عائدات تونس من تصدير التمور ترتفع بنسبة 19،1%    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    رابطة أبطال أوروبا...الريال «ملك» وأنشيلوتي يهزم غوارديولا بالضربة القاضية    يعرف ما له من حقوق وما عليه من واجبات...لماذا غاب المسلم القدوة عن مجتمعنا!    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    دعوة إلى مراجعة اليات التمويل    في كمين لقوات الجيش و الحرس ...القبض على أمير كتيبة أجناد الخلافة الإرهابي    القصرين: الداخلية تنشر تفاصيل الايقاع بعنصر ارهابي في عمق جبل "السيف"    بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين    ولاية بنزرت تحيي الذكرى 68 لقوات الامن الداخلي وتكريم الشهيد فوزي الهويملي    أخبار النادي الصفاقسي .. غضب بسبب عقوبات الرابطة وتجاهل مطالب الأحباء    رياح قوية    لأول مرّة في تونس وفي القارة الإفريقية ...شاحنة سينمائية متنقلة تتسع ل 100 مقعد تجوب ولايات الجمهورية    تم جلبها من الموقع الأثري بسبيطلة: عرض قطع أثرية لأول مرّة في متحف الجهة    احداث لجنة قيادة مشتركة تونسية إيطالية للتعليم العالي والبحث العلمي    فيما آجال الاحتفاظ انتهت .. دائرة الإتهام تؤجل النظر في ملف التآمر على أمن الدولة    خلال الثلاثي الأول من 2024 .. ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية المصرّح بها    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    معرض تونس الدولي للكتاب: شركة نقل تونس توفّر حافلة لنقل الزوار    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    نقابة الصحفيين التونسيين تُدين الحكم بالسجن في حق بُوغلاب    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    توزر.. افتتاح الاحتفال الجهوي لشهر التراث بدار الثقافة حامة الجريد    سوسة: الاستعداد لتنظيم الدورة 61 لمهرجان استعراض أوسو    عاجل/ محاولة تلميذ طعن أستاذه داخل القسم: وزارة الطفولة تتدخّل    الرصد الجوّي يُحذّر من رياح قويّة    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    عاجل : هجوم بسكين على تلميذتين في فرنسا    كأس تونس لكرة القدم: تعيينات حكام مقابلات الدور السادس عشر    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    حملات توعوية بالمؤسسات التربوية حول الاقتصاد في الماء    جلسة عمل مع وفد من البنك الإفريقي    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    انخفاض متوسط في هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمئة في هذه الفترة    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    عاجل/ فاجعة جديدة تهز هذه المنطقة: يحيل زوجته على الانعاش ثم ينتحر..    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    ضربة إسرائيل الانتقامية لايران لن تتم قبل هذا الموعد..    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    زلزال بقوة 6,6 درجات بضرب غربي اليابان    عاجل/ هذه الدولة تحذر من "تسونامي"..    تركيبة المجلس الوطني للجهات والأقاليم ومهامه وأهم مراحل تركيزه    اجتماعات ربيع 2024: الوفد التونسي يلتقي بمجموعة من مسؤولي المؤسسات المالية الدولية    الحماية المدنية: 9 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    سيدي بوزيد: حجز مواد غذائية من اجل الاحتكار والمضاربة بمعتمدية الرقاب    الحماية المدنية تنتشل جثة الشاب الذي انهار عليه الرّدم في بئر بالهوارية..    ريال مدريد يفوز على مانشستر سيتي ويتأهل الى نصف نهائي رابطة أبطال أوروبا    مصر: رياح الخماسين تجتاح البلاد محملة بالذباب الصحراوي..    اليمن: سيول وفيضانات وانهيارات أرضية    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    وزير الصحة يعاين ظروف سير العمل بالمستشفى الجهوي بباجة    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تلازم التحرر والإصلاح
نشر في الوسط التونسية يوم 09 - 10 - 2009

أشرنا في الجزء الأول من هذا المقال، إلى حقيقة مؤلمة، تتمثل في أن العالم الإسلامي لا يعيش اليوم أفضل أيامه. فهو يواجه تحديات داخلية وخارجية خطيرة، نتيجة لما يعانيه من تخلفٍ علمي وتقني، وتبعيةٍ اقتصادية، وضعفٍ عسكري، وتجزئةٍ تنذر بمزيد من التفتت، واستبدادٍ سياسي مستحكم، وغطرسةٍ صهيونية عليه، وعودةِ الاستعمار إلى بعض أجزائه. وقد بات من المؤكد أن طبيعة هذه التحديات تفرض على المعنيين بتغيير حال المسلمين أن يجتهدوا في وضع الاستراتيجيات الكفيلة بالمزاوجة الذكية بين القيم الوطنية والقيم الديمقراطية، حتى تكون عملية التغيير نابعة من إرادة الشعوب وجهدها الجماعي، شاملة لكل الميادين وفعالة بحيث لا يقوى على عرقلتها أو إحباطها الأعداء.
لكن عدم اهتداء أغلب القوى الفاعلة في العالم الإسلامي إلى صيغة حكيمة تتحقق فيها تلك المزاوجة، جعل أهم محاولات التغيير والنهضة التي تمت، منذ تجربة محمد علي في مصر إلى الآن تبوء بالفشل في تحقيق الأهداف المنشودة. وقد شكل هذا الأمر مأزقا تاريخيا خطيرا يستلزم المعالجة.
وسنحاول في هذا الجزء الثاني من المقال بيان أن الخروج من هذا المأزق لا يكون بوصف مظاهره وتداعياته، وانتقاد المتورطين فيه مباشرة، وإنما يكون بفهم أسبابه، والعمل على تجوزها وتلافي تكرارها.
وإذا كانت الظواهر الإنسانية لا تنشأ كالفِطر، ضرورةَ أن لكل شيء تاريخا، فإنه لا مجال لفهم تلك الأسباب إلا بالبحث عن جذورها التاريخية، في محولات التغيير، وفي تجارب الحكم، التي عرفها العرب والمسلمون، أثناء الحقبة المعاصرة. ولا شأن لنا في هذا الحيّز بالتجارب التاريخية الضاربة في القِدم.
فعندما يلقي الدارسُ نظرة سريعة على تاريخَ العرب والمسلمين السياسي المعاصر، لن يجد عناء كبيرا ليدرك أن مأزق النهضة والتغيير هو محصلة إرث تاريخي اشترك في تحصيله جميع أبناء الأمة، كلٌّ من موقعه وبدرجةٍ ما من المسؤولية تتناسب مع ذلك الموقع.
ويكون من المفيد أن نوضح ابتداءً، من الناحية المنهجية، أن تاريخ أي تيار فكري أو سياسي عرفه التاريخ العربي الإسلامي المعاصر لا ينبغي أن يُعَدّ ملكا خاصا برواده وأتباعهم. فهو في الحقيقة ملك عام منسوب إلى الأمة كافة، بصرف النظر عن اعتبار المسؤولية التاريخية وعن مبدإ المحاسبة.
ومهما اختلفت تلك التيارات عن بعضها من حيث المضامين النظرية، ومن حيث الفعل في الواقع، ومهما نشب بين أتباعها من صراعات ومواجهات، وسقط جراء ذلك من ضحايا؛ فلابد من الإقرار بأن تلك التيارات، على اختلافها، تشكل أجزاء من تراث الأمة المعاصر. فهي ما كانت لتوجَد لولا توافر أسبابها ودواعيها في ظروفنا الاجتماعية والسياسية والثقافية. فلا فائدة إذن في أن يلعن بعضنا بعضا لمجرد الاختلاف في الرأي والانتماء، أو لمجرد اختلاف المواقع والمسؤوليات والمصالح؛ ما دامت الملامح العامة لتجاربنا التاريخية متشابهة، بل إن بعضها قد أخذ عن بعض. ولا يعني هذا رفضا للنقد. ولكن شتان بين النقد واللعن.
فمن المعروف أن كل إنسان هو نتاج عصره، وأنه يحمل كثيرا من التراث العام للأمة التي ينتمي إليها. بفعل تأثره، قليلا أو كثيرا، بكل التيارات الفكرية والتجارب السياسية التي عاصرها أو سبقته؛ لأن المرء ينفعل حتما حتى بآراء خصومه وسِيَرهم، فنراه أحيانا يعيد إنتاجها بصيغ جديدة دون أن يشعر، وإن اختلف الخطاب وتبدل المظهر.. ولو أمعن الواحد منا النظرَ في ذاته، لوجد فيها كثيرا من مواصفات أعدائه الذين أبلى الشباب في حجاجهم ومقارعتهم.
وإذا كانت وحدة الأصل والمصير الإنسانيين تقتضي تجديد النظر في مفهوم "الآخر"، أخذا بعين الاعتبار مبدأ التثاقف بين مطلق الجماعات البشرية، رغم الاختلاف الحضاري، فإن هذا التجديد يكون أوكد عندما يتعلق الأمر بمن ينتمون إلى حضارة واحدة.
عندئذ تتقلص المسافة بين "الأنا" و"الآخر" إلى حدها الأدنى، لا بل إن مجالات اللقاء والتداخل بينهما تتعدد. فمن اللائق بالجميع إذن أن يتخلوا عن منطق اللعن والتكفير والشيطنة، لأنه منطق استعلاء لا يحل أي مشكل على الإطلاق. فهو لئن شفى غل الصدور وأذهب غيض القلوب، لا يحقق الغاية الأولى من كل نقد، فيما نرى، ألا وهي: الاتعاظ واستخلاص العبر.
وعليه، فضمن البيئة الحضارية الواحدة، لا يجوز أن يُنظَر إلى النقد على أنه تعبير عن المعاداة والانتقاص والتجريح. ذلك أن نقد الآخر، إذا ما استوفى شروطه العلمية والأخلاقية، يمكن أن يكون ضربا من الحوار معه، أو هو على الأقل يمهد السبيل لذلك الحوار. فيوفر للجميع فرصة لأن يقفوا بشكل صادق مع الذات، التي هي بهذا المعنى ذاتٌ وطنية وحضارية جماعية، تتسامى على المناكفات والحسابات الفئوية وعلى التكتيكات الظرفية، ولا ترنو إلا إلى المصلحة العامة.
فلا ينقد أفكار غيره وسيَرهم وتجاربهم السياسية بهذه الغاية الإصلاحية السامية، إلا مَن لا يدّعي العصمة لنفسه، ولا يستنكف من نقد ذاته، بما يتطلبه ذلك من جرأة وشجاعة.
وإذا نظرنا إلى الموضوع بهذه الروح النقدية التاريخية نتبيّن أن سؤال العلاقة بين الوطني والديموقراطي تحديدا لم يكن وليد الساعة، بل كان حاضرا في كل لحظة من لحظات الوعي المتلاحقة، على امتداد الحقبة المعاصرة. لكن المؤسف حقا هو أن أغلب حركات التغيير التي عرفها تاريخنا المعاصر، على تنوع مرجعياتها الفكرية، واختلاف مواقعها في المجتمع والدولة، لم تحسن طرح ذلك السؤال ولا الإجابة عليه. والسبب هو عدم تشبع تلك الحركات بالثقافة الديموقراطية نتيجة لهيمنة أيديولوجية "التحرير" عليها في تلك المرحلة:
ففي أواسط القرن العشرين، لم تكن البلدان العربية والإسلامية قد استكملت بعدُ تحررها من الاستعمار المباشر. وحتى بعض البلدان التي نجحت في ذلك، فإنها لم تكن بعدُ قد استوفت شروط السيادة وبناء الدولة الوطنية. لذلك فقد استمرت أيديولوجية التحرير تشكل مرجعية ثابتة بالنسبة إلى أغلب الحركات السياسية فيها. واستمرت المواجهة مع الخارج تحتل صدارة الاهتمام لدى تلك الحركات. وبذلك تحولت مشاريع النهضة التي لطالما بشر بها المفكرون والسياسيون نظريا إلى مشاريع سلطة على مستوى التطبيق، سواء وصل أصحابها إلى سدة الحكم أو أفنوا أعمارهم في المعارضة. فقد ساد منطق "العنف الثوري" عمليا في بعض الفترات حتى في صفوف من لا علاقة لهم بفعل الثورة، وتعددت الانقلابات العسكرية، التي استباحت الحريات ووطنت الاستبداد في أكثر من بلد. ولم تعرف الأجيال العربية المعاصرة عبر التجارب السياسية التي عايشتها، بسبب هذا القصور والاختلال التصوري والاستراتيجي، تقريبا، غير الإحباط والإخفاق والهزائم المتتالية.
فلننظر في بعض تلكم التجارب من هذه الزاوية، وبدون ادعاء التأريخ لها، عسى أن نستنير حول أسباب تعطل النهضة والتغيير في تاريخنا المعاصر.
