تحليل ما يستعصى تحليله من أحداث والاستشراف السياسي لما يمكن ان يحدث، وعلاقته المباشرة برموز الساسة والمفكرين القوميين الكبار دور في إلمامه كما يجب بأبعاد المشروع القومي العربي دلالاته،رهاناته،وتحدياته.
لكن قبل ذلك نعود فنذكّر بان ضيفنا هو قومي الهوى،تونسي الجنسية،عالمي المبادئ والفكر، اصدر إضافة الى دراساته وأبحاثه في المسالة القومية عديد المؤلفات التي تهتم بالطبقة الشغيلة التونسية التي كان يرى نفسه دائما بينها ومن أهم هذه المؤلفات : تونس.. الحركة العمالية،دار الفارابي 1990 ، ومقاربة في إشكالية الهوية،دار الفكر 2001، ويقين الانتماء أم وهم الاغتراب،دار آفاق 2003 والعبور الى المستقبل ..الخ
نعم ضيفنا اليوم في هذا الحوار الاستثنائي مثلما تدل عليه نوعية مؤلفاته هو المناضل و المفكر القومي الكبير الدكتور محمد صالح الهرماسي عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي ورئيس تحرير الموقع الالكتروني ثوابت عربية الذي نكبر فيه بالمناسبة التزامه بان تكون الشعب لسان الاتحاد العام التونسي للشغل أول صحيفة تستضيفه في حوار ما بعد الثورة ليدلي للقراء والمهتمين بالشأن الفكري الثقافي والسياسي بدلوه في نسمات الحرية المعتّقة التي جاءتنا من ربوع مدينة سيدي بوزيد وغمرت كامل تراب الجمهورية، وليطلعنا عن خفايا موقفه الثابت الذي لم يتزحزح من الدكتاتور بن علي الذي أرسل به ضيفنا في آخر مقال له الى مزبلة التاريخ، لينبش بأفكاره في تونس ما قبل وأثناء وبعد الثورة، وكيفية استعادة تونس لبعدها القومي وتجذرها في هموم الأمة وتحدياتها، ليوضح لنا مكامن الخلل في المشروع القومي العربي،وإشكالية الفصل بين العروبة والإسلام والصراع العربي الإسرائيلي من منظور ثورات الشعوب العربية ومدى تأثيرها في تغيير وجه هذا الصراع. فقراءة ممتعة:
❊ كيف عشتم ثورة تونس خاصة أنكم كنتم في الخارج ؟
كيف تنظرون إليها وأي مستقبل ترونه لها ؟ ثم وفي الأخير كيف نحافظ عليها؟
بدت الثورة الإجتماعية والسياسية شبحا مطرودا من قبل المدارس الفكرية والسياسية السائدة في الوطن العربي، لا سيما أن غالبية الأحزاب والحركات الإيديولوجية العربية أيقنت ان الثورة ترقد الآن في مقبرة التاريخ. لكن الثورة التونسية أظهرت خطأ ذلك كله، إذ اثبت المواطنون التونسيون منذ قيامهم بثورتهم الشعبية في 17 ديسمبر 2010، فرض التغيير وتحمل كلفته العالية منذ ان بدأت الحركة الاحتجاجية ذات الطابع الاجتماعي التي انطلقت من ولاية سيدي بوزيد مسقط رأس محمد بوعزيزي الشهيد الأول للانتفاضة الذي أشعل النار في جسده امام مقر الولاية ، إلى ان هرب بن علي في 14 جانفي2011.
سخط كامن منذ سنوات
إن الأمر الذي له دلالته الكبيرة هو أن هذه الثورة وقعت في بلد كان يتم تقديمه على أنه نموذج اقتصادي ناجح، وقوضت الواجهات الجميلة التي كان يتفاخر النظام التونسي بابرازها للغرب، لا سيما عندما نزلت الطبقة شبه الغنية في تونس والبرجوازيات الصغيرة والطبقة المتوسطة من التجار ورجال الاعمال إلى الشارع، والتحقت بالثورة الشعبية معبرة بذلك عن سخطها الكامن منذ سنوات على المافيا المالية المحيطة ببن علي وزوجته، وأرغمت الدكتاتورية على الرحيل.
مفهوم أن النصر هذا ما كان له ليتحقق، أو على الأقل بالسرعة التي حصل فيها، لو لم يقف الجيش ضد الديكتاتور الذي كان يعتمد على أجهزة البوليس قبل كل شيء آخر. والحال هذه، أصبح الشعب التونسي مساهما أصيلا في الخبرة العالمية المعاصرة للثورات والانتفاضات الشعبية ضد نمط الدولة البوليسية، وللمطالبة بالحرية والكرامة.
ولم تكن الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم بن علي البوليسي مؤطرة من قبل الأحزاب والحركات الإيديولوجية التقليدية ، التي لم تستطع أن تركب موجة الحراك الإجتماعي وان تقود المتظاهرين في شوارع المدن التونسية، وهنا تكمن فرادتها الحقيقية مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إذ أنها ثورة مدنية لا عسكرية ولا ايديولوجية بالمعايير التي نعرفها عمليا ونظريا.
لأول مرة في تاريخ العرب المعاصر، تطيح ثورة شعبية بنظام حكم بوليسي يعد من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية. وبذلك تعبد تونس بثورة شعبها طريق الحرية العربي، لأنها أسقطت نموذج الدولة البوليسية السائد عربيا، والذي يمثل قطيعة جذرية مع نظرية المجتمع المدني.
لقد احيت الثورة التونسية آمال الجماهير العربية إذ يبدو ان تجربة التحرر معدية، في الوقت عينه في الجزائر ومصر والأردن والمغرب واليمن، وحتى في فلسطين. ففي كل مكان تقريبا هناك اجيال جديدة يئست من الأنظمة الاستبدادية، وفقدت الأمل في التحرر منها.
لكن التجربة التونسية، وتحديدا لأنها غير متوقعة، لا يمكن أن تتكرر بالشكل نفسه في سائر أنحاء الوطن العربي . ففي تونس، يعتبر شعبها الكثر وعيا وتعبيرا عن انتمائه العربي إضافة إلى كل ذلك، هناك نقابات عمالية قوية تشكل القوة الإجتماعية الأساسية في البلاد، ليست مدجنة كما هو الحال في باقي البلدان العربية، وهناك جيش جمهوري تكمن وظيفته في الدفاع عن حدود الوطن، إذ يحظر القانون منذ عام 1957 على العسكريين الإنتماء إلى أية أحزاب سياسية. ولم يتدخل الجيش التونسي مرة واحدة ليمارس القمع خلال الاضطرابات التي طبعت تاريخ البلد، من الحركة الطلابية في 1972، إلى ثورة الخبز عام 1984، وصولا إلى إضراب المناجم عام2008 . صورة حيادية زاد من وهجها موقف رئيس الأركان رشيد عمار، الذي رفض علنا اوامر الرئيس المخلوع بن علي بإطلاق النار على الشعب .
ذلك ان الدوافع الحقيقية لهذه الثورة التي لم تتوقع السلطات التونسية أن تتطور بهذا الحجم القياسي وتأخذ أبعادا جديدة، والتي شكلت منطلقا لهذه الحراك الإجتماعي والسياسي الكبير في تونس خلال الأسابيع الأخيرة وفي العقود الاخيرة باشكال اخرى تشاركهم فيها الشعوب العربية على امتداد العالم العربي، تتمحور حول ارتفاع الأسعار، ونقص الوظائف، ولكنها تتمحور أيضا حول الطريقة التي تعامل بها الدول البوليسية العربية مواطنيها، وتنكر عليهم الحقوق الانسانية الأساسية للمواطنة في حرية التعبير، والتنظيم، وتمثيل انفسهم بشكل صادق والمشاركة السياسية والمساءلة السياسية، وإمكانية الوصول إلى تحقيق توزيع عادل لفوائد النمو والتنمية، وموارد الدولة.
