لا نظن أننا مغالين بالقول أن ثورة 14 يناير التونسية ( بل هي بداية الثورة العربية الراهنة وليس مجرد حدث تونسي ) هي أكبر حدث في تاريخ تونس المعاصر. لا نظن أننا مغالين بالقول أن ثورة 14 يناير 2011 هي ثورة الإستقلال الحقيقي. لم يكن الإستقلال العسكري عن الإحتلال الفرنسي سيما بسبب إنقلاب بورقيبة يوم 2 مارس 1934 في قصر هلال ضد الحزب الحر الدستوري أي ضد الثعالبي عام 1956 سوى إستئمانا من الجمهورية الفرنسية لرجلها الوفي الذي صنعته على عينها ( بورقيبة ) على “ محميتها “ القديمة : تونس. ذلك هو منطلق ما سمي من بعد ذلك في الأدبيات السياسية المعاصرة : الإحتلال الجديد. neocolonialisme . وهو المقصود به : الإحتلال الثقافي وضمان التبعية الإقتصادية. تلك هي المصيدة التي وقعت فيها أكثر البلدان العربية والإسلامية المستقلة. دعنا نقول : لم يكن الوعي العربي يومها في جملته وليس تفصيلا يتجاوز في طموحه التحرر العسكري أو ربما ظن العرب يومها وربما في بعض دوائر المقاومة أيضا سيما أن بعضها مخترق من الآلة العسكرية الأروبية أن الإستقلال العسكري ترابيا يضمن بالضرورة وبصورة آلية الإستقلال الحضاري والثقافي ومقتضياته السياسية والإقتصادية. عقدة ذلك الوعي هي ما يسميها المفكر الفلسطيني الكبير : الدولة العربية المستقلة أو دولة التجزئة والتبعية. أي : تلازم الوحدة العربية والإسلامية والإستقلال. فلا إستقلال مع تبعية ولا إستقلال مع تجزئ وتشظ. ولكنه إحتلال جديد.
أجل. هي ثورة التحرير الجامع
لذلك فإن إستقلال 20 مارس آذار 1956 لم يكن سوى خروجا للعكسر الفرنسي الذي لم يبارح أرض الوطن إلا بعد ذلك بزهاء خمس سنوات كاملات فيما سمي من بعد ذلك معركة بنزرت أو معركة الجلاء أي 1961 ولم يكن ذلك الإستقلال إستقلالا تونسيا جامعا بمقتضياته السياسية والمالية والإستراتيجية. لا سبيل لتحقق ذلك بل إلى اليوم إذا أردنا تطبيق القاعدة الآنفة وهي أنه لا إستقلال لأي قطر عربي دون وحدة عربية إلا بضمان مقتضيات الإستقلال الحقيقي : الإستقلال السياسي والإستقلال الإقتصادي.
لسنا بحاجة إلى أي دليل على ذلك. وأكبر دليل على ذلك هو ثورة 14 يناير 2011. لو كان إستقلال عام 1956 إستقلالا حقيقيا جامعا وأنى لإستقلال تحت سقف التبعية والتجزئة لما كان لثورة 14 يناير 2011 من مشروعية.
لذلك فإن ثورة 14 يناير 2011 لا ينبغي لها أن تعد إلا إستقلالا حقيقيا بل هو إستقلال مزدوج. إستقلال المجتمع عن الدولة المتغولة التي تلتهمه يوما من بعد يوم. وإستقلال البلاد كلها عن الإكراه الغربي والأروبي والصهيوني بل بعضه عربي . يوم تشب هذه الثورة وتترعرع وتبدأ في حصد ثمارها الطيبة سندرك أنها ليست حدثا عاديا ولا أكبر من ذلك بل هي : إستقلال الشعب عن دولة بوليسية داخلية وإستقلال بلاد عن إكراه دولي ماكر.