القوميون و"الثورة العرجاء"
فيما عدا الثورات التي خاضتها الشعوب العربية – ولا تزال تخوضها – ضد الاستعمار الأجنبي المباشر، بالوسائل السياسية والعسكرية المتنوعة، لم تعرف البلدان العربية في الزمن المعاصر، تقريبا، ثورات داخلية من صنع جماهيرها الشعبية الواسعة، أفضت إلى تغيير أنظمة الحكم. بل كانت أغلب عمليات التغيير السياسي، خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين، ناجمة عن انقلابات عسكرية. وكان صانعو تلك الانقلابات، في الغالب، من ذوي الميول القومية العربية، الذين تأثر عدد منهم بالطرح اليساري، إما بدافع الاقتناع الفكري، أو بحكم ارتباطهم سياسيا بالمعسكر الاشتراكي أيام كان العالم محكوما بتوازنات القطبية الثنائية.
ورغم الصبغة الفوقية لتلك الانقلابات، والطابع النخبوي للمجموعات التي قامت بها (مثل تنظيم الضباط الأحرار في مصر وليبيا، وحزب البعث في سورية والعراق)، فقد أصر أصحابها على اعتبارها "ثورات". ولعلهم وجدوا مبررا لذلك فيما لقيته مبادراتهم، خصوصا في أول عهدها، من تأييد جماهيري عفوي، كان سببه الحقيقي هو سأم الشعوب من حكامهم السابقين، وتعطشهم إلى التغيير أيا كان صانعوه؛ إضافة إلى ما قام به الانقلابيون من تحولات نوعية على مستوى أنظمة الحكم، إذ انتقل بعضها رسميا من الملكية الوراثية إلى الجمهورية؛ علاوة على السياسات الاجتماعية التي اعتمدوها، ولا سيما في مصر الناصرية، عندما اختاروا نهج التأميم الاقتصادي وأدخلوا على نظام توزيع الثروة عامة ونظام الملكية الزراعية خاصة، تغييرات ذات صبغة اشتراكية كان المراد منها تحقيق عدالة اجتماعية أكبر.
ولئن كانت تلك التحولات التي تحققت بفعل الانقلابات القومية المعاصرة – وبخاصة انقلاب 23 يوليو 1952 الناصري – ذات أثر مهم، ولا سيما على مستوى الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية للمواطن العادي، إلا أنه ثمة أكثر من سبب يدعو إلى التساؤل حول مدى نقائها الثوري وصدق فاعليها.
فعلى الرغم من محاولات الانقلابيين، في خطابهم الرسمي، إدراج مبادراتهم الاجتماعية والاقتصادية ضمن رؤيا للإصلاح الاشتراكي على المستوى الداخلي، وضمن معركة وطنية أشمل هي معركة التحرر من الاستعمار والإمبريالية والاحتلال الصهيوني، فإن الوقائع التاريخية تفيد بأن رجال الدولة كانوا هم الأكثر استفادة وإثراء من تلك المبادرات، وأنهم لم ينقطعوا عن استخدام معركة التحرر الوطني ومواجهة الأعداء الخارجيين، ذريعة للتصدي لكل مطالبة داخلية بإطلاق الحريات وإرساء الديمقراطية، ولمنع الفكر الحر، ومصادرة الإعلام المستقل، وحل الأحزاب، وتكريس حكم الفرد تحت شعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".
كان ذلك هو جوهر المشروع الناصري الذي أسفر عن وجهه منذ البداية:
إذ لم يمض عامان على نجاح انقلاب 1952 حتى بدأ عبد الناصر مسيرة احتكار السلطة، بسلسلة من الإجراءات كان أخطرها حل الأحزاب السياسية، وتنحية اللواء محمد نجيب من القيادة، وتصفية حركة "الإخوان المسلمين" التي تعاون معها أثناء التحضير للانقلاب، وكان يرى فيها أقوى سلطة مضادة داخل المجتمع المصري في تلك المرحلة.
وقد حفظت ذاكرة التاريخ عبارته الشهيرة التي اختصر فيها كل أزمة الفكر السياسي العربي المعاصر، حين قال، بعد حادثة المنشية المشبوهة، في نبرة حماسية ملتهبة: "لو خيِِّرتُ بين الثورة الحمراء والثورة العرجاء لاخترت الثورة الحمراء".
وكانت الثورة الناصرية بالفعل ثورة حمراء قانية، بدم عالم القانون وصاحب كتاب "القانون الجنائي في الإسلام" المستشار عبد القادر عودة وبدماء إخوانه من قيادات "الإخوان" الذين تم إعدامهم سنة 1954، وبعد ذلك بدماء المفكر سيد قطب وإخوانه الذين أعدِموا معه سنة 1966، وغير أولئك كثير.
لا ينازع أحد في أن "الإخوان" قد ارتكبوا في تلك الحقبة من التاريخ عدة أخطاء. لكن ذلك لا يعفي عبد الناصر من مسؤوليته التاريخية إزاء ما جرى. فقد كان هو الماسك بزمام الحكم والقادر أكثر من غيره على تشريك الجميع في تصور مستقبل البلاد والتعاون أو التداول معهم على تسيير أمورها. لكنه اعتقد راسخا أن فتح المجال أمام تنوع الآراء وتعدد الأحزاب، وتأسيس شرعية السلطة على إرادة الشعب الحرة، من شأنه أن ينتج ما سمّاه "بالعرج الثوري". وما درى – غفر الله له – أن صدوفه عن التفتح السياسي ولجوءه إلى الحلول الأمنية والتصفيات الدموية، هو عين العرج: فقد كان إقصاء المعارضة وتصفية رموزها سببا في حرمان المجتمع المصري من الاستنارة بآراء جميع أبنائه ومن الاستفادة بجهود كل الخيّرين فيه. وقد بينت التجربة الناصرية بشكل خاص، والقومية بشكل أعم، أنه لا عوض عن الديمقراطية السياسية في أي مشروع يبتغي تحقيق التحرر للوطن. وأن شرعنة القمع والاستبداد، تحت أي عنوان من العناوين، هي أكبر خدمة يمكن تقديمها لأعداء الوطن، نظرا إلى ما تسببه من فشل داخلي لا يستفيد منه إلا أولئك الأعداء.
و لا يمكن فهم هزيمة حزيران 1967 إلا في هذا السياق المجتمعي والتاريخي المصري.
و ليت الأمر اقتصر على معركة واحدة خسرها أحد أقطارنا، أو على نكسة عارضة أصابت الأمة. إذن لهان الخطب، ولَمَا عظمت الرزيّة.
لكن هزيمة العرب في حرب 1967 لم تكن، في واقع الأمر، أقل فداحة من نكبة فلسطين سنة 1948؛ سواء بما نتج عنها من توسيع دائرة الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، أو من تداعيات كارثية على المستويات النفسية والسياسية والاستراتيجية.
ولعل القوميين العرب كانوا هم الأكثر تضررا من هذه التداعيات. ففي سياق تجرع كأس الهزيمة المرة، وبعد التطورات الدولية والإقليمية الهامة التي أفرزت العولمة فيما بعد، أخذت تلك التداعيات بالنسبة إليهم شكل الانهيارات ليس على صعيد السلطة التي كانوا بمسكون بها في أكثر من بلد فحسب، ولكن على صعيد صورة المشروع القومي ذاته ومصداقيته في أذهان الناس بالخصوص.
ففي أرض الكنانة، لم يعد هذا المشروع يعتمد، بعد الإقرار بالهزيمة وانتحار وزير الدفاع عبد الحكيم عامر، إلا على القيمة الرمزية لزعيمه عبد الناصر. حتى إذا غيّب الموت الرجل، أدار أغلب رفاقه ورجال حكمه – ناهيك عن عموم شعبه – ظهورهم للمشروع. وما عاد المصريون يسمعون عن القومية العربية إلا في بعض أوساط المعارضة وعلى ألسنة بعض المثقفين. وسرعان ما دخلت مصر بقيادة ذات الزمرة من قدماء "الضباط الأحرار" تقريبا، مرحلة من"الانفتاح" الاقتصادي. واستبدل الرئيس السادات أيديولوجية "التحرير" بأيديولوجية "صلح" و"تطبيع" مع العدو. متراجعا عن عهدٍ عاش فيه الشعب المصري ومعه جميع العرب على إيقاع الشعارات التي كان عبد الناصر يلهب به مشاعر الجماهير من قبيل: "سنقاتل" و"سنلقي بإسرائيل في البحر". إلا أن هذا التخلي عن أيديولوجية "التحرير" لم يرافقه توجه نحو إصلاح سياسي. فقد تابع أنور السادات سياسة سلفه عبد الناصر القائمة على الانفراد بالسلطة. وأعرِض عن إطلاق الحريات وعن تكريس الديمقراطية إلى آخر رمق من حياته. فأرسى بذلك أصول نهج استمر من بعده، وجعل مصر إلى الآن، أي بعد تراجعها عن خياري التحرر والإصلاح معا، عاجزة عن الاضطلاع بدور فاعل في معادلة الصراع العربي الصهيوني، مكتفية بما لا يكاد يتعدى دور الوسيط الدبلوماسي بين الفرقاء؛ رغم وزنها الاستراتيجي المعتبَر في المطلق.
أما في العراق، ورغم تطاول عمر التجربة وتوافر مصادر الثروة وأسباب القوة نسبيا، فلم يعِ صدّام حسين الدرس. إذ ظل، رحمه الله، رغم استمساكه بمبدإ "التحرير"، رافضا لأي إصلاح سياسي أو انفتاح حقيقي على شعبه. وراح يكرس تصورا مغلوطا لمعنى التحرير، بشن الحروب تلو الحروب مع الخارج (ضد إيران ثم الكويت)؛ ويصنع الأعداء حتى من داخل أمته وبني قومه. ولم يقتصد قط في استثارة قوى الغرب العظمى واستفزازها، قبل أن يستكمل شروط مِنعته وقوة ردعه. حتى إذا ما غزته الجيوش الأجنبية، لم يقوَ عسكره وأركان دولته على الصمود في وجهها أكثر من أسابيع ثلاثة، انهار بعدها نظامه وعمّت المآسي الدامية كل أرجاء البلد. ولم يكن سقوط بغداد في أيدي الغزاة إلا بسبب كون الأحزاب والمجموعات العراقية، التي كان صدّام يواجهها بالحديد والنار، قد ضاقت به وبحزب البعث ذرعا، وتورطت بالتالي في التآمر مع الخارج وطلب النصرة والحماية من المحتلين. ومن المؤكد أن العراق اليوم هو أبعد ما يكون عن الصورة التي أراد قادته البعثيون السابقون أن يكون عليها أي: "بوابة شرقية منيعة للأمة العربية".
وأمام هول الأحداث العراقية، سارع قادة المشروع القومي في ليبيا إلى رفع الراية البيضاء. ففي مبادرة أقل ما يقال عنها إنها جعلت الحليم حيران، أعلنوا تخليهم "التلقائي" وغير المشروط عن طموحهم النووي. وقاموا بتسليم ما اقتنوا من معدات أولية لإنجاز ذلك الطموح إلى أعداء الأمس، على طبق من فضة؛ في محاولة منهم لإقناع أولئك الأعداء بصدق نواياهم. .
ولولا إيواء قادة دمشق إلى ركن إيران الشديد، وتترّسهم بمحور إقليمي مقاوم يحتل الإسلاميون فيه مواقع أساسية، لاضطر نظام البعث السوري، هو الآخر، خاصة فيما يتعلق بالملف الداخلي والملف الفلسطيني، إلى القيام بتراجعات أخطر من تلك التي قام بها إلى حد الآن في لبنان.
ونظرا إلى أن هذه السلسلة من الهزائم والانهيارات والتراجعات قد حصلت في أقطار ظلت لعقود طويلة تحت حكم القوميين، فإن هؤلاء كانوا هم الأكثر تضررا منها؛ إلا أن آثارها السلبية لم تبق محصورة ضمن حدود المشروع القومي والوجود الموضوعي للتيار القومي العربي في المنطقة. بل تجاوزت تلك الحدود إلى جسم الأمة العام. فأنت تلمس مظاهرها في خيبة الأمل الجماعية، والشعور بالخذلان والإحباط الذي غزا أنفس أوسع القطاعات من جيل اليوم. لاسيما بعد أن نجح الأعداء في إزاحة دولتين من أهم دول المشرق العربي – هما مصر والعراق – بأسلوبين مختلفين، من معادلة الصراع المركزي مع الكيان الصهيوني؛ ودفعوا أغلب الدول الباقية، إن لم يكن إلى التطبيع مع العدو، فعلى الأقل إلى الحياد واللامبالاة. وتلك خدمة جليلة لمشروع الهيمنة الصهيو- أمريكي على منطقنا، وضربة قوية لتطلعات تحررنا ونهضتنا.