❊ هل يمكن أن تحددوا الدوافع الحقيقية لهذه الثورة؟
أولا :الظاهرة الجديدة التي بدأت تعم كل البلاد التونسية، هي ظاهرة البطالة التي تؤثر على 17 في المئة من عدد سكانها البالغ عددهم 10 ملايين نسمة. ولكن البطالة التي تضرب أكثر من 30 في المئة من الشباب الحاصل على الشهادات الجامعية، باتت تشكل التحدي الأكبر للحكومة التونسية في سعيها نحو توفير مزيد من فرص العمل لهؤلاء الخريجين الجدد من الجامعة، الذين ارتفع عددهم إلى نحو 80000 سنويا، بعد ان كان لا يتجاوز 40000 خلال السنوات الخمس الماضية. ويسود اليأس والإحباط في أوساط هذه الفئة المتعلمة من الشباب، الأمر الذي دفع البعض منهم إلى الإقدام على الإنتحار، وإضرام النار في أجسادهم في أماكن عامة، كما حصل مع الشاب البائع المتجول في مدينة سيدي بوزيد، للفت أنظار السلطات التونسية.
العاطل التونسي نموذج خاص
لكن الأهم هو ارتفاع نسبة المتعلمين والخريجين بين هؤلاء العاطلين، الذين شكلوا في السنوات الماضية اتحادا للخريجين العاطلين، إلا ان الملاحقات الأمنية والإعتداءات شلته. وبهذا المعنى فالعاطل التونسي يشكل انموذجا خاصا لكونه ليس عديم التكوين ولا فاقدا للخبرة، بل إن مستواه العلمي يحول دون عثوره على فرصة للعمل.
فعلى مدى العقد الماضي، كان متوسط معدل النمو السنوي للقوى العاملة التونسية في مرحلة ما بعد التعليم الثانوي اكثر من 9 في المئة، مقارنة بمعدل نمو سلبي قدره 2 في المئة للذين لا يتوفر لهم أي نوع من التعليم. ونتيجة لذلك، فإن حصة الباحثين عن العمل من ذوي التعليم العالي ارتفعت الى أكثر من 55 في المئة بحلول نهاية عام 2009 . ولم يترافق هذا التغيير الجوهري في مؤهلات الداخلين الجدد إلى سوق العمل في تونس مع تطور مماثل في الطلب على اليد العاملة. وفي شكل عام، استمرت القطاعات ذاتها في توليد فرص العمل.
إن المؤشر الحقيقي الذي يؤكد لنا نهاية المعجزة الإقتصادية التونسية، يتمثل في بداية الإنحدار التاريخي للنظام التربوي في تونس، الذي كان على الدوام مثالا يحتذى به، حيث تخصص الدولة التونسية 17 في المئة من موازنتها للتربية والتعليم، ومنها 5.33 في المئة للتعليم العالي، حتى أن البلاد تحصي اليوم 400 ألف طالب جامعي، وهورقم لافت، إلا ان هذه الآلة التي تصنع الخريجين تؤهل اكثر فاكثر عاطلين عن العمل.
هكذا أصبحت بطالة الخريجين الجامعيين، هذا المرض المتفشي في معظم البللدان العربية، مستشريا في تونس أيضا : فالبطالة التي تصيب 14 في المئة من قوة العمل باتت تضرب ربع الشبان الذين هم دون ال 25 من العمر، وهي تتراوح ما بين 30 و 35 في المئة في أوساط الشبان الجامعيين. وما يزال حتى الان 25 ألف متخرج من أفواج ما قبل العام 2005 يفتشون عن فرصة العمل الأولى لهم.
ثانيا :رغم النجاحات التي سمحت بها التنمية الاقتصادية السريعة بتحسين شروط حياة السكان وتعظيم الأمل في المستقبل وتعزيز شرعية النظام، فإن الرئيس المخلوع بن علي الذي كان مدعوما من حلفائه الغربيين، قام بتطبيق النموذج الصيني على تونس والذي يتمثل في تأمين لقمة العيش للشعب مقابل الحرية، ومقايضة السياسة نهائيا بالاقتصاد، وتفضيل الوجود أو البقاء على قيد الحياة على الهوية والمعنى. وكانت هذه الطبقة المتوسطة النابض الرئيسي، والمستفيدة من النمو، الذي نادرا ما نزل أدناه إلى اقل من 4 إلى 5 في المئة. إنه أداء رائع من شأنه ان يثير الحسد والغيرة من قبل جيران تونس والذي كان في أصل العقد الاجتماعي مع عشيرة زين العابدين بن علي: مقابل إبادة الحريات السياسية، يضمن النظام النجاح الإقتصادي لهذه الطبقة المتوسطة. إنه نوع من الاتفاق على الطريقة »الصينية« إذا جاز التعبير.
وهذه المعادلة الذهبية، المتبعة في أكثر البلاد العربية، هي التي يسمونها بالنموذج الصيني، وهي تعني الجمع بين إغلاق باب السياسة أو إزالتها من الحياة العامة وتحريم العمل فيها، في أي صورة، سواء كان عملا سياسيا مباشرا أو نشاطات مدنية، وتحليل الاقتصاد في أي شكل كان، سواء جاءعلى صورة استثمارات أجنبية أو مراكمة للثورة بالطرق الشرعية وغير الشرعية، أو الفساد والسرقة العينية.
❊ حينئذ، كيف ترون مستقبل الثورة في تونس؟
في الواقع، يشكل اسقاط الدولة البوليسية التونسية قطيعة معرفية، ومنهجية، وفكرية وسياسية وأخلاقية مع عالم الاستبداد ومنطقه وفكره وسياساته وأخلاقه. لكننا في الوقت عينه لا يجوز أن نكتفي بهذا الإسقاط على ضرورته، بل إن المطلوب من المعارضة الديموقراطية ان تقدم تصورا حديثا لعملية الانتقال إلى بناء نظام ديموقراطي جديد في تونس، يمنع العودة الى دوامة التسلط البوليسي من جديد، ولا يسمح بإعادة انتاجه، حيث أن الخروج من عالم الاستبداد يقتضي تحولا جذريا في الوعي والممارسة. وكلما كان هذا التصور المنشود إنسانيا ديموقراطيا كان مناوئا للعنف بجميع صوره وأشكاله ودرجاته.
من هنا، نقول ان الإصلاح الديموقراطي الحقيقي الذي يجب على الحكومة الانتقالية التي اعلن رئيس الوزراء المؤقت محمد الغنوشي عن تشكيلتها الجديدة يوم 27 جانفي 2010، يتمثل في إعطاء الأولوية لمراجعة القانون الإنتخابي، واستبدال القانون الإنتخابي الأغلبي السائد حاليا في تونس، بنظام انتخابي انتقالي يضمن لأحزاب المعارضة حضورا محترما ومؤثرا في الحياة البرلمانية، وتشكيل هيئة مستقلة للإشراف على إجراء انتخابات رئاسية واشتراعية حرة تهدف فقط إلى إنتاج نظام سياسي انتقالي في المدى القصير، أي في غضون ستة أشهر.
وقد يكون الاندفاع إلى إجراء الانتخابات سابقا لأوانه في مجتمع يعاني ضعف الأحزاب السياسية، وحتى وقت قريب كان المجتمع المدني فيه مكبلا ومثقلا بالكثير. ومع هذا يجب ان تشرع تونس في تنظيم قواعد الاشتباك الديموقراطي والمشاركة السياسية. وعلى المدى الطويل، فإن النظام الإنتقالي يجب ان يعمل لتفكيك النظام الرئاسي، بحيث ينهي حالة الإفراط في صلاحيات السلطة التنفيذية من خلال إعداد شبكة قانونية ومؤسسية تمكن من التحول إلى النظام البرلماني. وتبعا لذلك ستكون هناك حاجة إلى دستور جديد لعصر جديد ويمكن أن تسند هذه المهمة للبرلمان الإنتقالي وبمساعدة لجان خاصة تشكل لهذه الغاية. ويمكن أن تحول إلى نظام انتخابي نسبي جنبا إلى جنب مع التخطيط للتحول إلى النظام البرلماني.