فما هي آخر كلمة للثورة
الثورة ثورة 14 يناير 2011 سطرت إستراتيجية حضارية ثقافية واضحة جلية هي إستراتيجية إعادة الإعتبار للمجتمع إنسانا وشعبا على قاعدة أولوية الحريات وميلاد الديمقراطية الحقيقية لا الديكورية المزوقة المغشوشة والعدالة الإجتماعية والحق في المقاومة إنتصارا للمقهورين في كل مكان سيما فلسطينالمحتلة فضلا عن إعادة غرس تونس في محيطها العربي والإسلامي والإفريقي والمتوسطي على قاعدة الندية لا التبعية. تلك هي خارطة طريق الثورة : ثورة الإستقلال الحقيقي ثورة 14 يناير 2011 .
للثورة المضادة ألوان كثيرة
مصطلح الثورة المضادة غير محبذ عندنا بسبب أن ما يقوم به أعداء الثورة ليس ثورة مضادة ولكنه إغتصاب وسرقة ونهب وسلب وتزوير. وأنى للمغتصب أن تسميه ثائرا؟ ولكن لا مشاحة في المصطلح كلما كان المقصد مفهوما. حركة إغتصاب الثورة ليس بالضرورة أن تتقمص رداء واحدا هو إثارة المشاكل الأمنية مثلا. لا. حركة إغتصاب الثورة حربائية اللون. تتلون بكل لون مناسب لتحقيق مقصدها. ذلك يتطلب منا جميعا إلتزام اليقظة الذهنية وأقصى درجات الوعي الوطني المسؤول. اليقظة ليست يقظة بدنية فحسب. اليقظة البدنية يمارسها البوليس.
الصراع العالماني الإسلامي مظهر من مظاهر إغتصاب الثورة
أجل. ولكن كيف ذاك؟
الصراع العالماني الإسلامي في تونس ما بعد الثورة مثلا إتخذ بعض الصور المبالغ فيها من مثل تنظيم بعض التظاهرات الحقيقية المادية دون ما يمور به الفايس بوك . ولكن دعنا نقدم للموضوع بما يلي :
1 العالمانية هي فعلا من أكثر الكلمات تلبسا بما فيها وبما ليس فيها. من أكثر الكلمات المشبعة بألف ألف حابل ومثله من النابل. فرز ذلك ليست مهمة المفكرين فحسب. إنما دور السياسيين تبين ذلك أو الحد الأدنى منه. السياسي ذو الثقافة المسطحة البسيطة لا يختلف عن العامة من الناس ممن لا يطلب منهم التمييز بين مظاهر العالمانية وأصولها ومنابتها وبناتها والأسباب التي دعت إلى إنغراسها في تربتنا العربية الإسلامية. لا يقبل من السياسي أن يكون كذلك لأن السياسة والفكر صنوان لا يفترقان ولا يفضي القحط الفكري إلا إلى قحط سياسي.
2 من أشد التمييزات المطلوبة هو التمييز بين عالمانية جامعة وبين عالمانية جزئية. ليس بقصد قبول هذه أو نبذ تلك ولكن بقصد تعميق الفهم وتحيينه وإحسان التصرف مع مشاهده المتكررة. لا بد أنك تشترك مع بعضها في شيء وتختلف في أشياء ولكن لا بد أنك إقتضاء لذلك تشترك مع بعضها الآخر في أشياء وتختلف في شيء. تلك ثمرة من ثمرات ذلك التمييز المطلوب. كل ذلك مطلوب للفصل في قضية الهوية الوطنية لتونس.