والخلاصة أن الإخفاق الذريع الذي آل إليه المشروع القومي العربي المعاصر يعود في الجوهر إلى انزلاقه نحو تصور جزئي للتغيير لا تتلازم فيه الأبعاد السياسية والاجتماعية والحضارية، ولا تتكامل. خصوصا بعد أن حوله السياسيون على مستوى التطبيق إلى مشروع ضيق للسلطة، في حين أن رواده أرادوه مشروعا شاملا للنهضة؛ واختزله زعماؤه في دولة قطرية تمنحهم الهيبة، بينما كان أسمى أهدافه هو تحقيق الوحدة. ولما كانت سلطة أولئك الساسة والزعماء مؤسسة على التسلط لا على الشرعية الانتخابية، فقد أخفقوا في أن يكفلوا لها أسباب الديمومة والاستمرار، ناهيك عن تسخيرها للتحرر وتحصين الأوطان من عودة الاستعمار. وهذا ما ينبغي أن يكون موضوع تأمل نقدي عميق يتحتم على الجميع، وبخاصة على أهل الرأي في التيار القومي، أن يقوموا به. ونحسب أنه من المفيد أن تشمل المراجعة ما وقعت فيه التجارب القومية من أخطاء تاريخية مشتركة أهمها:
1- الاعتماد على الانقلابات العسكرية في عملية التغيير.
2- القصور الجوهري في تصور المسألة الديمقراطية، والعجز عن الإصلاح السياسي الفعلي.
3- عدم الاستنادها النظري إلى رؤيا شاملة للتغيير، تتلازم فيها كل الأبعاد.
4- الانخراط في معركة غير مبررة ضد الإسلاميين، على خلفية معركة مع الإسلام ذاته، افتعلها فريق من القوميين العلمانيين الأوائل، في المشرق العربي على وجه التحديد.
وليس المطلوب أن تفضي المراجعة إلى مزيد من التبرير أو الترميم، لأن المجال ليس مجال محاسبة وجزاء؛ ولأن طبيعة أوضاعنا العامة والتحديات المصيرية المطروحة على أمتنا لا تحتمل الحلول الجزئية والمخارج الظرفية.
إنما المطلوب هو إعادة تأسيسٍ نظري لكامل المشروع إذا أريد له أن يستمر في الحياة. ومن الضروري أن تبدأ هذه العملية بإعادة النظر في مفرداتٍ ومفاهيمَ ما عادت قابلة للتداول عربيا وإسلاميا وإنسانيا. ولا مفر، في هذا المضمار، من مراجعة أسلوب النمذجة واختزال الرهانات المصيرية داخل شعارات جامدة، يتم تنزيلها منازل الاستراتيجيات الكبرى التي يحتد حولها الخلاف دون أن تجد أدنى ترجمة لها في الواقع، على غرار شعاري "و ح ش" و"ح ش و": اللذين كانت الفصائل القومية المتناحرة، تتنازع تحت رايتيهما حول أولويات ترتيب كل من الوحدة (و) والحرية (ح) والاشتراكية (ِش(.
ولعل أغلب أهل الرأي من القوميين العرب باتوا يدركون اليوم أن فكرة الوحدة العربية، التي هي جوهر المشروع القومي وأنبل ما فيه من طموح تحرري ونهضوي، لا ينبغي أن تكون محتكَرة من قِبل أحد. فبالإضافة إلى كونها مقوما من المقومات التاريخية لهوية الأمة، فإنها ضرورة حيوية، لا يستمر وجود الأمة في الحاضر والمستقبل، ولا تتحقق نهضتها إلا بتحققها. لذلك ينبغي أن يعمل الجميع على أن تكون الوحدة هدفا مشتركا ومطلبا جماعيا لا نزاع حوله، بالتجرد عن كل انتماء فكري أو سياسي أو ديني. لكن يجب أن يقتنع الجميع أيضا بأن المسألة لا تتعلق بمجرد شعار مطلبي. بل هي مسألة مشروع، والنجاح في إنجاز هذا المشروع يتوقف على توافر شرطين أساسيين هما:
1- حسن صياغته استراتيجيا: خاصة فيما يتعلق بمرحليته، وآليات إنجازه، وشمولية أبعاده وتكاملها فيما بينها.
2- عدم بقائه أسيرا للأدلجة والتحزب والرؤى السلطوية الضيقة: ويكون ذلك بتأسيسه على رؤية نهضوية، ومواءمته، بصدقٍ وإبداع، مع قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان ومبادئ الإسلام الحضارية السامية. والمأمول أن يكون كل من "مركز دراسات الوحدة العربية" و"المؤتمر القومي الإسلامي" إطارين مؤهلين يتكاملان في تحقيق ذلك.
يسار السبعينات بين "الوَطَد" و"الدَّوَط"
رغم اختلاف المرجعيات القومية واليسارية عن بعضها، وتميز تجارب الفعل السياسي لكلا التيارين القومي واليساري في العالم الإسلامي بخصوصيات ميدانية لا تنكَر، فإن المرء لا يكاد يلحظ فوارق جوهرية بين عموم تلك التجارب، فيما يتعلق بأحادية الرؤيا وانعدام التلازم بين أبعاد التغيير ومستلزماته، لديها جميعا. ولعل أهم فارق بين النوعين من التجارب، في هذا المستوى، يكمن فيما بدا من حركية فكرية وسياسية صلب تجربة اليسار، مقابل ثبات فكري وسياسي نسبي ميز عموم التجربة القومية، رغم حصول بعض الانشقاقات تنظيمية. وقد تجسدت تلك الحركية في محاولات إصلاح كان رهانها الأساسي هو ترتيب العلاقة بين المسألة: الوطنية/ التحررية من جهة، والمسألة الديمقراطية/ الإصلاحية من جهة أخرى. فلننظر إلى ما آلت إليه تلك المحاولات:
من المعروف أن المذهب الشيوعي لم يظهر إلى الوجود إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، انطلاقا من أوروبا. لكن الأفكار الشيوعية دخلت العالم الإسلامي في وقت مبكر نسبيا. فهي قد تسربت، منذ السنوات الأولى للقرن العشرين، إلى الأجزاء القريبة جغرافيا من القارة الأوروبية، وبخاصة تلك التي كان تأثرها بالثقافة الغربية أوثق، مثل المغرب العربي والشام، بحكم خضوع هاتين المنطقتين للاستعمار الفرنسي الذي أولى المسألة الثقافية اهتماما خاصا. وكان للجاليات الأجنبية التي استوطنت في تلك الأجزاء دور أساسي في نقل تلك الأفكار. وهذا ما يفسر أن كثيرا من قيادات الأحزاب والتنظيمات الشيوعية كانوا من الأجانب أو من أفراد الجاليات اليهودية، وأن ولاءهم كثيرا ما كان لجهات وتنظيمات تابعة للميتروبول الاستعماري.
فقد بيّن المؤرخ التونسي مصطفى كريّم في أطروحته الجامعية التي درس فيها تاريخ الحزب الشيوعي التونسي مثلا، أن سياسات هذا الحزب ومواقفه كانت، في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته، تابعة لسياسات الحزب الشيوعي الفرنسي ولمواقفه فيما يتعلق بجميع القضايا، بما في ذلك الموقف من قضية التحرر الوطني: إذ كان الشيوعيون التونسيون الأوائل لا يناصرون الكفاح الوطني ضد الاستعمار. بل كانوا يعتبرون الحركة الوطنية خاضعة لقيادة "برجوازية صغرى" تتناقض مصالحها مع مصالح الطبقة العمالية التي كانت تشكل سواد الشعب الأعظم، وكانوا بالتالي يجعلون تحرر تونس مرتهنا بتحرر الطبقة البروليتارية الفرنسية، وبافتكاكها زمام الحكم في بلادها. ولم تكن مواقف أغلب الأحزاب الشيوعية العربية آنذاك تختلف عن هذا كثيرا.
لكن تلك المواقف غير الوطنية، النابعة من قراءة ضيقة الآفاق للأيديولوجية الماركسية، لم تصمد كثيرا داخل مجتمعات كانت معبأة ضد الاستعمار. فقد استهجنها في حينها جمهور الأمة العربض، الذي اعتبر الأحزاب الشيوعية العربية أجزاء من النسيج المؤسساتي الكولونيالي، ورأى في الأفكار التي كانت تدعو إليها امتدادا للغزو الثقافي الأجنبي. فكيف يستسيغ المواطن الفلسطيني العادي مثلا، أن ينخرط شاب أو مثقف فلسطيني مثله في حزب "راكاح" الشيوعي الإسرائيلي الذي ينتمي عضويا إلى دولة الكيان الغاصب ويواليها، بدعوى "أممية النضال البروليتاري"؟ وكيف يقبل أي أفغاني أو أي مسلم حقيقي في العالم أن يشارك الشيوعيون الأفغان ماديا في غزو بلادهم من قبل الجيش السوفييتي عام 1979، أو أن تنظر الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية والإسلامية إلى ذلك الغزو الاستعماري البربري على أنه مندرج ضمن "تحرير الشعوب"؟ ومن جهة أخرى، فقد اضطرت الأحداث جل قيادات تلك الأحزاب إلى القيام بنقد ذاتي وبمراجعات تدريجية أفضت في معظمها إلى الابتعاد عن مواقف المؤسسين كثيرا أو قليلا، بعد أن أخفقت محاولات تبرير تلك المواقف وتلطيفها في إخفاء حقيقة تقاطعها مع مصالح المستعمر وولائها الموضوعي له.
فمنذ التأسيس الأول إذن، شكلت المواءمة بين المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية أكبر اختبار جدي واجهه المشروع اليساري في العالمين العربي والإسلامي. وكان لكثافة الحضور الأجنبي داخل الأحزاب الشيوعية العربية، علاوة على نمطية التحليل الطبقي الذي ارتكز عليه ذلك المشروع، دور حاسم في استهانة تلك الأحزاب بقضية التحرر من الاستعمار. لكن رجحان كفة حركات المقاومة وانتصاراتها المتتالية من جهة، وظهور النموذج الصيني، من جهة أخرى، كسرا الاحتكار السوفييتي لقيادة اليسار في البلاد العربية والإسلامية، فكرا وتنظيما. ولم تعد الأحزاب الشيوعية العربية تمثل، في زمن قيادة خروتشيف للكرملين، إلا تيارا أقليا، ضمن حركة اليسار العامة؛ بعد أن انسلخ أغلب أعضائها عن الإرث التاريخي غير الوطني للشيوعيين الأوائل، وصاروا يديرون الظهور لموسكو، ويولّون الوجوه شطر بيكين.
والجدير بالذكر هنا أن ما شهدته الساحة اليسارية في عالمنا الإسلامي من حركية فكرية وتنظيمية عبر تاريخها، لم تكن محكومة بالاعتبارات المحلية والوطنية، بقدر ما كانت في الغالب تمثل رجع صدى للتطورات التي كانت تحصل داخل الأحزاب الشيوعية في كل من الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية وأوروبا. لذلك فإنه ما من تيار أو جناح برز صلب تلك الأحزاب الأجنبية، أو انشق عنها، إلا وظهر نظير له، على الأثر، في أكثر من بلد إسلامي. وذلك ما جعل الساحة اليسارية في العالم الإسلامي، منذ خمسينات القرن الماضي، لا تحتكرها الأحزاب الشيوعية الموالية للاتحاد السوفييتي، بل تعدد فيها المجموعات بتعدد العناوين الماركسية اللينينية والتروتسكية والماوية والفينغية وغيرها.
في ظل هذا الحراك السياسي والتنظيمي، نشب داخل اليسار المحلي خلاف حاد كان موضوعه الأساسي مواقف الأحزاب الشيوعية من المسألة الوطنية ومن الاستقلال.
فرغم عدم انخراط قدماء الشيوعيين الموالين للاتحاد السوفييتي بفاعلية في معارك الكفاح التحرري– كما تقدم بيان ذلك – وانحصار أنشطتهم، في الغالب، ضمن الدعاية لعقائدهم وأحزابهم، والمشاركة في العمل النقابي، إلا أنهم سرعان ما أقروا بحقيقة الاستقلالات الوطنية التي آل إليها ذلك الكفاح، وبادروا إلى الاستفادة بثمارها، بأن شاركوا بكل ثقلهم تقريبا في كل الانتخابات التي انتظمت في البلدان التي كان فيها للأحزاب الشيوعية وجود فعلي أو قانوني مثل تونس وسورية ولبنان والمغرب وغيرها. وقد استند الشيوعيون في تبرير تلك المشاركات إلى رؤيا تحليلية خلاصتها أن مرحلة ما بعد الاستقلال هي مرحلة "تحرر ديمقراطي" تقتضي الانخراط في المنتظم القانوني والاستفادة من المنافسة التعددية. وهو ما بدا للكثيرين، خصوصا من داخل اليسار، مناقضا لأصول المذهب الشيوعي المادية التاريخية.