إن قضية بناء نظام ديموقراطي جديد في تونس بعد سقوط حكم بن علي يتطلب تصميما سياسيا، وأسلوبا جديدا في التعاطي مع واقع المعارضة التونسية على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية ومع واقع الحكومة الانتقالية أيضا، المطالبة بإفرادية الواقع ومعقوليته وانطواء كلّيته ووحدته الجدلية على التعدد والإختلاف والتعارض.
في الواقع، إن الحلقة المركزية في عملية التحول نحو بناء نظام ديموقراطي حقيقي تتمثل في اجراء السيد محمد الغنوشي مجموعة من المبادرات، وتفتيت التوتر والكبت الموجودين في تونس، وايجاد قنوات للحوار مع كل حركات المعارضة بلا استثناء، بما فيها حركة النهضة كي تشارك في اللعبة الديموقراطية.
ومن الواضح أن اوساط المعارضة التونسية، ونشطاء حقوق الإنسان في تونس لا يبدون تجاوبا كبيرا مع الخطوات التي اتخذتها الحكومة الإنتقالية باتجاه الإنفتاح المحدود على المعارضة، وهم لم يظهروا حماسة للإعلان عن تغيير اسلوب الحكم في التعاطي مع هذه المعارضة.
في ضوء الأنساق المغلقة التي أنتجتها سياسة لا عقلانية بالضرورة في تونس منذ أكثر من عقدين من الزمن، لم تترك الدولة البوليسية التونسية للمعارضة أي مساحة للاختيار، علما ان الاختيار من اهم صور الحرية .وبالمقابل لم تر المعارضة في الحكومة الانتقالية لجهة إصلاح المؤسسات السياسية وتغيير القوانين التي فصلها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على مقاسه، لتأسيس نظام ديموقراطي جديد، تحتاج إلى عمل دؤوب قد يستغرق سنوات.
من هنا نقول ان خطاب الحكومة الانتقالية وخطاب المعارضة متواطئان على بقاء الوضع كما هو عليه، إذ ان القول بان هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس كلها سليمة مثل القول بان المرحلة الانتقالية كلها فاسدة.
كل بما لديهم قانعون
إن مشكلة هذين الخطابين الضدين لا تكمن في عدم إمكانية إلتقاء القائلين بهما، وفي عدم إمكانية الحوار بينهم، لأنهم على طرفي نقيض فقط، بل تكمن أساسا في ان أصحاب القول الأول لا يرون في الحكومة الإنتقالية شيئا يحتاج إلى إصلاح، وأصحاب القول الثاني لا يرون فيها شيئا يمكن أن يصلح، وكل بما لديهم قانعون. اولئك غارقون في إيجابية خالصة قطعت كل علاقة بين النسبي والمطلق، واقامت نسبيا مطلقا، وهؤلاء غارقون في سلبية خالصة، والإيجابية الخالصة سلبية خالصة. فالطرفان معا سلبيان إزاء الإصلاح الديموقراطي الممكن والواجب. وهذه السلبية عقبة اساسية في طريق التحسن والتقدم.
هذه الخطابات المتضادة بين الحكومة الانتقالية والمعارضة، أو المتناقضة تعادميا تفصح عن ثلاث حقائق أساسية : أولاها انها نتاج مجال سياسي مغلق والثانية انها نتاج مجال سياسي متشظ ومتناثر لا مركز له ولا نقطة توازن. والثالثة انها نتاج رؤية مملوكية إلى السياسة وإلى المجتمع والدولة والإنسان . والوقائع التي تشير إليها هذه الحقائق هي شلل الحياة السياسية، وامكانية استمرار العنف والعنف المضاد في كل حين. وفي ضوء هذه الوقائع بات من الضروري إعادة تأسيس مفهوم السلطة السياسية في نطاق جدلية المجتمع المدني والدولة السياسية، دولة الحق والقانون.
بما تتحدد المعارضة ؟ تتحدد المعارضة (التي تمثل أطيافا سياسية واسعة من النخب السياسية المستقلة الكفيلة بان تؤمن بديلا عن الحكم القائم وان تؤسس عملية التحول إلى نظام ديموقراطي)، بالسلطة ذاتها (والحال أن هذه الحكومة الانتقالية التي تمثل بقايا نخب النظام البالي والاحزاب السياسية والمتكونة حديثا والنقابات العمالية التي قطعت رؤوسها)، وتحمل أهم خصائصها، والا لما جاز أن تكون سلطة بالقوة. ويؤكد لنا التاريخ السياسي الحديث في الوطن العربي امثلة عديدة على انتاج السلطات الأستبدادية الحاكمة معارضات من نوعها، أو على صورتها وشاكلتها. ولكن بم تتحدد السلطة؟ لكي نفهم المعارضة يجب ان نفهم السلطة . إن فهمنا للسلطة هو الذي يزيح اللثام عن وجه المعارضة القائمة في تونس.
تتحدد السلطة السياسية (الحكومة الانتقالية) سلبا وايجابا بثلاثة عناصر أساسية:
1 بمستوى تقدم المجتمع أو تأخره، أي بمستوى نمو المجتمع أو ضموره. ولكن في واقع الثورة التونسية، تسعى كل مكونات المجتمع المدني إلى بناء ديموقراطية حقيقية، معتمدة في ذلك على قوة الحركة الشبابية التي تشكل ورقة دفع قوية تخيف الممسكين الجدد بالسلطة وبهاجس تفادي حدوث تجاوزات عنيفة، او على الأقل من أجل الحفاظ على جزء من سلطة الرئيس المخلوع يمكن للنظام الانتقالي ان يسعى إلى الإبقاء نوعا ما على الوضع القائم. فإذا نظم انتخابات في موعد قريب، قد يكون هناك خطر في تعزيز وزن النخب الفاقدة للشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من اجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجددا.
2 وتتحدد بالنظام الدولي الجديد، لا سيما في عصرنا الراهن ، حيث لا سلطة خارج هذا النظام.
3 وبنسبة القوى الاجتماعية السياسية .
هذه العناصر التي تحدد السلطة هي التي تحدد كذلك المعارضة، وبقدر ما تعي المعارضة هذه المحددات، ترتقي إلى مستوى معارضة حديثة وعقلانية، وليس بدلالة السلطة فحسب.
وفضلا عن ذلك فإن السلطة السياسية (الحكومة الانتقالية)، بحصر المعنى، لا تستمد شرعيتها من أي مصدر أقوى وأهم من شرعية المعارضة. فليست السلطة والمعارضة تعبيرين متكاملين عن المجال السياسي المجتمعي فحسب، بل هما قطبان جدليان في وحدة تناقضية، يحمل كل منهما إمكانية أن يصير الآخر. فالمعارضة هي معارضة بالفعل وسلطة بالقوة. والسلطة هي سلطة بالفعل ومعارضة بالقوة. وجدلهما هذا هو جدل الكينونة الإجتماعية ذاتها، جدل تعارضاتها الملازمة، وقد اتخذت شكلا سياسيا سلميا متمدنا أو متحضران يكاد لا يلحظ فيه العنصر الإجتماعي الطبقي المباشر.
إن العلاقة بين السلطة والمعارضة مفهومة فهما جدليا سليما تقر بان قوة المعارضة هي قوة السلطة الفعلية، كما أنها تتطلب وجود مجال سياسي مفتوح تتطابق حدوده مع حدود المجتمع التونسي المنفتح، الذي عرف أول تجربة برلمانية جنينية في العالم العربي في عام 1861، وخرج مواطنوه في تظاهرات عارمة معرضين صدورهم لرصاص المستعمر في عام 1938 رافعين مطلبا واحدا يتلخص في كلمتين "برلمان تونسي" وفي مثل هذا المجال السياسي المشترك الذي ينتجه المجتمع، والذي تتجابه وتتقاطع فيه تيارات واتجاهات وأحزاب سياسية مختلفة ومتخالفة، تتحقق في الوقت عينه الإستقرار السياسي، والتداول السلمي للسلطة، باعتبارهما من أهم المداخل السياسية إلى بناء ديموقراطية فعلية في تونس.