3 من أشد التمييزات المطلوبة كذلك في قضية الهوية الوطنية لتونس بسبب أن تناول العالمانية بمختلف تلوناتها وأنواعها لا يقصد منه سوى رسم تخوم تلك الهوية وإلا كان الحوار لاغائيا أي عفوا عن مقصد يبسط له مشروعيته من أشد تلك التمييزات هو ما هي أضلاع الهوية الوطنية لتونس؟ هل هي بناء أحادي البعد أم متعدد الأبعاد وإذا كانت متعددة الأبعاد فما هو البعد الأصلي الذي يغذي بقية الأبعاد بماء الحياة؟ أي : هل لتونس هوية دينية فحسب أم هوية لغوية فحسب أو هوية تاريخية فحسب أم هوية إجتماعية فحسب ؟ إلى آخر ذلك. لا شك أن الهوية بناء متعدد الأبعاد ولكنه تعدد متجانس متكامل يتولد بعضه عن بعض وليس هو كدس من الأهواء والأمزجة كمن يحشر في كيس جل ما تقع عليه عينه. السؤال الفيصل هنا هو : هل أن الإسلام الذي يشكل محور الهوية التونسية متعددة الأبعاد له مقتضيات إجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية وإقتصادية أم لا؟ وهل أن بعده الديني يتساوى مع أبعاده الأخرى من حيث الثبات أو القابلية للإجتهاد والتجديد أم لا؟ هل أن هناك منطقة عفو ترعى التعدد وتعمل على تخصيبه في ضوء معيار عقدي فلسفي ثابت وما هي تخوم تلك المنطقة؟
4 من أشد تلك التمييزات المطلوبة كذلك في موضوعة العالمانية : هل أن العالمانية السياسية هي العالمانية الثقافية والفكرية ذاتها أم أنهما تعبيرتان مختلفتان أو أنهما يشتركان في شيء ويختلفان في شيء آخر؟ كيف ينسجم العالماني ليكن جزئيا أو جامعا مع الإسلامي في أكثر ألوان الحياة العامة إجتماعا على مائدة الحرية وفرضا لمطالب العدالة في حين أن كلاهما نقيض للآخر في جوهر الرسالة الدينية؟ هل أن أحدهما يزاول التقية أم أن التقية مخيال تحتفظ به أنت في ذهنك ثم تلبسه غيرك؟
وأسئلة أخرى كثيرة يمكن إيرادها على مائدة الحوار الذي يظل المنقذ الوحيد من فتنة إغتصاب الثورة أو تأخير الإستمتاع بطيباتها. أسئلة أخرى كثيرة لا يتسع لها المجال هنا ولكن على السياسيين إلتقاطها وبسطها وليس على المفكرين فحسب. نعود لنذكر أنفسنا بأن السياسي أيا كان لونه : فإن كان عالمانيا غير محيط بالإسلام فهو الفارس الخطإ في الميدان الخطإ وإن كان إسلاميا غير محيط بالعالمانية فهو كذلك .. نعود لنذكر أنفسنا بأن السياسي الذي يزاول السياسة سيما من منطلق حزبي في مناخات الحرية كما هو الحال بعد ثورة 14 يناير دون أن يكون معبأ بشحنات ثقافية وفكرية وافية وصحيحة عن مختلف الألوان الفكرية والأطياف السياسية التي يلتقيها بالضرورة في ساحة الوغى .. هو سياسي فاشل بالضرورة. سيتبين فشله يوم يزج بنفسه في معارك وهمية أشبه بمعارك دون كيشوط التاريخية المعروفة.
لماذا يكون الصراع العالماني الإسلامي مظهرا من مظاهر إغتصاب الثورة
1 السبب الأول : لأن هوية تونس ترسخت في الأرض والنفوس بصورة غير قابلة لمجرد التفكير في إقتلاعها ودعك من الحمقى الذين يأتون ما يأتي المعتوهون في الشارع بالتمام والكمال والفرق الوحيد بينهما أن المعتوه يتفطن له الناس بسبب لباسه وهيئته فيسخرون منه أولا يعيرونه إهتماما أما الأحمق الذي يتوارى تحت أردية الحذق والكياسة والفطنة فإن الناس يعيرونه ألف ألف إهتمام متغافلين عن كونه أحمق بالفعل والحقيقة. أجل. هوية تونس راسخة في النفوس والأرض بصورة غير قابلة للقياس. التاريخ ينبئنا عن ذلك بإنصاف ويقين : هل يمكن