وهذا ما دعا أنصار التيار الماوي إلى انتقاد الأحزاب الشيوعية، ونزع صفة اليسار عنها، ونعتنها "باليمين التحريفي"؛ بناء على أن مرحلة ما بعد الاستقلال، في نظر هؤلاء الماويين، تبقى مرحلة "تحرر وطني"، وأن المهام المطروحة على القوى الوطنية بعد "ما يسمى بالاستقلال"، حسب تعبيرهم، ينبغي أن تكون مهاما ثورية ذات مضمون اجتماعي وأهداف اشتراكية. فلا مجال عندهم للإقرار بأن مجرد التوقيع علي وثيقة الاستقلال يمثل استقلالا حقيقيا؛ ولا مجال للقبول نظريا بديمقراطية بالمعنى السياسي القائم على تعدد الأحزاب. وكل محاولة لإقامة ديمقراطية بهذا المعنى، في ظل الواقع الاجتماعي والسياسي السائد، كانوا ينظرون إليها على أنها محاولة برجوازية لا تصب إلا في خدمة الرأسمالية والإمبريالية العالمية. فالديمقراطية، وفق هذه الرؤيا الثورية، هي في الجوهر مشروع لإعادة صياغة العلاقات الاجتماعية بعيدا عن التفاوت الطبقي، عبر إعادة توزيع الثورة الاقتصادية.
فإذا أخذنا اليسار التونسي مثالا معبّرا عن واقع اليسار وتطوراته في عموم الوطن العربي والعالم الإسلامي، نلحظ أن الماويين قد اختاروا لأنفسهم في مرحلة السبعينات اسم "الوطنيين الديمقراطيين" (و اختصارها "الوَطَد")، تأكيدا منهم على أولوية مسألة التحرر الوطني بالنسبة إلى المسألة الديمقراطية.
و كان أنصار الحزب الشيوعي يدافعون عن سلامة اختياراتهم في وجه هذه الانتقادات، ويتهمون الماويين بأنهم "دوغمائيون" لا يُحسنون فهم الماركسية في جدليتها مع الواقع المتغير.
و لعل أشد ما تأذى منه أنصار الحزب الشيوعي هو إصرار "الوطنيين الديمقراطيين " على أن يقصوهم من عائلة اليسار، ويصنفوهم ضمن اليمين. فكان ردهم على ذلك بالمثل: إذ أنكروا على "الوطد" نزوعهم إلى احتكار لقب اليسار، واعتبروا أن فهمهم الحرْفي للماركسية، وممارساتهم الميدانية العنيفة والمتهورة، حسب تعبيرهم، إنما تحشرهم ضمن خانة "اليسراويين " (les gauchistes)، وذلك على وجه الاستخفاف والتحقير.
وقد شهد جيلي من الطلاب، في سبعينات القرن الماضي، عينات من المواجهات الدامية التي كانت تدور رحاها بين التيارين المتقابلين في رحاب الجامعة التونسية.
ولم تكن تلك إلا صورة لما كان يحصل على نطاق أوسع في البلدان العربية والإسلامية، كانعكاس للتفاعلات الداخلية التي كانت تجري صلب اليسار على صعيد عالمي أشمل.
لكن الفكر الماوي انتهى في الأخير إلى اكتساح العقول وبسط نفوذه في صفوف الشباب بشكل خاص، لاسيما في نصف السبعينات الأول. فهو قد هيمن على التنظيمات النقابية والطلابية، وحاول أنصاره إشاعة أجواء من التعبئة الثورية، مستفيدين من عدة عوامل محلية، منها تصاعد حدة الصراع الاجتماعي، وموجة انفتاح أغلب الأنظمة العربية على الاشتراكية؛ ومتفاعلين مع عدة أحداث دولية منها حرب فيتنام، وانتفاضة ماي 1968 الشبابية في فرنسا، إضافة إلى ما ارتكبه الاتحاد السوفييتي من أخطاء داخلية (جسدتها فضائح معسكرات الاعتقال في الغولاك) ومن تدخلات عسكرية في الخارج (المجر سنة 1956، وتشيكوسلوفاكيا سنة 1967، ثم أفغانستان سنة 1979) هزت صورته كنصير للشعوب المناضلة من أجل التحرر، وفتحت الأبواب أمام الصينَ لكي تبرز كزعامة اشتراكية بديلة وأكثر نقاء.
على أن تيار "الوطد" لم يكن، هو الآخر، بمنجاة من تصدعاتٍ وانشقاقاتٍ حدثت داخله لاحقا: وإذا ضربنا صفحا عن تفاصيل الانشقاق الجزئي الذي أقدمت عليه إحدى المجموعات التي كانت توقع بياناتها بإمضاء "وطنيين ديمقراطيين" واختصارُها "وطد"، (بدون ألِفِ ولاَمِ التعريف)؛ يمكن اعتبار أن أهم تلك الانشقاقات كان ذلك الذي شكل صدى محليا للإصلاحات التي بدأت في الصين خلال النصف الثاني من السبعينات (سنة 1977 تحديدا) بقيادة هوا كو فينغ، واستمرت في عهد خليفته دينغ سياو بينغ. إذ تم إلغاء الثورة الثقافية، وتوخي بعض المرونة السياسية، والانفتاح على الغرب، وإدخال جرعة من الليبرالية في المجال الاقتصادي، ومحاربة كل رموز الحقبة الماوية.
وبرزت في تلك الفترة نظرية "العوالم الثلاثة" واضعة حدا لفكرة حصر الصراع بين العالم الرأسمالي الإمبريالي، والعالم الاشتراكي. فاستهوت كثيرا من الشباب اليساري الذي لم يعد يرى في الاتحاد السوفييتي جزء من العالم الاشتراكي، بل صار ينظر إليه باعتباره يمثل "رأسمالية الدولة"، وينتقد انحرافاته المتزايدة وتوسعه الإمبريالي على حساب الشعوب.
وراح هؤلاء الشباب، في المقابل، يطورون رؤى جديدة تحاول النزول من سماء الأحلام الطوباوية، والخروج من نمطية التحليل الطبقي الذي يقول بحتمية الثورة البروليتارية؛ ويدعون في المقابل إلى منهج في التغيير يلتزم الواقعية ويأخذ بأسباب الإصلاح التدريجي، ويراعي المعطيات والتوازنات المحلية.
ويبدو أن إخفاقات التجربة الميدانية داخليا، وحالة التراجع التي بدأت ملامحها تظهر على عموم المشروع الاشتراكي في العالم، فكرا وممارسة، جعلت اليساريين العرب – ولاسيما أولئك الذين يقفون إلى يسار الأحزاب الشيوعية – يقتنعون إذاك بأن العمل الثوري لم يعد من ورائه طائل، وأن الثورة، بما تحمل من مدلولاتِ تحرر اجتماعي ووطني ستبقى شعارا أجوف ما لم يتم البدء عمليا بالإصلاح السياسي واختراق جدار الدول القائمة. ومن هنا حصل التغيير في ترتيب الأولويات لدى أنصار هذا التيار، ولم يعودوا يستنكفون من تبني الديمقراطية السياسية. فأطلقوا على أنفسهم، في تونس على سبيل المثال، اسم "الديمقراطيين الوطنيين" (واختصارها "الدّوَط("
في مواجهة هذا الانشقاق الخطير الذي وَجد له دعاة وأنصارا كُثرا في صفوف قدماء الماركسيين الذين أنهكتهم المسيرة، لجأ أقصى اليسار المنضوي تحت لواء "الوطد" إلى أساليبه الإقصائية المعهودة، فألحق المنشقين عنه بخانة "اليمين". وحتى يتم تمييزهم عن أتباع "اليمين القديم"، ممثلين في الشيوعيين الموالين لموسكو، أطلق عليهم اسم"اليمين الجديد"، للتدقيق. وخاض ضدهم عدة حملات فضح وتشويه وعدة جولات من المواجهة العنيفة داخل الجامعات، وفي النقابات العمالية، وعلى ساحات العمل العام. إلا أن "الدّوَط" ثبتوا على نهجهم الجديد ومضوا عمليا في نقل مقاربتهم الإصلاحية إلى حيز التنفيذ.
لكن تجدر الملاحظة أن "الديمقراطيين الوطنيين" لم يعتمدوا في مسعاهم الإصلاحي على صيغة إنشاء الأحزاب العلنية، التي تناضل من أجل الاعتراف القانوني، وتثرى الواقع التعددي، وتكرس الممارسة الديمقراطية على الميدان. وإنما اتجهوا نحو أسلوب آخر قوامه الاقتراب من نظام الحكم واختراق مؤسساته. وذلك بانخراط عناصرهم بصفاتهم الشخصية في الحزب الحاكم من أجل دعم ما كانوا يعتبرونه "تيارا ديمقراطيا" داخله، ومحاولة إنفاذ رؤاهم وبرامجهم من خلال أجهزة الدولة.
وعلى أبواب القرن الحادي والعشرين، تشكل في عدد غير قليل من البلدان العربية نظراء "للديمقراطيين الوطنيين" نهجوا ذات النهج، وتسنى لهم فعلا أن يتقلدوا عدة مناصب إدارية ووزارية، وأن يحتلوا عدة مواقع قرار وتنفيذ العليا. مما بات يشكل ظاهرة بارزة في واقع السياسة العربية المعاصرة. وقد اختلف المحللون في توصيف هذه الظاهرة باختلاف البلدان وتنوع زوايا النظر:
فمنهم من ذهب إلى نعتها بظاهرة "اليسار الانتهازي" الذي لم يستبْقِ من مرجعيته الأيديولوجية، بعد إخفاقاته الاجتماعية والسياسية، إلا روحها العلمانية، فراح يمجد الأيديولوجيات التي تشاطره هذه الروح، (مثل الكمالية في تركيا والبورقيبية في تونس). ولم يمنعه جفاء تلك الإيديولوجيات التاريخي للديمقراطية وعداؤها المتأصل لليسار، من أن يضفي عليها صفة "التقدمية"، ويتحالف مع أتباعها من أجل القفز إلى مواقع السلطة بأيسر السبل: أي بدون الخضوع لحكم صناديق الاقتراع، بعد أن يئس من أيّ حظ له فيها، بحكم أفول نجمه وانحسار شعبيته.
وذهب آخرون إلى وضع المسألة ضمن إطار دولي أشمل، معتبرين أن الظاهرة لا تزيد على كونها مخلفا موضوعيا من مخلفات الاستعمار، وأنها تمثل "حصان معركة" تستغله جهات أجنبية للتدخل في الشؤون الداخلية لأوطاننا. وقد شاع هذا التحليل خاصة في عدة أوساط سياسية وإعلامية جزائرية أطلقت على المنتمين إلى هذه الظاهرة أسماء عديدة من قبيل: "الطابور الخامس" و"اليسار المتفرنس"، وحشرتهم ضمن تيار أوسع اعتاد الجزائريون على تسميته "بحزب فرنسا"|...
وبصرف النظر عما لهذه النعوت والتسميات من حيثيات سياسية وأيديولوجية تجعلها كلها قابلة للمناقشة وعرضة للتحفظ والاحتراز في بعض الحالات، نحسب أنه لا خلاف حول الحقائق الموضوعية التالية:
- الأولى هي: أنه في ظل انحسار المد اليساري وتراجع نفوذ الأيديولوجية الماركسية في المنطقة العربية تبعا لتراجعها على المستوى الكوني بشكل أعم، (بعد الإخفاق التاريخي الذي حاق بتطبيقات هذه الأيديولوجية وكان من تداعياته انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة رسميا)، قام تيار واسع في اليسار بمراجعات كبيرة، انتهت به، على المستوى السياسي، إلى عدم الاستمرار في إقامة علاقاته بالأنظمة الشمولية على مبدأي التناقض والصراع، وبناء علاقات جديدة تقوم على مبدإ التفاعل الإيجابي أو ما يمكن تسميته "بالتعاون"(collaboration). لذلك فالأقرب إلى الموضوعية أن يُنعَت أنصار هذا التوجه "بالتعاونيين " (collaborationnistes)، أو "المتعاونين" (collaborateurs) مع الأنظمة.
- والثانية هي: أن كثيرا من عناصر هذا التيار كانوا أشد صرامة، ودفعوا بمراجعاتهم إلى أقضاها. فانتهوا إلى الانقلاب على عقائدهم الماركسية، والانخراط في الدفاع عن "الليبرالية الجديدة"، ليس باعتبارها فضاء للحريات وحسب – وإلا لكان في الأمر ما يسوّغه على جهة المصلحة – وإنما باعتبارها في نظرهم أيديولوجية بديلة، أثبتت جدارتها، وحققت انتصارها.