❊ حتى نوجز جملة هذه الأفكار، كيف يمكن لأي إصلاح ديمقراطي أن يتقدم؟
إن الاصلاح الديموقراطي في تونس يتقدم بتوافر الشروط الأساسية التالية :
1 وحدة قوى المعارضة، ومن ثم الوحدة الجدلية للمعارضة والسلطة، التي اسلفنا الحديث عنهما.
2 تحويل الدولة البوليسية التونسية، الى دولة وطنية هو تعبير حقوقي وسياسي عن هوية المجتمع مع اقتراب الانتخابات التأسيسية الأولى. ولا يتحقق ذلك إلا بإجراء انتخابات في موعد يتم الاتفاق عليه بين السلطة والمعارضة، وبناء نظام انتقالي يحول دون عودة النخب الفاقدة الشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من اجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجددا. هذا النظام الانتقالي قوامه : سيادة القانون والحرية، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.
3 نمو الحركة الشعبية في مناخ الحرية الفكرية والسياسية. فلا يمكن التقدم في مجال الاصلاح الديموقراطي من دون القوى الحية في المجتمع المدني، واحترام حقوق المواطنين بوصفها أهم واجبات الدولة، واحترام حقوق المعارضة بوصفها أهم واجبات السلطة.
❊ هل يمكن أن نقول اليوم ان الثورة التونسية اخذت أبعادا عالمية، بمعنى أنها يمكن ان تصل إلى بلدان عربية اخرى، الآن كيف ترى الوضع العربي في ضوء هذه التطورات؟
الثورة الديموقراطية التونسية التي اسقطت نظام بن علي البوليسي في تونس، والثورة الديموقراطية التي أسقطت نظام حسني مبارك الديكتاتوري في مصر، والحركات الاحتجاجية التي اندلعت في كل من اليمن والأردن والجزائر من أجل تغيير الانظمة التسلطية الحاكمة، وإجراء انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة تقود إلى بناء دولة القانون، تشكل جميعها حراكا اجتماعيا وسياسيا جديدا، جوهره الغضب العادي والعفوي ضد الفجور الذي تمارسه الانظمة التسلطية العربية، المنخرطة في نظام العولمة النيوليبرالية، التي عمقت الهوة بين الأغنياء والفقراء في العالم العربي.
الثورة الديموقراطية التونسية التي أسقطت نظام زين العابدين البوليسي هي نفس الثورة الديموقراطية التي انطلقت في مصر منذ 25 جانفي 2011، واستمرت تصاعديا إلى ان أسقطت نظام حسني مبارك التسلطي يوم 11 فيفري 2011 الجاري. وإن كانت الثورة التونسية التي قامت بفعل عواملها الداخلية لا بفعل تدخل القوى الخارجية في صناعة الحدث التونسي، لم تدع أنها تشكل نموذجا يحتذي به عربيا.
عدوى الفيروس التونسي
فها هو رأس نظام عربي آخر هو الرئيس المخلوع حسني مبارك يتدحرج بفعل الدومينو، بعد ان اصابه الهلع من عدوى الفيروس التونسي، لأن »العدوى« هذه ليست نتيجة لمحصلة الانتماء الثقافي والتاريخي واللغويّ المشترك إلى العالم العربي، المترافقة مع ثورة الاتصالات الحديثة، ولكن أيضا مع التاريخ الاقتصادي والاجتماعي الذي تتقاسمه الدول العربية، فها هي كل من تونس ومصر تتحديان عبثية وهمجية استراتيجية الخوف التي كرستها الدولة التسلطية العربية طيلة العقود الثلاثة الماضية... وهاهو جدار الخوف يسقط في العالم العربي بفعل هاتين الثورتين الديموقراطيتين.
الثورتان الديموقراطيتان التونسية والمصرية تعلنان للعالم العربي نبأ سارًا : هناك مخرج للخلاص من الفخ الذي وجدت فيه هذه الشعوب منذ عقود. كان الخيار الوحيد المتاح امام هذه الشعوب، إما القبول بالديكتاتورية الفاسدة والفاقدة للشرعية، وإما الترحيب بمجيء احزاب قمعية وشبه عسكرية هي وحدها القادرة، كما كنا نعتقد على أسقاط هذه الديكتاتوريات. تونس قطعت مع هذه اللعنة، ومصر نسفتها من أساسها، بفضل ثقلها السياسي والديموغرافي. كلاهما بينتا ان هذه اللعنة انما هي خدعة، وان خيار ثورة الحرية والكرامة والقانون متوفر، واننا لسنا امام سراب من صنع مثقفين مهلوسين. بل اننا على العكس امام رغبة عميقة ومشتركة. ان شجاعة ودأب ونضج الشعب التونسي سمحت له بان يؤكد على هذه الرغبة ومواصلة المناداة بتحقيقها على الرغم من القمع الوحشي، وذلك حتى بلوغ النصر الحاسم، أي سقوط بن علي. من هنا تحول الحدث التونسي إلى مثال ونموذج ، فهو وضع حدا نهائيا لنغمة »العجز« .
في الواقع التاريخي، ظل الوطن العربي يعيش على هامش موجة الإنتفاضات الديموقراطية مع انتهاء الحرب الباردة الإيديولوجية التي اعقبتها حالة من الإستقرار المزدوج وذلك بفعل الالتحاق بحماسة بالعولمة الليبرالية الامريكية من جهة ومن جهة اخرى بسبب ارتجال الديموقراطية في دول تفتقر إلى الوسائل من جهة أخرى.
ففي الوقت الذي سقطت فيه الدولة الشمولية في المنظومة السوفياتية والأوروبية الشرقية، لم تدرك النخب التسلطية العربية الحاكمة جديا تغير بيئة العالم باتجاه الانتقال التدريجي نحو الديموقراطية. وعلى نقيض ذلك، كانت الدولة العربية التسلطية تدخل في دورة الاكتمال الشمولي في الوقت الذي كانت فيه هذه الدورة تندثر تاريخيا وتفقد اشعاعها حتى في وعي النخب الشيوعية الشمولية السابقة. ويبدو ان العالم العربي ظل على هامش هذا التاريخ الكوني .فهناك من ناحية الصراع العربي الصهيوني وإسقاطاته المدمرة في ظل غياب مشروع عربي لتحرير الأرض السلبية، وهناك من ناحية أخرى نعمة الريع النفطي التي لم توظف لمصلحة بناء اقتصاد عربي منتج قادر على أن يستوعب الأجيال الجديدة من خريجي الجامعات.
وقادت نهاية الحركات الإيديولوجية الكبيرة التي عرفها العالم العربي في مرحلة ما بعد نهاية الكولونيالية : القومية والإشتراكية، إلى الصدام بين الدولة التسلطية العربية والاسلام السياسي المستقوي بانتصار الثورةالإسلامية الإيرانية في سنة1979 . وقادت هذه المواجهات إلى حدوث حروب أهلية في اكثر من بلد عربي. وفي ظل هزيمة الإسلام السياسي، تغولت الدولة التسلطية العربية على المجتمع المدني، ورفضت انتهاج سياسة الانفتاح الديموقراطي مخافة حسب رأيها ان تعبد الديموقراطية الطريق لوصول الإسلاميين إلى السلطة.
ومع انتهاء المواجهة بين »الشرق والغرب« التي كانت تحدد البنية الجيوسياسية للدول العربية، وارتجال الدول المانحة ايعازا ديموقراطيا لم يحسن التحكم به من جانب الرؤساء العرب، حلت خلال العقود الأخيرة الديموقراطية مكان انظمة استبدادية عدة، في اوروبا أولا، (مثال اسبانيا والبرتغال واليونان)، وفي امريكا اللاتينية ثانيا (حيث زالت النظمة العسكرية في معظم دول أميركا الجنوبية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات)، ثم ايضا بعد انهيار الشيوعية ثالثا.