لعاقل أن يخاف على هوية تونس بعد ملحمتين حربيتين متتاليتين على إمتداد أزيد من نصف قرن كامل : ملحمة بورقيبية أسها التعليم والثقافة والفكر وملحمة الذيل المقطوع بن علي وأسها العصا والقوانين المعادية للحرية أي لحرية الإنسان في ثوبه وذقنه .. ملحمتان حربيتان بأتم معنى كلمة : حرب. هي حرب باردة في الشطر الأول من نصف القرن وهي حرب ساخنة ( أفضل ما قيل فيها : سنوات جمر حامية طويلة ) في شطره الثاني.. هل يمكن لعاقل أن يخاف على تلك الهوية بعد أن باءت خطة تجفيف منابع التدين بالفشل الذريع. الذي يخاف على هوية البلاد الوطنية لا مكان له تحت شمس التفكير العقلاني السديد ولا فوق أرض الرسوخ العلمي. تلك هي شهادة التاريخ وهل بعد شهادة التاريخ من شهادة يعتد بها؟ شهادة التاريخ تقول لنا بجلاء ووضوح : لم يزدد التونسيون رجالا ونساء فكرا وثقافة وعملا إلا تدينا رغم ملحمتين حربيتين عنوانهما الأكبر : تغريب التونسيين في عهد بورقيبة وتجفيف منابع تدينهم في عهد الذنب المقطوع بن علي. الخائف على هوية تونس من بعد ذلك مشكوك في رجحان عقله بأتم ما تقتضيه الكلمة من معنى. الخائف على هوية تونس من بعد تلك الملحمتين لا بد أنه يشكو إهتزازا نفسيا شنيعا. الخائف على هوية تونس بعد كل الذي حدث لا بد أنه يقدم لمن يعمل على إغتصاب ثورة 14 يناير 2011 خدمة بالمجان وهو يظن أنه يحسن صنعا.
2 السبب الثاني : لأن ذلك الصراع خاصة في مظهره المادي الحقيقي أي تظاهرا في الشارع يقع على هامش الإستراتيجية الحضارية العظمى التي سطرتها الثورة. كلمة الثورة الأخيرة التي لا يجب الولاء لسواها سيما أننا بصدد إنجاز دستور جديد هي أن الحرية سفينة النجاة وقارب الحياة لكل التونسيين. كلما داعبتنا الحرية حتى فيما لا نحب كنا أوفى لكلمة الثورة وكلما شغب علينا الحنين إلى الإستبداد كنا أقرب إلى خيانة الثورة.
3 الإسلام والعالمانية كلاهما مكون من مكونات النخبة التونسية. ذلك واقع ثابت يظلنا على إمتداد عقود طويلة. هو واقع له أسبابه؟ أجل. ومن قال أن الأمور بمصادفاتها وليس بأقدارها؟ ولكنه واقع على كل حال. رضينا بذلك أم لم نرض.. ذلك لا يغير من الأمر شيء. حجم العالمانية مقارنة بالإسلام صغير جدا جدا جدا. صحيح. ولكن الديمقراطية هي في إتاحة الفرصة للصغير أما قتل الصغير لأنه صغير فذلك يسمى وأدا في الجاهلية. الحوار على قلة فرصه وعدم جدية بعض أطرافه لن يغير المعادلة في سنوات ولا حتى في عقود. ولكن الحوار يبقى هو الأفضل حتى لو لم يغير في المعادلة شيئا. لأن الحوار هو الضامن لصراع الألسنة والأقلام قامعا لحوار السنان. ذلك هو الذي إهتدى إليه الأروبيون فتقدموا.
4 من ألطاف الله بتونس أنها أكثر البلدان فوق الأرض إنسجاما. بلدان أخرى كثيرة تقع تحت ألغام يمكن أن تتفجر في أي وقت من مثل ألغام التنوع الديني أو المذهبي أو اللغوي أو العرقي. أما التنوع الفكري الذي تعيشه تونس حتى لو كانت له أسبابه المتعلقة بالإحتلال العسكري والغزو الفكري ومن قبل ذلك بالخلافة العثمانية وتاريخ طويل للأمة من إغتصاب الأمويين لقيمة الشورى ذلك التنوع التونسي هو رحمة مهداة لأنه تنوع على قاعدة فكرية وليس قاعدة دينية ولا قاعدة مذهبية ولا عرقية ولا لغوية. بمعنى أنه تنوع من أيسر التنوعات المعروفة فوق الأرض وبما يقتضي أن معالجته يسيرة وهي : الحوار ولا شيء غير الحوار.