-والثالثة هي: أن هذه التجربة "التعاونية" لم تكن صنيعة أفراد معزولين، بل كانت ثمرة عمل جماعي متروّ، تزعمته شخصيات بارزة، وتوزعت فيه الأدوار، وشاركت فيه أغلب الفعاليات والتنظيمات اليسارية، ولو من طرف خفي، بما في ذلك الأحزاب الشيوعية التي لئن أبدت خطابا معارضا وغير متعاون أحيانا، إلا أنها لم تقاوم وشائج القربى الفكرية التي تربطها بالمتعاونين مع الأنظمة، ولم تتردد في دعم تجاربهم بشكل عملي ولكنه غير رسمي. عدا بعض الاستثناءات التي كانت أكثر جرأة: على غرار الحزب الشيوعي السوري الذي رفض ازدواجية الخطاب، واختار، بلا مواربة، أن يشارك في "الجبهة الوطنية التقدمية" الحاكمة التي يقودها حزب البعث إلى اليوم؛ والحزب الشيوعي العراقي الذي شارك في كل مراحل السلطة المتعاونة مع المحتل الأمريكي والأجنبي منذ سنة 2003، وبدء من "مجلس الحكم الانتقالي" الذي قاده بول بريمر ذائع السيط.
-أما الحقيقة الرابعة فهي: أن تجربة "اليسار المتعاون" في الإصلاح من داخل الأنظمة القائمة، لم تفضِ، من حيث النتيجة، إلى إصلاح ديمقراطي حقيقي، ولم توسّع مجال حرية الرأي والتعبير والتنظيم الجمعوي والحزبي، ناهيك عن إسهامها في تأسيس الأنظمة على الشرعية الانتخابية. وإنما ساهمت، على العكس من ذلك، في دعم الطابع الشمولي لكثير من أنظمة الحكم العربية التي استفادت من خبرات مَن "التحق بها" من اليسار، (وفق منطقها)، واستخدمتهم "رأس حربة" ضد معارضيها بمختلف أطيافهم. وقد لعب "متعاونو اليسار" لعبة الحكومات، كما يقال. وكان لهم دور فاعل في التصدي للظاهرة الإسلامية، ومحاولة "تجفيف منابعها" و"استئصالها". وذهب بهم تواطؤهم، في بعض البلدان، إلى حد المشاركة في تعطيل الديمقراطية لمنع الإسلاميين من دخول المنتظم القانوني، بدعوى أنهم يشكلون خطرا على "المكاسب التقدمية".
لكن من اللازم أن نستدرك بالقول إن الساحة اليسارية لم تنخرط بقضها وقضيضها في هذا المسار الذي تعدى التعاون إلى التواطؤ مع أنظمة الحكم الشمولية. لا بل هي لم تعدم شخصيات وتنظيمات عملت من مواقع المعارضة والنضال، وسعت إلى الإصلاح بالأساليب الديمقراطية الحقيقية (مثل التجمع الوحدوي الاشتراكي في مصر، والحزب الديمقراطي الوحدوي في تونس، والاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية في المغرب، وما شاكلها أو كان حتى إلى يسارها في بلدان أخرى). ومن المفارقات اللافتة في هذا السياق، أن بعض تنظيمات أقصى اليسار التي كانت في السبعينات ترفض القبول بالديمقراطية في بعدها السياسي التعددي، انتهت في الأخير إلى التشكل ضمن أحزاب تمارس حق المعارضة السياسية وفق أصولها القانونية) على غرار حزب العمال الذي تقوده لويزة حنون في الجزائر، وهو من الأحزاب المرخَّص لها؛ وحزب العمال الشيوعي التونسي، الذي يطالب بالاعتراف به قانونا.)
ولا نمر إلى الاستخلاص دون أن نوضح أن ما تضمنته الفقرات السابقة من تقصّ لمراحل تطور الحركة اليسارية، مع تركيز خاص على التجربة التونسية، لا يشكل دراسة شاملة وتفصيلية لتجارب اليسار في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ما في ذلك شك. لأن عملا من هذا القبيل لا يسعه هذا المقال. لكن حسبنا، أننا سلطنا بعض الضوء على ملمح من ملامح هذه التجارب، تبدّت من خلاله أطوار المخاض الطويل الذي عاشه اليسار في محاولاته المتنوعة لاقتباس مبادئ الإصلاح الديمقراطي، وإيجاد صيغ عملية للتأليف بين مقتضيات تلك المبادئ وبين الالتزام بواجب التحرر الوطني والاجتماعي الذي تمليه المرجعية اليسارية. وقد أمكن أن ندرك أن تلك المحاولات قد أسفرت عن ظهور إشكاليات نظرية وتحديات عملية جديدة، ظل اليسار يواجهها إلى اليوم، مثله كمثل بقية تيارات التغيير في أمتنا.
والخلاصة أن ما آلت إليه تلك التجارب من اندفاع أوسع قطاعات اليسار نحو التعاون مع الأنظمة القائمة ومشاركتها السلطة، لم يكن أقل تخييبا للآمال من تجارب المجموعات اليسارية التي سبق أن وصلت إلى الحكم في العالم الإسلامي عن طريق القوة؛ وذلك في بلدان مثل العراق في عهد عبد الكريم قاسم، والسودان على إثر حركة مايو 1969 الانقلابية، وألبانيا قي عهد أنور خوجة، واليمن الجنوبي في عهد عبد الفتاح إسماعيل ورفاقه الاشتراكيين، وأفغانستان في عهد بابراك كارمل ومَن خلفه من الشيوعيين من بعده. . فسواء كان الوصول إلى الحكم بواسطة الانقلاب، أو كان عن طريق وضع البيض في سلة الأنظمة القائمة، كما يقال، فإن الحصيلة العملية كانت هي ذاتها: مجافاة الشرعية، ضرب الحريات، تعميق التمحور الخارجي، انتشار الفقر والإخفاق في مجال التنمية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أدرك "اليسار المتعاون" وجميع من ساند تجربته أن التخلي عن نظرية "ديكتاتورية البروليتاريا" بعد أن لم يعد منطقها قابلا للتسويق، ليس كافيا لأن يشكل وحده منهجا للإصلاح الديمقراطي، حتى وإن صدقت النوايا؛ وأن التحلي بلبوس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لئن صلح لأن يوفر إطارا نظريا سليما للإصلاح، بصرف النظر عن مرجعيتها الليبرالية، فإن تحقيق أهدافه يستلزم أدوات عمل تنطلق من روح الإعلان ونصه، وتتناسب مع طبيعته. وليس من هذه الأدوات السعيُ إلى علمنة المجتمعات ولا المراهنة على أنظمة ترفض حتى الإقرار بوجود فساد سياسي أو اقتصادي ما، رغم أن روائح ذلك الفساد تكاد تزكم الأنوف أحيانا: فقد رأينا حجم الجدل الذي سببه عرض ورقة الإصلاح على قادة الدول العربية في إحدى قممهم التي عُقدت في تونس، والتي اضطرت إلى أن يتم انعقادها، بسبب ذلك، على مرتين. إذ بلغ هذا الجدل حدا من التوجس جعل أغلب تلك الدول ترفض مصطلح "الإصلاح" وتستعيض عنه بعبارة "التطوير والتحديث". فهل يبقى من أمل، إزاء هذا الإفراط في الحساسية من مجرد المصطلح، في أن يفضي تطعيم الحكومات القائمة بفعاليات من اليسار إلى أي إصلاح حقيقي؟ هذا في حال كانت تلك الفعاليات تحمل فعلا مشروعا للإصلاح.
إذ بدل أن يسعى اليسار إلى التأثير في الحكومات التي تعاون معها، ودفعها نحو القيام بإصلاحات حقيقية في الداخل، ومساعدتها على مجابهة الضغوط الخارجية المتعاظمة عليها في زمن العولمة وهيمنة القطب الواحد، لاحظنا أن التأثير كان في الاتجاه المعاكس. فقد جرّت تلك الحكومات مَن تعاون معها من اليسار إلى الانخراط في سياساتها، بعد أن أبعدتهم عن مواقع القرار ذات الصلة بالإصلاح الديمقراطي، وأغرتهم بالمشاركة في السلطة من مواقع ومناصب يغلب عليها الطابع الأيديولوجي. فعضوا على الطُّعم. واتخذوا من تلك المواقع وسائل لتصفية حسابات قديمة مع الإسلاميين، في سياق ما عُرف بسياسة "مقاومة التطرف والإرهاب". وقد جعلتهم هذه التجربة السياسية يبتعدون كثيرا عن ثقافة المقاومة الحقيقية التي نشأوا عليها. ولم يقتصد كثير من رموزهم في انتقاد حتى الحركات العاملة من أجل تحرير بلدانها من الاحتلال، خصوصا إذا كانت ذات طيف إسلامي، في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها؛ معتبرين، في لغة رسمية، أن تلك الحركات تمثل عوائق على طريق الإصلاح الداخلي والسلام الإقليمي والدولي.
وبصرف النظر عن مدى نجاح اليسار المستظل بمظلة الحكومات في تحجيم الحركات الإسلامية، أو في خفض وتيرة نموها، فلا بد من التأكيد على أن هاجس التصدي للإسلاميين الذي ظل يشغل أتباع التيار اليساري على امتداد مسيرتهم السياسية، سواء كانوا في المعارضة أو في الحكم، هو هاجس له مدلولاته من الزاويتين: السياسية والثقافية.
- فمن الزاوية السياسية، هو يعبر عن قصور في رؤيتهم الديمقراطية، وعجز لديهم عن القبول بالآخر العقائدي، وعن الإقرار له بالحق في المغايرة، وعن التعايش معه وسائر مكونات المجتمع الواحد. ونحن نرى أن هذا القصور الجوهري سيظل قائما لدى قطاعات واسعة من اليسار، ما استمرت حركتهم مدفوعة بعوامل سياسوية(politicienne) ، وما لم تكن منطلقة من عملية جادة لتجديد الفكر اليساري بصورة شاملة وعميقة، تؤدي إلى تنقيته من شوائب "العنف الثوري"، وتنميط الوعي، ومعاداة كل ما هو ديني.
- ومن الزاوية الثقافية، هو لا يعكس مجرد خصومة ظرفية مع طرف سياسي، وإنما يعكس موقفا أخطر من مسألة الانتماء الحضاري، ويطرح على هذا الصنف من اليسار أكثر من سؤال حول موضوع الهوية: فكيف يمكن التأليف بين أفكارٍ من قبيل كونية القيم الإنسانية ووحدة الحضارة البشرية التي يؤمنون بها، من جهة، وبين ما تتطلبه مهام التحرر الوطني، من جهة أخرى، من دفاع عن خصوصيات الأمة الحضارية في وجه الغزو الثقافي الأجنبي وفي وجه العولمة، واعتزاز بتلك الخصوصيات، وانطلاق من مكامن القوة فيها لتغيير ما بالأنفس حتى يتغير ما بالأوطان؟ وهل يكون بوسع المنطق الذي يُخضِع الرسالة الإسلامية (ولا أقول التاريخ ولا التراث الإسلامي) لقوانين المادية الجدلية، أن يكون قادرا على إثبات أية مكامن للقوة وأية محفزات للتحرر في هذه الرسالة؟ وما الذي يبرر لمن يروم التصالح مع هويته الحضارية أن يتعامل مع التراث الإسلامي بمنهج انتقائي، فلا يستلهم منه إلا ما كان، حسب تعبيره "عقلانيا" (وهو يعني أساسا فلسفة ابن الراوندي الإلحادية، وفلسفة بن رشد التوفيقية) أو ما كان "ثوريا" (من قبيل حركات القرامطة والحشاشين، وثورة الزنج)؟ علما بأن بعض مراجع اليسار التراثية (كالحشاشين على سبيل المثال) يتسمون بالشذوذ النظري والسلوكي، بكل المعايير؛ وأن مقاييس العقلانية، من منظور أغلب اليساريين، تكاد تتماهى مع مقاييس الإلحاد لأنها ظلت، رغم كل شيء، تصدرعن تصور مادي للوجود والمعرفة والقيم، وتُعرِض عن كل مذهب في التراث يستند إلى منطلقات روحانية مهما كان حجم العقلانية فيه، والحال أن التراث الإسلامي يزخر بتيارات ومذاهب تجل العقل وتأخذ بأحكامه، دون الاعتماد على فلسفات الإغريق، أو على غنوص الشرق القديم من باب أولى.