في امريكا اللاتينية كما هو في اوروبا الشرقية والدول التي برزت إلى الوجود نتيجة لتصدع الإتحاد السوفياتي، وفي افريقيا كما في جنوب شرق آسيا، يتم »التحول الديموقراطي« على قدم وساق وباعداد كبيرة بحيث أصبحت الديموقراطية التي كنا نادرا ما نراها هناك قبل عشرين عاما من الآن هي النظام السياسي الأكثر انتشارا، ولكن في كل مكان، هذه الديموقراطية التي تتلازم اليوم مع الخصخصة والإندراج في إطار العولمة الليبيرالية وغالبا مع الإستغلال والفساد، كانت مغيبة تماما في العالم العربي.
وإذا كان الخطاب الأمريكي يطنب في الحديث عن الديموقراطية وحقوق الإنسان إلا ان الولايات المتحدة دعمت لسنوات طويلة الانظمة الديكتاتورية التي كانت سائدة في العالم العربي، والتي اتسم عهدها بانتشار الفساد في معظم الحكومات العربية، وبغياب القانون، وبتغلب مصالح النخب التسلطية على مصالح الشعوب . والإدارة الامريكية تغلق عينيها عن أماكن كثيرة تمارس القمع والإكراه، ولكنها معمدة بالمياه الأمريكية، ومحمية بروح البيت الأبيض المقدس مثل نظام حسني مبارك المخلوع، ونظام زين العابدين بن علي، الذي له مفهومه الخاص للديموقراطية، يقوم على تفصيل الحزب الواحد، ويعتبر حزبه هو الحزب الشرعي الوحيد، لأن ما يهم واشنطن بالدرجة الأولى هو التجارة، واندماج العالم العربي في دواليب الإقتصاد العالمي، وضمان أمن إسرائيل.
لقد شكلت الثورتان الديموقراطيتان في كل من تونس ومصر إخفاقا حقيقيا لكل من الأنظمة التسلطية العربية وأثبتتا أن العالم العربي قادر على اتباع طريق ثالثة، تقوم على أساس بناء الدولة المدنية الحديثة، أي دولة القانون. ولا يتحقق ذلك إلا بإجراء انتخابات في موعد يتم الإتفاق عليه بين السلطة الإنتقالية والمعارضة، وبناء نظام انتقالي يحول دون عودة النخب الفاقدة الشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من أجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجددا. هذا النظام الإنتقالي قوامه : سيادة القانون والحرية، وفصل السلطات، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، على قاعدة حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن.
أربعة تحديات كبرى
❊ الأمية، البطالة، الفساد، الاستبداد، شح المياه، العمالة الوافدة، تحديات استراتيجية تواجه الأمّة العربية، كيف يمكن الحد من تأثيرها على الأمن القومي العربي؟
تواجه الأمة العربية مجموعة من التحديات يمكن حصرها على النحو التالي :
1 الفساد : يعمل الفساد في العالم العربي على تقزيم التنمية الإقتصادية، ويعمل أيضا على مفاقمة الفقر، لأن الطبقات السياسية العربية الحاكمة منذ 1987، أحاطت نفسها فجأة ببذخ السلطة ومفاتنها لا سيما سبل الوصول إلى الموارد المالية والسلطة الإستثنائية في منح العقود والمجاملات . وقد اجتهدت هذه الطبقات السياسية العربية التي تلوثت بالفساد حتى النخاع، بعد أن ذاقت ثماره في جعل الفساد منهجيا ومستديما بذاته، وتحوّله إلى »مؤسسة«.
2 الاستبداد : لقد ظلت المقدمات التي قامت عليها الدولة التسلطية العربية ثاوية في بناها تنمو وتتعمق، وظهرت في نتائج الأنساق السياسية المغلقة التي أنتجتها هذه الدولة بالذات، وهي انساق مولدة للعنف السياسي الرسمي بحكم طبيعتها ذاتها، إذ تمارس هذا العنف على المجتمعات العربية بصيغ سادية بعد أن أصبح جزءا أساسيا لبقاء النخب الحاكمة في العالم العربي؟ والأنساق المغلقة لهذه الدولة التسلطية العربية، مغلقة على ذات شمولية وحصرية انتهجت سياسة الحرب على المجتمع، وانتهكت مجاله السياسي، ونظرت إلى السياسة ذاتها على أنها حرب تحكمها قاعدة الولاء لهذا الحاكم العربي أو ذاك، أو العداوة له، ونفت وطردت المعارضة الإسلامية والقومية والماركسية من دائرة رؤيتها، واعتبرت هذه المعارضة عدوا يجب الإجهاز عليه وأخذه دوما على حين غرة، ولا مكان له عندها إلا القبر أو السجن أو المنفى، بل إنها ذهبت إلى اعتبار كل من لا يوالي هذه السلطة الاستبدادية عدوا محتملا.
3 شحّ المياه : تعاني الدول العربية من شح كبير في المياه، بسبب طبيعتها الجافة، وشبه الجافة وهي من أكثر الدول حاجة إلى المياه ومن المعروف تاريخيا أن المياه للدول وكل الدول تعكس ثلاثة أمور، الأول أنه رمز لغنى الدولة، والثاني مصدر ازدهارها الاقتصادي، والثالث ورقة رهان سياسي في يدها.
وهكذا أصبحت مصادر المياه نقطة تجاذب بين دول المنطقة، وخلقت وضعا أطلقت عليه تسمية »حرب المياه«. وقد برزت في الفترة الأخيرة الأزمة المائية في كل منطقة الشرق الأوسط عامة، لدى بعض دول المنطقة، إضافة إلى ما يعتقده العديد من المحللين العرب، من أن انفصال جنوب السودان عن شماله سيقود إلى تعميق أزمة تقسيم مياه النيل، بسبب بروز عاملين اساسيين، أولا : ولادة دولة جديدة في جنوب السودان ستطالب بحصتها من المياه التي كانت توزع بين مصر والسودان وفق اتفاقية 1959 م الموقعة بينهما، إذ تعطي الإتفاقية دولة مصر حق استغلال 55 مليار متر مكعب من مياه النيل من أصل 83 مليار متر مكعب تصل إلى السودان؟ وثانيا، تغلغل إسرائيل في منطقة القرن الإفريقي، حيث اقامت الدولة العبرية علاقات واسعة في المجالات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية مع دول المنطقة، فضلا عن تقديمها الاغراءات لحكومة الجنوب في مساعدتها في بناء السدود المائية على نهر النيل كما أبدت رغبتها بتقديم الدعم السياسي والاقتصادي والأمني للدولة الجنوبية الجديدة، وذلك عندما التقى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي (غوري عاراد) بممثل الحركة الشعبية -ازيكيل لو- على هامش مؤتمر »الأيباك« الذي عقد مؤخرا في واشنطن. وتوطيدا للتواجد الإسرائيلي في جنوب السودان فقد شرعت القيادة الإسرائيلية بوضع الترتيبات اللازمة لإقامة أكبر سفارة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.
4 أزمة الغذاء : في اوائل شهر جانفي الماضي، أفاد تقرير لمنظمة الزراعة والأغذية التابعة للأمم المتحدة »فاو«، أن مؤشر أسعار الغذاء بلغ أعلى مستوى له في تاريخ المنظمة، خلال شهر ديسمبر 2010، كتجاوز الرقم القياسي السابق في ارتفاع سعر الغذاء خلال عامي 2007 و 2008. والأمر الأكثر إثارة للقلق، أنه في الثالث من فيفري الجاري، أعلنت »فاو« أن الرقم القياسي لأسعار الغذاء في ديسمبر الماضي، تم تجاوزه في جانفي 2011 ، حيث قفزت الأسعار بمعدل3 ٪ أخرى. وعندما تنفجر فقاعات الغذاء المعتمد على زيادة ضخ المياه في بعض الدول، فسوف يؤدي ذلك إلى تقليل الانتاج بشكل مأساوي، وفي دول أخرى ربما يؤدي ذلك إلى تباطؤ النمو في الإنتاج، ففي السعودية، التي كان لديها اكتفاء ذاتي من القمح لما يزيد على عشرين عاما، ينهار انتاج القمح، ويحتمل أن يتلاشى كلية في غضون عام أو نحو ذلك، في الوقت الذي تنضب موارد البلاد من المياه الجوفية.