كلمتان في الختام
1 يمكن أن يتطور الصراع الإسلامي العالماني إلى أداة من أدوات إغتصاب الثورة وذلك عندما تظل البلاد تعيش على وقع ذلك الصراع ليوحى إلينا به جميعا أن تلك هي مشكلة البلاد الأولى والعظمى وما هي بمشكلة أبدا عندما نعالجها بالحوار والإصرار على الديمقراطية والتعايش السلمي رغم الإختلاف والتنوع والإصرار على جعل التعدد الثقافي والفكري أداة بناء لا هدم. يمكن لأعداء الثورة تغذية ذلك الصراع خاصة في الشارع وإستخدامه مطية لإثارة نعرات أخرى. على أن الإختلاف الفكري ليس نعرة أبدا. ذلك تنوع لا يعد مشكلة أبدا. بل هو مطلوب ولو لم يكن موجودا لأوجدته السنن الغلابة لإمتحان الناس. هل تريدون أن نعيش دون مشاكل أبدا. إذن نموت وتقوم قيامتنا.
2 كلمتان إلى من يهمهم ذلك الصراع.
أ إلى العالمانيين : حقكم في الإختلاف محفوظ أبدا. ولكن تخوم الإختلاف محدودة كما تعلمون. هي محدودة بالقبول بالأركان الكبرى الرئيسة لهوية تونس الوطنية أي : الإسلام والعروبة والحرية وما تثمره من عدالة وديمقراطية وحق في المقاومة وسعي إلى الوحدة العربية. معلوم أن نقطة الخلاف هي : الإسلام. ولكن ما هو الإسلام المقصود هنا؟ هو الإسلام العقدي الديني التعبدي وما عبر عنه العلماء قديما بقولهم : المعلوم من الدين بالضرورة. هي مساحة صغيرة جدا. مساحة تتيح لكل بشر تنظيم تدينه بما يحفظ علاقته بربه. أكثر مساحات الإسلام هي إجتهادات تنتظر التجديد والإبداع. المطلوب منكم هو : إحترام تلك المساحة الصغيرة جدا ولكنها في نظر أصحابها هي الأهم والأعظم والأخطر. وما عدا تلك المساحة الصغيرة جدا فإن كل الأفكار والأراء ليست سوى إجتهادات بشرية ولا عصمة لأي إجتهاد بشري إلا بعصمة الشورى أي التوافق الديمقراطي عليه وهي عصمة لا تحجر حق الأقلية ولو كانت الأقلية فردا واحدا من بين مليون فرد في إبداء الإختلاف وإظهار التنوع والإصرار على التعدد. إذا بادرتم بالهجوم على منطقة المعلوم من الدين بالضرورة تلك المساحة الصغيرة جدا وأغلبها في الحقول العقدية والتعبدية والأسرية فإنه هجومكم لا يفهم إلا أنه هجوم على الإسلام أي هجوم على أشد أبعاد الهوية الوطنية التونسية ضمانا للحياة. ومن حقكم كذلك الدعوة إلى ما ترونه مخالفا لذلك ولكن بطريق علمي يركز على الفكرة فيعرضها ويعرض بديله عنها في ثوب أخلاقي يفرض إحترام الناس له حتى لو كانوا مخالفين.أنتم اليوم أقلية دون ريب. حقكم محفوظ دون ريب. وليس كالحوار سبيلا لتنظيم التعايش السلمي المدني الديمقراطي لمواجهة أخطار ما بعد الثورة وأعباء ما بعد الإستقلال الحقيقي الجديد.