الإسلاميون بين منطق الثورة ومنطق الدولة
إن مؤرخي الأفكار يُرجعون نشأة الحركة الإسلامية المعاصرة إلى عدة عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وتكمن أبرز تلك العوامل، على المستوى النظري في ظهور فكر جماعة الإخوان المسلمين بالمشرق العربي، وفكر الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، وفي باكستان تحديدا. فقد كان بين فكر الشيخ حسن البنا وفكر الشيخ أبو الأعلى المودودي تقارب منهجي كبير، وشمل تأثيرهما كل أصقاع العالم الإسلامي منذ عشرينات القرن الماضي. فتشكلت بذلك مدرسة فكرية حركية ذات مواصفات متميزة. وكان من نتائج انتشار تلك المدرسة أن اصطبغت أنشطة عموم الحركة الإسلامية، طوال أكثر من خمسين سنة، بمسحة دعوية تربوية وثقافية، دون تركيز خاص على المجال السياسي، أو تفرغ للتنافس الحزبي، عملا بما كان الشيخان المؤسِّسان يؤمنان به ويدعوان إليه وقتها. فقد كانت ثقافة الجماعة بمفهومها الديني عندهما غالبة على ثقافة الحزب بمعناه الحديث. ولو دققنا النظر في طبيعة الوعي السياسي الذي أشاعه الشيخان في حقبة التأسيس الأولى، لوجدنا أنه قد انبنى على رؤيا في التغيير سلميةٍ تدريجية وبعيدةِ المدى. لذلك فإن عموم الإسلاميين الذين نشأوا على ذلك الوعي لم يكونوا ينزعون إلى انتهاج طريق الثورة والانقلابات العنيفة، بقدر ما كانوا يميلون إلى نهج الإصلاح السلمي، ومناصحة الحكام، والقبول بشكل استثنائي، وفي حدود المصلحة الدنيا، بتولي بعضٍ مناصب عليا لتسيير الشأن العام (و هو ما حصل في الأردن وفي بعض بلدان الخليج بالخصوص). ولما تطورت المدرسة لاحقا، كان أهم هدف سياسي اتجهت الكثرة الكاثرة من المنتمين إليها هو المشاركة – في حدود ما تسمح به الدساتير والقوانين – أو المطالبة بالمشاركة في الحياة السياسية، عبر مؤسسات نيابية ممثلة، يتم انتخابها بطريقة حرة ونزيهة. وقد تم ذلك فعلا في أكثر من بلد، منذ أواسط القرن الماضي، بأحجام وقيم متفاوتة. وما فتئ الأداء الديمقراطي للإسلاميين يتحسن في بلدان مثل تركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا ومصر والأردن واليمن والمغرب والكويت والبحرين وموريتانيا. . . إلى اليوم.
و يجوز القول، على العموم، إن المنهج السياسي الذي تأسست على أصوله الحركة الإسلامية المعاصرة بتأثير قوي من الحركة الأم، أي "الإخوان المسلمين"، كان منهجا مدنيا. وهو ما كان يمكن لمجتمعات كثيرة أن تجني ثماره صلاحا في الحكم وحرياتٍ وسماحةً وازدهارا،، لولا تضييق الأنظمة على الحريات من جهة، وما جدّ من غواياتِ عنف لدى بعض الإسلاميين هنا وهناك، من جهة أخرى (على غرار قصة "الجهاز السري" الذي انحرف عن أهدافه المتعلقة أصلا بتحرير فلسطين، في مصر؛ وأحداث العنف السياسي التي تورطت فيها مجموعات مروان حديد وعدنان عقلة في سورية، وغير ذلك من الحالات). ورغم أن الآثار السلبية لتلك الأحداث ظلت تلقي بظلالها السوداء على امتداد عقود، وتخدش الوجه الإصلاحي السلمي للعمل الإسلامي في نطاقٍ يتجاوز مصر وسورية، إلا أنه قد تم تطويقها من قِبل الجماعات المعنية في الوقت المناسب، إذ بلغ الأمر حد التبرؤ من فاعليها أو فصلهم عن تنظيماتهم الأصلية. فحافظت المدرسة الإخوانية بذلك على نهجها الوسطي، وثبتت على طابعها المدني، وازدادت انخراطا في المشاركة السياسية بالوسائل الانتخابية المشروعة.
ولم يكن هذا النهج المدني الإصلاحي الذي دأبت عليه الحركة الإسلامية ليحول دون بلاء أبنائها البلاء الحسن في مجال الكفاح الوطني للتحرر من الاستعمار ومن صنوف التسلط الأخرى. فبالإضافة إلى مشاركة عناصر الإخوان المسلمين المصريين في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإنجليزي لبلادهم منذ الثلاثينات، كان لمشاركة كتائبهم في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 أبلغ الأثر في إحباط ذلك العدوان. كما شكلت تلك الكتائب التنظيم العربي غير الرسمي الوحيد الذي قاتل في فلسطين (بقيادة المجاهد يوسف طلعت) ضد العصابات الصهيونية الغاصبة بعد نكبة 1948. وكان المقر العام للإخوان المسلمين في القاهرة قِبلة القصّاد لكل قادة وزعماء حركات التحرر الوطني في العالم الإسلامي، بقطع النظر عن توجهاتهم السياسية والأيديولوجية. فقد حفظ التاريخ أن الحبيب بورقيبة أحد الزعماء العلمانيين للحركة الوطنية في تونس، مثلا، لم يجد مِن محضن يأوي إليه إبان زيارته إلى مصر في أربعينات القرن الماضي إلا "الإخوان المسلمين" الذين فتحوا له مقرهم العام، وسخّروا منابرهم للتعريف بالقضية الوطنية التونسية وحشد الدعم لها.
كما سجلت التنظيمات المحسوبة على "الإخوان" في الوطن العربي عدة مآثر في مجال المقاومة الوطنية، وأمكن لها أن تجمع بشيء من التوازن بين منطق مقاومة الاحتلال ومنطق المشاركة في الحياة الديمقراطية. وحسبنا أن نذكر مثال "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) في فلسطين، التي كان لجمعها بين الجهاد العسكري ضد المحتل الصهيوني من جهة، والنضال المدني والإصلاحي على المستوى الداخلي، من جهة أخرى، دور فعال في توجيه بوصلة الصراع العربي الصهيوني نحو الاتجاه الصحيح، وفي التصدي لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية.
لكن هذا النهج العام الحريص على حفظ التوازن بين قيم التحرر وقيم الإصلاح، بات مهدَّدا بالإرباك والتشويش بفعل ما جدّ على الساحة الإسلامية، منذ السبعينات، من وقائع وتطورات نوعية متتالية لم يقف وراءها تيار "الإخوان"، بل صدرت عن تنظيمات وجماعات تنتمي إلى مدارس سياسية أخرى وتنطلق من مرجعيات مذهبية مغايرة؛ استطاعت أن تمسك بزمام المبادرة وأن تؤثر في مسار الأحداث، وتحدد طبيعة رهانات المرحلة، ليس على صعيد أوطانها أو على الصعيد الإسلامي العام فحسب، بل على المستوى الدولي كله. وأهم تلك التطورات يتمثل في قيام الثورة الإيرانية (سنة 1979)، وفي انتشار التيار "السلفي الجهادي" في مرحلة لاحقة. فقد كان لهذين الحدثين وما ارتبط بهما من وقائع وأحداث، تداعياتٌ خاصة لم يسبق لها مثيل على منهج العمل الإسلامي وعلى واقعه في آن معا. إذ لأول مرة في الحقبة المعاصرة (إذا استثنينا حالة "حزب التحرير" الذي ظهر للوجود منذ 1953، لكن أثر انتقاداته كان محدودا، والاستجابة لدعواته لم تكن واسعة النطاق عالميا)، توافرت من خارجة مدرسة "الإخوان"، نقاط استدلال ومرجعيات ورموز ومفردات جديدة، أثبتت فاعليتها في صناعة الأحداث، وانتشرت بسرعة على الساحة الإسلامية، ولم يتوان أنصارها – مستندين إلى قوة حضورهم الميداني، ومستفيدين من أوضاع القمع وانسداد الآفاق أمام الحركات المعوِّلة على الخيار القانوني – في توجيه سيل من الانتقادات إلى "منهج الإخوان المهادن"، وفي ممارسة تأثير فعلي على المسار العام للعمل الإسلامي.
لا شك أن انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 كان حدثا تاريخيا بالغ الأهمية ليس بالنسبة إلى المسلمين فحسب، بل على صعيد العالم قاطبة. فلأول مرة في تاريخ المسلمين المعاصر، نجحت فكرة دينية في حشد شعب يبلغ تعداده زهاء أربعين مليون نسمة، وراء قيادة معمَّمة، ليس لمواجهة محتل أجنبي، وإنما لخوض ثورة ضد نظام حكم شاهنشاهي عميل للغرب، عاث في البلاد وفي المنطقة طغيانا وفسادا. وقد أعادت تلك الثورة إلى دائرة البحث موضوعات كثيرة منها نلك المتعلقة بدور الدين في الحياة عامة، وعلاقة الإسلام بالسياسة تحديدا، بعد أن ظن كثير من العلمانيين في العالم الإسلامي أن تلك الموضوعات قد حُسمت تاريخيا لصالح وجهات نظرهم.
ولعل أهم معنى أعادته الوقائع الإيرانية إلى الأذهان، هو ذلك الذي يؤكد أن باراديغمات الفكر الغربي، التي لطالما سلبت ألباب خريجي مدارس الاستشراق، لا تنطبق دائما على ثقافة المسلمين ولا على تاريخهم. فلئن تميزت الظاهرة الدينية (و لا أقول الدين) في الغرب، بتحالف مؤسساتها الكهنوتية تاريخيا مع قوى السلطة والمال، وقيامها بمهمة تيسير انقياد الرعية لإرادة الراعي – وهذا ما أثار ضدها عدة مجتمعات حديثة، وولّد عدة فلسفات تجاوز بعضُها نقد الظاهرة التاريخية إلى مناهضة مطلق الدين، وكان ذلك أصلا لنشوء العلمانية – إلا أن الحضارة الإسلامية قد اتسمت بخاصية نابعة من روح الإسلام التحررية، حالت دون مأسسة الدين وتذييله للسلطان بشكل مطلق. فرغم تطاول حِقب الانحطاط التي عرفها التاريخ الإسلامي، حيث تعددت محاولات المأسسة والإلحاق،، ورغم عقود الاستعمار اللاحقة، إلا أن روح التحرر كانت غلابة. لأنها نابعة من أصل الإيمان بالله، ومن كون العبودية لا يصح أن تكون لغير الله (وذلك هو معنى شهادة التوحيد: أول أركان الإسلام). وقد ظلت تلك الروح دائما تنتظر من يوفر لها شروط التحقق في النفس وفي المجتمع، حتى تنتقل من عالم الرسالة إلى عالم التاريخ، في صيغ اجتماعية ثقافية وسياسية متجددة. الأمر الذي اضطر كثيرا من الدارسين والمستشرقين من غير الإسلاميين إلى القيام بمراجعات عميقة أدت إلى ما يشبه الثورة في عموم فكرهم، وما يشبه الانقلاب في نظرتهم إلى الإسلام تحديدا. وتلك كانت الثورة الإيرانية الثانية.
أما الإسلاميون، فقد كانت تداعيات الثورة الإيرانية عليهم، في أول عهدها، من قبيل آخر:
فبالإضافة إلى غياب الحساسيات المذهبية من اعتباراتهم – عدا بعض المنتمين إلى المجتمعات الخليجية –، وتعامُلِ أغلبهم مع الثورة باعتبارها حدثا إسلاميا، انصب اهتمامهم على فعالية النهج الثوري في اقتلاع من كان يطلق عليه "شرطي الخليج" من جذوره. أعني النظام الشاهنشاهي الذي كان أقوى حليف استراتيجي لأمريكا في المنطقة. وهو الحدث التاريخي الذي ما كان أحد يتوقعه إذاك، نظرا إلى ضخامة القوة العسكرية التي كان ذلك النظام يتمتع بها (وهي خامس أكبر قوة في العالم)، وإلى شح المعلومات عن معطيات الواقع الميداني الإيراني، لاسيما لدى أهل السنة. فقد كان لهذا النهج الثوري الناجع تأثير سحري على أوسع قطاع في الحركة الإسلامية عبر العالم، وأكثره حيوية وقتها، وهو قطاع الشباب والطلبة. وانتظمت في كثير من الجامعات تظاهرات خطابية حاشدة احتفى الإسلاميون فيها بالحدث. وسرعان ما انفتح الخطاب الإسلامي الشبابي على مفردات جديدة، وافدة من أدبيات الثورة الإيرانية، لم يعهدها عموم من تربى على الفكر "الإخواني" السائد. وهي مفردات وعبارات جمعت بين المبنى القرآني المعلوم والمعنى الثوري المبتكَر اجتماعيا وسياسيا. فغدا ذلك الخطاب يزخر بمعاني الصراع والتدافع بين "المستكبرين" و"المستضعَفين"، ويبشر بحتمية انتصار إرادة الشعوب "لأنها من إرادة الله" "قاصمِ الجبارين وناصر المستضعَفين"، ولأن "إرادة الله لا تُقهَر".