وتتقلص محاصيل الحبوب ففي سوريا والعراق، مثلا بشكل بطيء حيث تجف آبار الري، وتعتبر اليمن حالة سلة مائية، حيث تنخفض مستويات المياه الجوفية على امتداد البلاد، وتوشك آبار المياه على الجفاف هذه الفقاعات الغذائية، تجعل الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط، أول منطقة جغرافية يدفع نضوب المياه الجوفية فيها إلى انكماش محاصيل الحبوب.
رغم أن هذه التحديات الكبيرة، تشكل في مجموعها قاسما مشتركا للأمة العربية، وهي تحديات معروفة منذ زمن، لكن الدول العربية لم تلتفت إليها لأعتبارات عدة أبرزها:
أولا : الإنقسام تحت شعارات من طراز »دول معتدلة وأخرى متطرفة«، والكل يحمل أجندته الخاصة؟ وأمام هذا الواقع، فإن الإستعانة بالأجنبي لحل المشكلات زادها تعقيدا بينما المطلوب هو إحداث تغيير في الإستراتيجيات لجهة إيجاد استراتيجية قومية شاملة تلبي طموحات الشعوب العربية في تحقيق التنمية المستدامة، والظفر بالديموقراطية.
ثانيا : تكريس الحل الإستسلامي للقضية الفلسطينية، لأنه ينسجم مع هذه السياسات القطرية، ويتوافق مع سياسات الطبقات الحاكمة المتجهة نحو تعميق الارتباط بسياسة الإدارة الأمريكية خصوصا بعد احتلال العراق إن الدول العربية، تكثر الحديث عن »السلام« وتعلن مبادرات السلام. ومع ذلك، فإن الحروب تقوم، ولا تتوقف... إن لغة العدو الأمريكي- الصهيوني واضحة ومحددة. إنه يريد تصفية القضية الفلسطينية، واخضاع الأمة العربية، وتفتيتها ونهب ثروات العرب والمسلمين. ولذلك فإن العدو الامريكي- الصهيوني يفجر حروبا، ويتحدث عن مشروع »الشرق الأوسط الكبير« . فما الذي تفعله الأمة العربية.. والحكّام العرب يطرحون مشاريع سلام مع الأعداء؟
في ظل غياب إرادة الشعوب العربية تنظم الأنظمة العربية مهرجانا سنويا لعقد القمة، وتسخر أجهزة الإعلام للتطبيل والتزمير له . كما أن القوى الحاكمة، تعين مجالس نواب (برلمانات) ومجالس شيوخ، وتكون أحزابا وجمعيات، وتوظفها على نطاق واسع، بهدف تأييد السلط القائمة في قراراتها.
إن الجماهير العربية مازالت بعيدة عن أن تملك القدرة لممارسة سلطتها، وهي مغيبة ومحرومة من حقوقها؟ ومادام الأمر كذلك فإن الأنظمة العربية مسؤولة عن إخفاق الأمة العربية في بناء سوق عربية مشتركة، وبالتالي عن إخفاق العمل العربي المشترك.
إن الصراعات والخلافات البينية العربية توفر التربة الخصبة »لإسرائيل« والولايات المتحدة المريكية لتنفيذ مخططاتها في المنطقة، ما يستوجب على العرب وقادتهم التنبه إلى مصيرهم، وقبل ذلك كله السعي نحو توحد المواقف بعيدا عن المصالح الآنية.
❊ باتت الأقليات في الوطن العربي تهدد بنيانه، وبؤرا يتسلل منها أعداء الأمة لتقسيم المقسم : فكيف ترى واقع ومستقبل هذه الأقليات من وجهة نظر قومية؟
في أثناء عدد من العقود أصبحت الأقليات المحصورة سابقا تتمتع بوضعية جديدة وفيها دفعة يتسع مشروعها السياسي الأقلوي إلى ما لا نهاية مجال الممكنات . فثمة تطلعات جديدة، كانت محبوسة أو غير معبر عنها برزت، منفذة في تجسيد مشروعات سياسية متعلقة بأقليات مخصوصة. ومن الواضح أن عددا من هذه الأقليات تتطلع الآن في ظل أزمة الدولة العربية أن تصبح »أمما« بالمعنى العربي للعبارة، وكل منها في دولة خاصة بها.
زمن هزيمة المشاريع الكبرى
من هذا الواقع سوف تكون أولى الإختيارات الإستراتيجية المتعلقة بالأقليات هي الانفصالية في مواجهة الدول العربية المتعددة الطوائف التي نشات حديثا على انقاض الإمبراطورية العثمانية، واتفاقيات سايكس بيكو .. وكان هذا الاختيار الانفصالي حقيقة نشاطه الأشد في زمن هزيمة المشاريع الكبرى : القومية والماركسية والإسلامية، حيث كانت التقسيمات وإعادة تجميع المقاطعات، المنفذة عبر التجارب والتراجعات من قبل الدول الكبرى تعزز جميع الآمال الطائفية والإثنية للأقليات الانفصالية المتهمة بالتواطؤ مع القوى الغربية الكبرى، وإسرائيل.
وهكذا، وجدت الدول العربية نفسها إذن من جديد مرمى لتنازع مزدوج يمارس من جهة باسم الأقليات الطائفية والإثنية الإنفصالية، ومن جهة أخرى باسم امة عربية أوسع. وبالتالي ثمة مشروعان يفضحان »الطابع الاصطناعي واللاشرعية في الدول العربية الحديثة«، يمزقانها بين خطر التجزئة على أساس ديني وعرقي، وخطر الاتحاد في كيانات أوسع. ومن المعروف ان مشروع وحدة البلدان العربية على الرغم من إخفاقات عديدة في محاولات التوحيد لم يكف أبدا عن التمسك به من جانب عدد من الحركات السياسية العربية.
ومن دون انكار دور المخططات الاستعمارية الغربية والإسرائيلية في استثمار وقائع الأقليات الدينية والإثنية الموجودة على الأرض العربية توظفها لخدمة أهدافها الاستراتيجية في السيطرة على منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، فإن موضوع جنوب السودان يشكل مثالا لهذه الأقليات الإثنية والقومية والدينية.
فالتيار القومي ينظر إلى انفصال جنوب السودان بوصفه سابقة تستهدف تفتيت العالم العربي كله من خلال تحريك مطالب الأقليات سواء كانت إثنية أو دينية، أو قبلية كي تطالب كل منها بدولة مستقلة. كلنا يعلم أن تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات مستقلة كان وراء تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي شرطا لانسحاب القوات الامريكية من العراق وأن رهان إسرائيل الآن هو تقسيم العالم العربي حتى تصبح إسرائيل هي الدولة الكبرى وهذا يتطلب إقامة كيانات صغيرة في معظم الدول العربية. منذ سنوات قليلة قدم باحث إسرائيلي يدعى عيديد يينون دراسة لوزارة الخارجية الإسرائيلية عن مستقبل تقسيم العالم العربي مؤكدا ضرورة استغلال الإنقسامات العربية لأنها تصب في مصلحة إسرائيل.. إن تفتيت العالم العربي يجب ان يكون هدفا إسرائيليا واضحا وصريحا وهناك عوامل كثيرة تساعد على ذلك.
اما الحركات والأحزاب الإسلامية على تنوعها واختلافها، فهي تنظر إلى انفصال جنوب السودان من منظار أن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية المسيحيان يساندان ويدعمان مسيحي جنوب السودان ضد الحكم الإسلامي في الشمال.