ب إلى الإسلاميين : إذا إنجررتم دون وعي منكم إلى مساحات هامشية صغيرة من مثل الصراع العالماني الإسلامي بأحجام ورساميل لا يطيقها الواقع بكل زواياه فإنكم تقدمون لأعداء الثورة خدمة بالمجان. إحفظوا آخر كلمات الثورة إليكم : الحرية وليس سوى الحرية. الحرية هي الضامن للديمقراطية وللعدالة وللحق في المقاومة ولتحقيق الوحدة العربية. أي بوابة أخرى ولو كانت إنتصاركم على العالمانية ذاتها إنتصارا ساحقا هي بوابة مزورة مغشوشة لا تقود إلا إلى حقبة جديدة من حقبات الدكتاتورية والتبعية والإستبداد. الصراع العالماني الإسلامي ليست له أي أولوية. بل هو ليس أولوية مطلقا. إذا كنتم تخافون على هوية تونس الوطنية بعد تصريح التاريخ لكم فالأولى بكم أن تخافوا أن تسرق منكم الثورة بل أن تكونوا مسمارا في نعش الثورة وأنتم تظنون أنكم تحسنون صنعا. العالمانية واقع لا محالة. واقع مصنوع في تونس بسبب عوامل يضيق عنها المجال هنا. من العالمانية كما تدركون رجال ونساء لا يزايد عليهم مزايد في الوطنية. لهم حساباتهم طبعا. وهل يخلو سياسي من حسابات. لم لا تكون لكم أنتم كذلك حساباتكم. الحسابات ليس عارا ولا شنارا. الحسابات ماعون عمل في السياسة ولكن الحسابات المرفوضة هي الحسابات التي تقدم الحزب على البلاد أو البلاد على الأمة أو الأمة على البشرية أو الدين على الإنسانية أو الإنتماء السفلي على العلوي. مطلوب منكم إنجاز ورقة فيها القول الفصل في العالمانية. بين جزئية وجامعة وبين سياسية وفكرية وبين حزبية ومستقلة وبين وطنية وإستئصالية.. إلخ.. هنا نشترك وهنا نختلف وبهذا نتعاون وعلى هذا نتحاور .. لتكن خارطة طريق بعد إنزياح العقبة الكؤود : الذنب المقطوع بن علي وأزلامه. لو أنجز ذلك مع العالمانية نفسها فإن الشطر الأول من الشوط الثاني الذي تحتاجه الثورة قد أنجز بنجاح كبير.
إلى العالمانيين والإسلاميين سواء بسواء :
لم تمدنا الثورة بورقة مكتوب عليها : العالمانية خطر على تونس فاحذروها ولا بورقة مكتوب عليها : الإسلام ( بأي قراءة قرئ كلما كانت القراءة قوامها التعدد وحق الإختلاف ونبذ العنف والتكفير دينيا ووطنيا ) خطر على تونس فاحذوره.. فلم الحياد عن البيان الختامي للثورة بل عن لائحتها العامة؟ إذا إنشغل بعضكم ببعض فإنكم توفرون أخصب حقل لأعداء الثورة بالحياة والرجوع من جديد. ألم يكن الإستبداد بالأمس القريب بل قبل زهاء شهرين فحسب هو عدوكم الأوحد؟ هل يظن الإسلاميون أن العالمانية ستمحى من تونس بالتمام والكمال أم يظن العالمانيون أن الإسلام أو الإسلاميين ستنشق الأرض لتبتلعهم؟ وجودكم مقصود ليبتلى بعضكم ببعض. هل ينكر الإسلاميون أنه لولا الوجود العالماني إضافة إلى الإسبتداد البورقيبي ودكتاتورية الذنب المقطوع بن علي وعوامل أخرى لما كان إبداعهم الفكري على ما هو عليه اليوم من صور مشرقة هي محل إقتباس؟ أم هل ينكر العالمانيون أنه لولا الإسلاميين لما راجعوا نظراتهم من الدين والتدين والإسلامي وإرثه وتراثه ليقتربوا من التربة التونسية؟ إذا إنفرد الإسلاميون بالبلاد فتلك ساعتها وبمثل ذلك إذا إنفرد بها العالمانيون. ألم يعد يتسع لكم التوافق وقد إتسع لكم في أحلك عهود القهر والحيف؟ لا يكفي أن تكون قيادات ونخب الفريقين على وعي متقدم مسؤول يقدم حق البلاد وإستحقاقات الثورة .. لا بد أن يكون ذلك روحا تسري في خلايا الجسمين الإسلامي والعالماني. أليست مشكلة الثورات والمشاريع والحركات في التاريخ في أتباعها وليس في رؤوسها؟