ومما تحفظ الذاكرة أن السنوات الأولى للثورة قد اتفق أن شهدت في تونس تحضيرات حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة لاحقا) للإعلان عن نفسها حزبا سياسيا، وتقدمها بطلب لدى السلط الإدارية بهدف الحصول على الترخيص القانوني. وقد كان ذلك المسعى ثمرة لتطور فكري وسياسي تميزت القيادات الإسلامية في تونس بالسبق إليه على مستوى الساحة الإسلامية خصوصا في البلاد العربية. لكن الشباب المنبهر بوهج الثورة الإيرانية حديثة العهد، كان ينظر إلى أي مسعى يرمي إلى إدخال الحركة الإسلامية في المنتظم القانوني على أنه من قبيل "الإصلاح" الذي أخذ في أذهانهم معنى تحقيريا. فقد جعلهم المثال الإيراني يعتبرون أن المنهج "الإصلاحي"، بما هو أسلوب في التغيير يلتزم بالقانون ويراعي التدرج في تطوير الواقع بطريقة مطلبية وبأسلوب لا يتعدى الضغط السياسي المدني، هو منهج تخاذلي غير ذي جدوى. وذهب أكثر الشباب حماسة إلى اعتبار أن "الإصلاحية" تصب موضوعيا في خدمة قوى "الاستكبار" المحلي والعالمي؛ على خلاف "المنهج الثوري" الذي كانوا ينسبون إليه كل أنواع الفضائل والحسنات المتصوَّرة. ولم يهدأ الصراع والمشادات اللفظية التي كانت تحدث بين التيارين المتقابلين داخل مؤسسات التنظيم في تونس، إلا بعد إحالة المسألة على مؤتمر عام للحركة حسم الأمر، عن طريق التصويت، بأغلبية نسبية لفائدة الإعلان عن التشكل الحزبي سنة 1981.
ولعل أغلب الذين عايشوا تلك المرحلة لم يكونوا يتصورون وقتها أن الثورة ذاتها ستجد نفسها، يوما ما، بفعل ضغوط الواقع والتزامات الدولة الجديدة، أمام معادلة صعبة تتمثل في ضرورة التوفيق بين منطقين غير متجانسين هما: منطق الثورة ومنطق الدولة. ولقد نجح قادة طهران في الحفاظ على توازن نسبي بين مقتضيات المنطقين فيما يتعلق ببنية الدولة وسياساتها، بأن احترموا معايير القانون الدستوري والقانون الدولي، ونجحوا بالتالي في ضمان تمثيلية القرار السياسي لإرادة الشعب العامة، وفي إقامة نظام الحكم على مبدإ التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخاب، دون أن يتخلوا عن التزاماتهم المذهبية (ومنها الخضوع لنظام ولاية الفقيه)، ولا عن التزاماتهم الثورية، كما يظهر ذلك في دفاعهم المستميت عن مصالحهم الوطنية وعن حقهم في امتلاك التقنية النووية، بالإضافة إلى مساندتهم، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، لعدة قضايا مثل القضية الفلسطينية، وقضية وحدة لبنان وأمنه واستقلاله. إلا أن السياسة الإيرانية قد أخفقت، في المقابل، إخفاقا ذريعا في المسك بطرفي المعادلة حين تعلق الأمر بالملفين الأفغاني والعراقي:
فلم يعد سرا، بعد أن أقر الرئيس السابق محمد خاتمي بذلك، أن إيران قدمت عدة تسهيلات لوجيستية لأمريكا (التي كان الإمام الخميني يصفها بالشيطان الأكبر!) ولحلفائها الغربيين، من أجل الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان المجاورة. ومن المؤكد أن ما أقدمت عليه "الجمهورية الإسلامية" من مشاركة فعلية فيما يسمى "الحرب العالمية على الإرهاب" لا يدخل، في نظر قادتها، في باب الركون إلى الظالمين أو موالاة أهل الكفر وإعانتهم على المسلمين، مما هو محرم شرعا. وإنما هو عمل متروّ ومدروس، يهدف إلى خدمة المصلحة الوطنية المشروعة في حدودها القومية.
ولا بد من القول بكل صراحة إن هذا الموقف وما تبعه من سياسات إيرانية في المنطقة، إنما يعكس، في تقديرنا، اضطرابا خطيرا في فكر الجيل الثاني من الثورة وفي موقفهم من الهوية ومن الانتماء الحضاري. وأنه، من ناحية أخرى، يعبر عن سوء تقدير استراتيجي من قِبل ذلك الجيل لحقيقة المعطيات وموازين القوى الميدانية، ولما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة من تعقيد، وما سيكون عليه حال علاقة إيران المستقبلية مع جميع الأطراف المتصارعة في محيطها.
وفي وقت كان الغيورون على الثورة من أحرار العالم ومن الإسلاميين يتطلعون إلى تدارك الموقف وإعلان القادة الإيرانيين مراجعةً حازمة لسياستهم الخاطئة في أفغانستان، عمد أولئك القادة إلى الزيادة في دق الإسفين، وكرروا ذات الخطإ في بلد إسلامي آخر هو العراق، سعيا منهم إلى الإطاحة بحكم عدو تاريخي لهم هناك هو صدام حسين. وفي هذه المرة، لم يقفوا عند حد تقديم التسهيلات للغزاة الأجانب، بل كان تدخلهم مباشرا وعن طريق أتباعهم وحلفائهم في داخل العراق. فتورطوا بذلك في عقد تحالفات موضوعية وصفقات مناقضة لجميع المبادئ التحررية التي قامت على أساسها ثورتهم. فكانت فعلا ورطة تاريخية لا تبررها بحال حسابات الغنيمة التي ربما طمع الإيرانيون في الحصول عليها من بترول العراق، تحت وطأة خشيتهم من نفاد مخزونهم الوطني الوشيك (بعد 15 سنة) حسبما ما تؤكده التوقعات.
وسواء اعترف القادة الإيرانيون أو لم يعترفوا، فإن سوء تدبيرهم الاستراتيجي فيما يخص الملف العراقي يحملهم قسطا كبيرا من المسؤولية، أمام الله وأمام الناس، ليس عن الإطاحة بنظام لا يشك أحد في طبيعته الاستبدادية، رغم محاولاته حيازة أسباب القوة والعلوم والتكنولوجيا – على أنه كان ينبغي على أبناء العراق أن يضطلعوا هم أنفسهم بمهمة تغييره – وإنما عن تدمير كل مقومات الدولة المركزية في العراق. وتحويل هذا البلد الشقيق إلى فريسة تنهشها ثلاث أجندات تقسيمية معادية هي:
1- الأجندا الأمريكية التي تصب في خدمة المصالح الصهيونية.
2- الأجندا الطائفية التي تحكمها اعتبارات إقليمية مرتبطة بالمصالح القومية الإيرانية.
3- الأجندا الكردية المشدودة إلى حلم قومي تاريخي يتعدى حدود العراق، اسمه جمهورية كردستان الكبرى.
وإزاء هذه السياسة الإيرانية الخارجية التي رجَحت فيها كفة المصالح القومية والطائفية على كفة المبادئ الثورية، والتي تقاطعت أهدافها مع أهداف المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، وجد كثير من الإسلاميين أنفسهم مضطرين إلى إعلان مواقفهم الرافضة لسياسات إيران والأحزاب المرتبطة بها في العراق. (وتجدر الإشارة إلى أن هذه المواقف لم تصدر عن مراجع وهيئات من أهل السنة فقط، وإنما صدرت أيضا عن مراجع شيعية مرموقة نذكر من بينها: آية الله أحمد حسن البغدادي، وآية الله حسين المؤيد، وآية الله جواد الخالصي). لكن تلك المواقف لم ترُق لقادة طهران. وعوض أن يتعاملوا معها وفق مبادئ الأخوة والتناصح وحسن الظن، ويبادروا إلى مراجعة سياساتهم وتصحيح مسارهم، أخذا بالنصيحة، ازدادوا هروبا إلى الأمام. ولم يقدّروا لكثير من منتقديهم سبق مناصرتهم للثورة الإسلامية، وما تكبدوه في سبيلها من تضحيات.
وليس واضحا إلى حد الآن إن كان قادة "الجمهورية الإسلامية" قد أدركوا أم لا أن من أشد ما يُفزع الإسلاميين هو ما يلاحَظ على إثر التدخل الإيراني في العراق وقبله في أفغانستان، من ظهور حالة من التعبئة والحشد الطائفيين. وهو ما ينذر بوقوع فتنة داخلية عامة، سبق لفضلاء العلماء والمفكرين وزعماء السنة والشيعة معا – ومنهم الإمام الخميني رحمه الله – أن حذروا من مغبة الوقوع فيها، لأنها إن وقعت، لا سمح الله، فإنها لن تزيد الأمة إلا ضعفا وأعداءها إلا قوة وإصرارا على العدوان. وليت القادة الإيرانيين يستخلصون العبرة مما أبدته جماهير أهل السنة في العالم بأسره من مؤازرة لجهاد "حزب الله" أثناء تصدي مقاتليه للعدوان الصهيوني على لبنان في جويلية/تموز 2006. فقد جاءت تلك المؤازرة الشعبية التلقائية تعبيرا عن معنيين أساسيين:
أولا- مكافأة الحزب على نجاحه بامتياز في الجمع بين صفة الطرف السياسي المشارك ديموقراطيا في مؤسسات الدولة، وصفة التنظيم العامل من أجل التحرير، والمستعد دائما للمقاومة بقوة السلاح كلما تعرضت بلاده أو جزء من أمته لعدوان أجنبي غادر، بقطع النظر عن الاعتبارات الطائفية أو السياسية أو حتى الدينية.
ثانيا- إظهار سلامة الحس العام لشعوبنا الإسلامية، التي أعطت دليلا إضافيا على أن الفتنة الطائفية ليست قدرا محتوما عليها، وأنها ليست من صنعها أصلا، بل هي من صنع مجموعات وأحزاب محدودة الامتداد فيها، وذات وعي تاريخي زائف، أو لعلها ذات ثقافة تاريخية معدومة أصلا. لكن الواقع يحكي، مع الأسف الشديد، أن تلك المجموعات موجودة على هذا الجانب وعلى ذاك من الخارطة المذهبية والسياسية الإسلامية.
ففي مقابل الأحزاب التي تنسب نفسها إلى المدرسة الخمينية، والتي ما إن دخلت قياداتها إلى العراق مع جحافل الاحتلال حتى راحت تبشر "بالبيت الشيعي"، وتصف أهل السنة "بالنواصب" الذين غصبوا السلطة من أهلها الذين كانوا أحق بها تاريخيا، وتمارس التصفية الدموية وسياسة التهجير والتنقية الطائفية، وتدعو إلى تقسيم العراق تحت غطاء "الفيدرالية"،، تنامت في صفوف أهل السنة أيضا، مجموعات يبدو أنها عاجزة، هي الأخرى، عن تصور صيغة للتعامل مع غيرها من أبناء المذاهب الأخرى، وحتى من الإسلاميين، عن طريق الحوار والاحترام والتعايش السلمي. ناهيك عن التعاون معهم في أي عمل مشترك في المجال الاجتماعي أو السياسي. فهم يرون أن لا فائدة ترجى من أي عمل إصلاحي من هذا القبيل، وأن المدخل إلى الإصلاح لا يكون إلا بالجهاد المسلح. ولا ينظرون إلى إخواننا من أهل الشيعة إلا على أنهم "روافض" و"أهل بِدع" لا تصح موالاتهم بل تسري عليهم أحكام "التكفير". ولا يتحدثون عن الأنظمة السياسية في بلاد المسلمين إلا باعتبارها أنظمة " مرتدة، تحكم بغير ما أنزل الله"، وتتعين مواجهتها بإقامة الفريضة الغائبة: أي الجهاد. لأن حكام المسلمين الحاليين، في نظر هؤلاء "السلفيين الجهاديين" هم وكلاء "الكفار" الأجانب على أراضيهم. وإذن فإنه لا فرق حُكما، ضمن هذا التصور، بين محاربة، "الأسياد" من "يهود وصليبيين"، ومحاربة العملاء الذين يرعون مصالحهم قي بلاد المسلمين.
وليس أكثر تبسيطا للواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي المحلي والعالمي، واختصارا لرسالة الإنسان في الكون، ولأهداف التغيير ووسائله، من هذا الأسلوب في التفكير (ولا أقول الفكر، لأنه لا يرقى إلى ذلك المستوى تحليلا ونقدا). ولعل هذا التبسيط هو الذي اجتذب إليه زخما وفيرا من الأنصار، لاسيما داخل أوساط الشباب الممزق بين أحلام الحرية والعيش الكريم من ناحية، وواقع القهر والفقر والتهميش من ناحية أخرى،، في زمنٍ سادت فيه قيم رأس المال وسكن العقل وتقلصت سلطة الثقافة، وظلت عبارات "مجتمع المعرفة" و"صناعة الذكاء" شعارات رنانة تنمق خُطب السلطة.
ويكفي أن ننظر إلى الواقع القريب من حولنا لنتأكد أن أتباع هذا النمط من التفكير باتوا يشكلون ظاهرة مجتمعية مثيرة للحيرة، يحتاج فهمها إلى كثير من التبصر ومعالجتُها إلى كثير من الحكمة والرصانة. فالأمر جد. ولا جدوى من النظر إلى المسألة من زاوية أمنية، وبمنظار سياسي فحسب. لأن "السلفية الجهادية"، إلى جانب تجلياتها الاجتماعية والسياسية، هي ظاهرة ذات وجه ثقافي مهم، كثيرا ما يتم التغافل عنه.