فيما تنظر الأحزاب الوطنية العربية ذات الطابع القطري إلى إنفصال جنوب السودان بوصفه حدثا سيقود إلى مزيد من بلقنة الدول العربية المهددة في وحدة نسيجها الوطني. فقد ادى غياب دولة القانون في البلدان العربية، وسيطرة نموذج الدولة التسلطية، وانعدام الحريات الديموقراطية، وإقصاء تكوينات المجتمع المدني الحديث من الفضاء العام وإنتاج السياسة في صلب المجتمع، واستقواء الأنظمة العربية بالدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة نمو تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي، كل هذه العوامل مجتمعة قادت إلى إحداث تقسيمات متوقعة على أساس ديني وعرقي في كل من مصر، والسودان، والعراق، واليمن. فهناك أغلبية عربية سنية إسلامية.. وأقليات افريقية، وأقليات مسيحية. وهناك الأكراد في شمال العراق. كما تعاني دول المغرب العربي من انقسامات كثيرة بين العرب والبربر ولا توجد دولة عربية لا توجد فيها انقسامات دينية وعرقية وثقافية.. وفي دول الخليج، هناك أقليات شيعية نشطة في دول سنية.. وفي الأردن أغلبية فلسطينية، وفي اليمن حرب أهلية وفي الصومال أيضا .. وفي لبنان أقليات شيعية ومسيحية ودروز.
❊ المتابع لواقع الأنظمة العربية يدرك بما لا يدع مجالا للشك أنها سائرة في طريق الانهيار بعد أن فقدت كل أشكال الشرعية. فعلى من تقع مسؤولية رفع تحدي الفراغ الدستوري؟
منذ ان تشكلت الدولة العربية الحديثة في مرحلة ما بعد الإستقلالات العربية، و الحكام العرب يرفضون مساءلتهم عن خياراتهم أو عن استمرار بقائهم في السلطة، رغم انتهاء مدتهم الدستورية، بل إنهم يلجؤون إلى القيام بتعديلات دستورية، يصادق عليها في استفتاءات شعبية، طبقا لواقع كل بلد عربي، حتى يصل الأمر بالتتويج الشعبي إلى التتويج الملكي، أو الرئاسي مدى الحياة، الذي يمكن الحاكم من تمركز السلطات بين يديه، وتجعله يستغني عن الشرعية الدستورية والشعبية، ويضيق أكثر فأكثر مجرى شرايين الديموقراطية.
وحين تصبح عملية الإنتقال إلى السلطة عبر صناديق الإقتراع مستحيلة في العالم العربي، جراء ضعف التغيير من خلال المؤسسات التي لا تؤمن الترابط، الأساسي في النظام الديموقراطي، بين القرار والمسؤولية، نتاج لجوء الحكام إلى تفصيل ديموقراطيات على مقاسهم، تطرح النخب الفكرية والثقافية والديموقراطية العربية سؤالا جامعا، أيهما كان أفضل أن يتم التغيير في أي بلد عربي بواسطة تدخل القوى الأجنبية كما حصل في العراق، حيث دفع الشعب العراقي ثمنا باهظا جدا، وخلق حالا من الفوضى وعدم الإستقرار، أو من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية- شكلا وحيدا للتغيير من الداخل دون دعم من الخارج.
إن رفض الديموقراطيين العرب لهذه الأشكال من الإنتقال للسلطة الآنفة الذكر ينطوي على الكثير من الصدقية، ولا سيما أن معظم مآسينا كعرب جاءت من انقلابات عسكرية أو دستورية- ولا فرق بين هذا وذاك- قدمت لنا في بدايات حكمها مشاريع سياسية براقة ما لبثت أن تحولت إلى أوهام وخراب، حين تمسك الإنقلابيون بالحكم بصورة إطلاقية، وأخفقوا في مجال التنمية المستقلة، وفي عملية تحرير الأرض السليبة، وبناء الديموقراطية.
يكاد لا يخلو أي دستور دولة عربية من الإشارة الواضحة في بنوده المتعددة إلى إحترام المؤسسات، وإحترام القانون، والحريات الفردية والعامة ، والتداول السلمي للسلطة، عبر إفراده أحكاما خاصة بها، وتنصيصه على الوسائل الكفيلة بصيانة ممارستها وجعلها في منأى عن تعسف السلطة وشطط ممارسيها.. فالدستور، بماهو ضبط لقواعد ممارسة السلطة، يصبح ضامنا للحقوق والحريات، لذلك، لا تقاس ديموقراطية الدساتير بمدى اقرارها للحقوق والحريات فقط، بل تتحدد أيضا بدرجة حرصها على تأكيد الشرعية الدستورية، أي جعل ماهو مدرج في باب الحقوق والحريات محترما على صعيد التطبيق والممارسة.
ومع كل ذلك، فإن الباحثين السياسيين وعلماء الإجتماع المهتمين بتأصيل فلسفة سياسية عقلانية عن الدولة الحديثة والمجتمع المدني في العالم العربي يعتقدون جازمين ان المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية مأزومة، بدءا من دور البرلمان، الذي لم يعد يتحكم حتى بجدول اعمال جلساته، مرورا بشخصنة النقاشات عبر لعبة الإنتخابات الرئاسية، أو من خلال افراغ فصل السلطات من معناه.
يمكن التعرف في واقع الدولة العربية ما بعد الإستقلال السياسي، إلى ان سيرورة تطور بنيتها وخصائص وظائفها الإقتصادية او السياسية القمعية، أو الدمجية، أو التقنية تختلف عن السيرورة التاريخية لتبلور الدولة البرجوازية في الغرب (أوروربا الغربية وأميركا الشمالية)، بسبب من تطورها كدولة رأسمالية في ظل الرأسمالية المتأخرة، لعبت دور جسر للبرجوازية الإحتكارية الإمبريالية، ومفوض وكيل للرأسمالية العالمية، وبالتالي إعادة إنتاج سيرورة الإستغلال من جانب رأس المال.
وليس من شك أن هذه العلاقة الأدواتية قد اسهمت في تقليص السيرورات السياسية ضمن وبين مكونات المجتمع المدني الوليد، وتحويل هذه الدولة ذاتها- التي هي بالأساس دولة لا قانونية حيال غالبية الشعب- من دولة في ظل »اللحظة الليبرالية« التي عرفها العالم العربي، التي تقوم على مؤسسات مستقلة نسبيا في إطار وظيفتها إلى دولة سلطة، أعادت إنتاج مؤسسات الدولة وفق مصالح الفئة الحاكمة، حتى بات التمييز صعبا بين السلطة والدولة؟ أساس هذا التحول يكمن في تشظي الحقل السياسي للفئات الوسطى التي حملت مشروع الدولة الوطنية، واستئثار الشريحة المحافظة منها بالحكم، وهيمنتها على الثروة المجتمعية. وقد تحولت العلاقة بين الدولة والمجتمع من علاقة وحدة وتعارض وتفاعل إلى علاقة تحكمها عملية مزدوجة، هي عملية الاحتواء والتهميش جراء هذه العملية تحولت علاقة الدولة بالمجتمع إلى علاقة الدولة بافراد منعزلين، بعد إلغاء دور المؤسسات الوسيطة التي تلعب دور التمثيل.
هذه الدولة المستندة إلى مشروعية ايديولوجية وطنية أو قومية وليس إلى مشروعية مجتمعية أخذت على عاتقها عملية إعادة إنتاج وعي سياسي مطابق لطبيعتها، وانتقلت من دولة حق وقانون إلى دولة عسف وامتيازات. والإمتيازات، هنا ليست امتيازات طبقة برجوازية بالمعنى التقليدي للكلمة، وإنما إمتيازات البيروقراطية للدولة التسلطية.
يتفق علماء الاجتماع والسياسة على أنه ليس هناك دولة دستورية في العالم العربي، ومشروعيتها، بالمقارنة مع دولة القانون التي وضعتها الثورات الديموقراطية البرجوازية المتعاقبة في الغرب، وركائزها الحديثة باعتبارها دولة تقوم على المذهب الوضعي الذي يستند بدوره إلى الفكرة القائلة أن الدفاع عن القانون يقوم على الحرية. وفي ظل غياب الحرية ينعدم القانون.
الفرق بين دولة دستورية ودولة ذات دستور
ومازال الفكر السياسي العربي يفتقر افتقارا فعليا إلى بلورة نظرية حول طبيعة الدولة الدستورية العربية، وهو ما يشكل واحدة من أهم أزماته، فضلا عن أنه يتجاهل التمييز بين الدولة والسلطة، لأن فكرة الدولة في العالم العربي لم تتغير كثيرا عن معنى الدولة قبل الأزمنة الحديثة، حيث كان معنى الدولة عند ابن خلدون على سبيل المثال هو مدة حكم أسرة حاكمة تبعيتها، أو الامتداد الزماني والمكاني لحكم عصبية من العصبيات، سواء أكان هذا الحكم عاما او خاصا.
وحين نتأمل في احوال الدولة العربية الراهنة، فإننا نجدها متماثلة مع السلطة، بما أن هذه الدولة على الرغم من أنها ذات دستورن تقلصت إلى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساويين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لأثنية أو لإقليم بعينه. علما ان الدولة لا تنحل كليا في السلطة، ولا في الجهاز القمعي فقط، حيث أصبحت هي الجهاز القمعي بامتياز، ولا سيما حين نجحت هذه الدولة التسلطية العربية، في اختراق المجتمع المدني بالكامل، محققة بذلك الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع.
وهنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور وبين دولة دستورية. فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولا وفعلا على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة »حرية الفكر والعقيدة والتملك« على حد قول مونتسكيو. والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدولة التي تحترم القانون، وتؤمن إيمانا راسخا لا يتزعزع بمبدأ التداول السلمي على السلطة، وبالترابط الضروري بين الحرية السياسية وفصل السلطات.
بينما الدولة العربية ذات الدستور، فهي تلك الدولة التي تنتهك القوانين والأنظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، وهي التي تصادر الحريات وتعرضها للضرر والانتهاك، وهي التي ترفض أيضا إقامة نوع من التوازن السياسي عبر الالتزام بمبدإ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمرا ممكنا، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الإستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
❊ إذا كانت المقاومة هي الخيار الأمثل لتحرير الأرض والبشر، فماهي المبررات الموضوعية لنهج التفاوض مع الكيان الصهيوني المعتمدة من قبل بعض الأنظمة الراعية والمساندة للمقاومة؟
منذ ان قبلت سوريا القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن 242 و 338، أصبحت قضية التسوية حاضرة في قلب سياستها الخارجية. وبعد ان وقعت مصر اتفاقيات كامب ديفيد في عام 1979، التي اخرجتها من معادلة الصراع العربي- الصهيوني، أصبحت سوريا تتبنى مبدأ التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني. والحال هذه خاضت سوريا إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية معركة إسقاط سوق الغرب، وبالتالي معركة اسقاط اتفاق 17 آيار 1983.
غير ان انخراط سوريا في مبادرة السلام الأمريكية التي طرحها الرئيس السابق جورج بوش عقب حرب الخليج الثانية في خريف 1991، وخوضها جولات من المفاوضات مع الكيان الصهيوني طيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي، يندرج ضمن إيمانها بانتهاج استراتيجية السلام خيارا استراتيجيا، الذي يقوم على استعادة كامل الحقوق العربية المغتصبة، سواء فيما يتعلق باستعادة هضبة الجولان كاملة أو فيما يتعلق ببناء الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ويأتي انخراط سوريا في اطار عملية ما يسمى بالسلام، حتى لا تظهر امام المجتمع الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية أنها دولة معادية للسلام، وحتى لا تستغل أميركا و ربيبتها إسرائيل هذا الموقف لكي تنعتها بأنها الدولة الشرق أوسطية الداعمة للإرهاب.
وتنطلق سوريا في معركتها من أجل تحقيق السلام العادل والشامل على كافة الجبهات العربية، من انها الدولة العربية الوحيدة التي لا تزال تعتبر نفسها في حالة صراع مع العدو الصهيوني، وهو الوضع الذي جعلها دائما تساند وبقوة خيار المقاومة المسلحة من جانب الحركات الجهادية الإسلامية الرافضة لنهج التسوية، والمؤمنة بخط التحرير لكل الأرض العربية السليبة.
إضافة إلى كل ذلك، فسوريا دولة إقليمية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، ولها علاقات دولية حتى مع معسكر اعداء الأمة العربية، مثل الولايات المتحدة الامريكية، والحال هذه لا يجوز النظر إليها على أساس أنها فصيل مقاوم متحرر من الإلتزامات الدولية والإقليمية.
ومع ذلك فهي تخوض معركة السلام انطلاقا من المحافظة على ثوابتها الوطنية والقومية من دون أن تفرط في حقوقها بشان استعادة الجولان كاملا، وهي في الوقت عينه تخوض المعركة مع العدو الصهيوني عبر الدعم الذي تقدمه لفصائل المقاومة.
وعلى الرغم من الضغوطات الأمريكية والعزلة الخانقة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، فإن سوريا لا تزال متمسكة بثوابتها الوطنية والقومية تجاه القضية الفلسطينية لجهة إيمانها العميق بتحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل.
ولعل السياسة الأمريكية في استقطاب الحكام العرب ضمن استراتيجية الحرب على الإرهاب، خاصة بعد أن إحتلت العراق، إنما تهدف إلى كسر ما تبقى من شوكة العرب القومية، من خلال ممارسة الضغوط على دمشق التي سارت في خط تدريجي متصاعد : تصعيد كلامي ثم اقرار قانون معاقبة سوريا وصولا إلى القرار 1559 الذي يعتبر علامة الذروة في تصعيد لم يعد قادرا على الرجوع إلى الوراء، ولا سيما أن القرار المذكور صادر عن مجلس الأمن.
ومع انهيار كل مراكز الرفض العربي في أعقاب الحرب انكلو-أميريكية على العراق، وسيادة منطق ومفهوم الإستجابة لمتطلبات وشروط المرحلة الجديدة، المتمثلة في تطبيع العلاقات العربية- الأميريكية- الصهيونية، بإملاءات الواقع وانخراط الحكم العربي الرسمي في هذا المسار على خلفية وحدانية الولايات المتحدة الأمريكية، بدأت تمارس الضغوطات القوية على سورية بهدف نزع أسلحة سورية السياسية، وتحجيم قواتها العسكرية فكان إخراجها من لبنان، وصولا إلى فصل السياسة اللبنانية عن السياسة السورية، بهدف إرغام اللبنانيين على توقيع اتفاق مع الكيان الصهيوني على غرار اتفاق 17 آيار1983 .
»إسرائيل« في نظر سوريا قاعدة إمبريالية أقامتها في الشرق الوسط الإمبريالية البريطانية بالاتفاق مع الإمبرياليات الأخرى. وهي جزء من النظام الإمبريالي العالمي. ونشاطها في العالم هو منذ وجودها مرتبط بالنشاط الإمبريالي سواء أكان لمصلحتها الخاصة أو لحساب الإمبرياليات الأوروبية والامريكية. هذا هو على الأقل التصور الأكثر شيوعا في العالم العربي. ويشعر العرب من محيطهم إلى خليجهم بالمهانة جراء فرض عنصر غريب في قلب امتهم تسانده قوى العالم الأوروبي- المريكي.
ولذلك فإن الحل الصحيح لتحرير كل فلسطين من وجهة النظر السورية هو دعم خيار المقاومة في كل البلدان العربية، باعتباره الحل القومي الصحيح الوطني الوحيد. أما الحل القطري فهو التصفية، وهو ليس حلا وطنيا.
فما معنى أن يتغلب الحل القومي وخيار المقاومة ؟
إن هذا يعني :
أولا : إن تحرير فلسطين مهمة قومية، وإنه مسؤولية كل مواطن عربي، وكل حزب عربي قومي، وكل قوة قومية. وإن هذا يعني أن يوضع التحرير في موقعه من المهمات القومية، وباعتباره هدفا رئيسا، لا يعلو عليه أي هدف آخر، من حيث الأهمية.
وإن كل الإمكانات يجب ان تسخر لتحقيقه.
ثانيا : إن أي عمل في فلسطين لتحرير فلسطين، يجب أن يكون جزءا من هذا العمل الكبير، لا خارجه، ولا بموازاته، حتى يأخذ بعده القومي، وقوته القومية، وحتى لا يتحول إلى عمل طفولي أخرق، أو استسلامي ضائع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.