إنه لا جدال فعلا في أن أخطر ما في هذه الظاهرة، من المنظور الاجتماعي والسياسي، هو عدم إيمان أصحابها بجدوى العمل الإصلاحي السلمي، ولجوؤهم، في المقابل، إلى الحلول الصدامية العنيفة التي يحصرون مفهوم "الجهاد" فيها، ويحشدون من أجلها الشباب واليافعين، فيقنعونهم بترك مقاعد الدراسة ومواقع العمل، ليحولوهم بعد ذلك إلى مقاتلين محليين يستهدفون دولهم، أو إلى مقاتلين عابرين للحدود وربما للقارات بعنوان "الغزو" تحت راية "الجهاد"،، وكأن طلب العلم – أيِّ علم نافع – وسد كفايات الأمة في الحياة المدنية، والإصلاح، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالمجادلة الحسنة؛ كأن كل ذلك لا يدخل ضمن مفهوم الجهاد بمعناه القرآني الشامل، ولا يُعد من الأولويات.
لكن لا بد في المقابل من التأكيد على أن لهذه الظاهرة أسبابا ثقافية يتحمل المسؤولية عن إيجادها كثير ممن يتنافسون اليوم في لعنها ومحاربتها. فالملاحَظ أن الظاهرة قد نمت في تعارض تام مع تراث الاستنارة العريق في الفكر الإسلامي، وفي تعارض تام مع رصيد التعقل، الذي وفرته الخبرة الإسلامية المعاصرة. ويعود ذلك إلى سياسات التضييق والمحاصرة التي فرضتها كثير من الأنظمة على الحركات والقيادات الإسلامية المتسمة بالكفاءة والاعتدال، وهي سياسات نجحت في حجب ذلك التراث الأصيل المعتدل عن العامة، وفي خلق واقع من الفراغ التوجيهي العام ظنا منها أنها بذلك ستتمكن من القضاء على أسباب الظاهرة الدينية المسيّسة. إلا أن سياسات الأنظمة لم تتمكن من القضاء على حاجة عموم الناس الطبيعية إلى أن ينعموا بحياة روحية تكفل لهم قدرا من التوازن النفسي والسلوكي (وأنى لها ذلك!)؛ في خضم واقع مادي يطحن الإنسان، ويفرض قوانينه العمياء على كل شيء تقريبا.
وأمام ضآلة فرص الظفر بمصادر محلية وعلنية لتزكية الروح، اندفع كثير من الشباب إلى البحث عن ضالته في مواقع الإنترنت – وما أكثرها – وفي الفضائيات المرئية، وفيما يُروَّج سرا من وسائل توجيه جماهيري مبسط (vulgarisation)، غالبا ما تخاطب الوجدان أكثر مما تخاطب العقل، وكثيرا ما يسمح بعض أصحابها لأنفسهم بأن يسوّقوا خطابا تعبويا عنيفا، بعيدا عن رقابة السلطة والقانون، يؤطرون به الناس عن بعد في مشاريع لا تنضبط لأحد.
ولئن ظفر هؤلاء الشباب ببعض بغيتهم الروحية من ذلك المعين الإعلامي الذي جعلته التكنولوجيات الرقمية الحديثة في المتناول، إلا أن ما تلقوه لا يعدو أن يكون من قبيل "الثقافة العامة"، وليس من قبيل العلم الذي يُخوّل لهم الإحاطة بكليات الدين وأصوله وبمقاصد الشريعة، فضلا عن أن يمنحهم القدرة على الاجتهاد والتجديد في الدين بما يكفل لهم الوسطية والاعتدال فكرا وسلوكا. (وهذا ما يفسر ميلهم إلى منهج الرواية ونقل النصوص، وتفشي نزعة تكفير المخالفين عندهم، واضطراب سلم الأولويات في أذهان أغلبهم، وتشددهم فيما يخص قضايا الفقه الخلافية وجزئيات الشعائر وتفاصيل السلوك والهندام...)
والخلاصة أن الاشتباك الفكري والمادي العنيف بين التيار السياسي الشيعي والتيار السلفي الجهادي يقدّم صورة قاتمة عما بات يميز الساحة الإسلامية اليوم من انقسامات وتجاذبات داخلية خطيرة. لكن إذا وضعنا الخلاف المذهبي جانبا، باعتباره موضوعا يتجاوز السياسة إلى الثقافة والتاريخ، يمكن أن نعتبر أن التيارين يلتقيان، رغم تناقضهما، في خاصية سلبية مشتركة هي: الإخلال بالمعادلة المطلوبة بين واجبات المقاومة وضرورات الدولة بسبب عدم وضوح الرؤيا الاستراتيجية لديهما. وقد نتج عن ذلك الإخلال عدم انسجام في مواقف الطرفين من عدة قضايا أساسية: ففي حين تقف الدولة الإيرانية موقف المساندة للمقاومة في فلسطين ولبنان، نجدها تتخذ من المقاومة العراقية، ولاسيما السنية منها، موقفا سلبيا؛ وذلك لاعتبارات مصلحية قومية. وفي حين يرسل السلفيون جحافل المجاهدين لمحاربة الأمريكان وحلفائهم في العراق، لاعتبارات مبدئية دينية، نراهم يتمنون الهزيمة لحزب الله اللبناني في مواجهة الصهاينة، بدافع من الاعتبار الطائفي، رغم أن الحزب عدو تاريخي لدود للأمريكان، وينتقدون حركة حماس بسبب مشاركتها في مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية عبر الانتخاب، رغم أنها لم تتخل يوما عن مقاومة العدو الصهيوني.
ويبدو أن هذه الظاهرة ليست خاصة بالتيارين المذكورين دون سواهما. بل هي باتت تهدد كثيرا من الحركات الإسلامية، بفعل تعقد معطيات الواقع وتعدد الضغوط عليها وضخامة التحديات الاستراتيجية التي تواجهها. وقد بينت التجربة التاريخية أنه ما من حركة، مهما كان موقعها في المجتمع أو في السلطة، ومهما كان بلاؤها في مجال الكفاح أو في مجال الإصلاح، إلا وهي معرضة لهذا النوع من الاختبار، ولِمظنّة الحياد عن أهدافها ومنطلقاتها المبدئية، وفقدان توازنها الذي هو عنوان رشدها.
وهذا ما يبدو أن إرهاصاته بدأت تلوح اليوم في أفق حركات إسلامية أخرى نحسب أنها تتمتع بقدر كبير من الخبرة وبعد النظر. ونحب أن نشير هنا، بشكل خاص، إلى حالتين تنتميان إلى المدرسة "الإخوانية" هما حركة "حماس" في فلسطين ، وحركة "الإخوان المسلمين" في سورية.
فبعد أن أبان مناضلو "حماس" عن قدرة قل نظيرها في الموازنة بين المقاومة المسلحة التي تستوجبها ظروف الاحتلال الصهيوني ويفرضها الواجب الوطني والديني معا، وبين الانخراط الجاد في العملية الانتخابية وفق شروطها القانونية وضمن محدداتها السياسية المعروفة (علما بأنني كنت من الذين اعتبروا أن تلك الموازنة شبه مستحيلة في الظروف الفلسطينية والإقليمية والدولية الراهنة، وفي ظل اتفاقيات أوسلو)، ها هو الحصار الخارجي يتظافر مع المؤامرات الداخلية ليدفع القوة التنفيذية وكتائب القسام التابعة لتلك الحركة إلى التحرك الاستباقي في قطاع غزة، من أجل تفويت الفرصة على أطراف من داخل أجهزة السلطة، معروفة بارتباطاتها المشبوهة، كانت تتهيأ للانقلاب عليها وعلى العملية الديمقراطية برمتها.
وبصرف النظر عن تفاصيل الأحداث وعن مدى مشروعية هذا التحرك ونجاعته، وبناء على أن العبرة في مجال السياسة تكون بالنتائج لا بالأماني،، يمكن القول إن ما حصل إلى حد الآن من أحداث في غزة قد أعاد "حركة المقاومة الإسلامية" في فلسطين إلى المربع الأول، أي إلى طبيعتها الأصلية باعتبارها حركة كفاح مسلح. ورغم استمرار إسماعيل هنية وأعضاء حكومته المقالة في شَغل المسؤوليات السياسية والإدارية التي كانوا يتولونها قبل التحرك، إلا أن ذلك لم يعد له أي أثر فعلي على تمثيليتهم دوليا ولا على حصانتهم الشخصية أو المعنوية، لاسيما بعد أن أعلنت الحكومة الصهيونية قطاع غزة "كيانا معاديا".
والسؤال الذي ينبغي أن يظل مطروحا على كل مناضل في وضع من هذا القبيل هو: كيف يتم تجنب مآل ما يمكن أن نسميه "بالكل المقاوم" أو خيار "المقاومة من أجل المقاومة" في ظل المعطيات الفلسطينية والعربية والدولية المعروفة، وفي ظل الحصار الشامل؟ أو لنتساءل بالصيغة الإيجابية: ما العمل لكي نفتح لهذه المقاومة آفاقا سياسية؟ مع كل ما يقتضيه ذلك من حوار مع الداخل، وتفاوض مع الخارج (بمن قي ذلك العدو الإسرائيلي)، ومن تصور للحل مع كل الأطراف، وسقفٍ للتنازلات المحتملة. . على اعتبار أنه لا مستقبل لأي مقاومة بدون أفق سياسي وبدون برنامج ديمقراطي. فإذا سلمنا بأن المقاومة هي السبيل إلى الاستقلال وبالتالي إلى إقامة سلطة وطنية مستقلة وذات سيادة، يكون من المفترَض في رجالها أن يمهّدوا لذلك منذ البداية بإشاعة ثقافة الكفاح بالتوازي مع ثقافة الدولة والقانون، وأن يعطوا المثال في المحافظة على الطابع المدني للسلطة في كل مراحلها، ومهما كان مستوى اكتمالها. وذلك بأن يحملوا أنفسهم على فض الخلافات الداخلية بالسماحة وبالوسائل السلمية وبدون الاحتكام إلى السلاح، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
إن المسألة، في تقديرنا، هي مسألةٌ مسؤولية أخلاقية وبيداغوجية قبل أن تكون مسألة غُنم سياسي أو سواه. فلأنْ يتورط الآخرون في خطإ الاحتكام إلى السلاح، فتقام عليهم الحجة من قِبل الجميع، خير ألف مرة من أن نتورط نحن في ذلك، فنمنح للغير فرصة حتى يتهمونا بعدم الوفاء لشروط الديمقراطية وبالانقلاب على الشرعية، كما هو حاصل الآن، فتُضرَب مصداقيتنا، ونتردى في مأزق لن يكون الخروج منه ميسورا.
أما حركة "الإخوان المسلمين" في سورية، فلئن كانت غير مهددة بالانزياح نحو غواية الاحتكام إلى السلاح، كما هو حال حركة "حماس" الفلسطينية – لأنها جربت ذلك الخيار منذ حوالي ربع قرن، وما أجداها ذلك نفعا، لا بل هو جر عليها وعلى البلاد صنوفا من الويلات – إلا أننا نخشى اليوم أن تكون قد استهوتها غواية من نوع مغاير، يبدو أن أطرافا معارضة في الخارج، سواء من ضمن "جبهة الخلاص" أو من خارجها، ما انفكت تستدرجها نحوها، بتشجيع من دوائر دولية مشبوهة: أعني غواية الاستقواء بالأجنبي التي لا نعلم أبشع منها وسيلة للانتحار السياسي.
وليت الجميع يتعظون من خيبة مسعى من جرب العمالة في بلاد الرافدين، ويدركون أن التعويل على التدخل الأجنبي، علاوة على أنه عمل غير وطني بكل المقاييس، فإنه لا يتورط فيه إلا من كان عاجزا عن إحداث أي تغيير وفق الشروط الوطنية، وفاقدا لأدنى مشاعر الولاء والاحترام والتقدير لشعبه. ولا ندري كيف سيكون مَن هذه حاله مؤهلا لأن يقود بلاده يوما ما، وأن يكفل لها الاستقلال والسيادة والرخاء.
إن الحس السليم لَيحار فعلا إزاء تلك الظاهرة التي شهدها العراق الشقيق، عندما سولت أنفسُ رجالٍ كنا نعدهم من المفكرين والمناضلين الشرفاء من أجل الحرية، وضْعَ أيديهم في أيدي غزاة أجانب لم يرقبوا في الوطن ولا في أهله إلاًّ ولا ذمة؛ وعادوا إلى العراق، بعد فترة من النفي، تحت حماية المحتلين وعلى ظهور دباباتهم.
ومن اللازم أن نشير إلى أن الأستاذ علي صدر الدين البيانوني، المراقب العام "للإخوان المسلمين" في سورية، كان رفض الدعوة إلى تدخل أجنبي في بلاده بغاية الإطاحة بنظام الحكم. وأكد أن تلك الدعوة هي بالنسبة إلى "الإخوان" من المحرمات التي لا يجوز الوقوع فيها. وكان ذلك منه موقفا وطنيا مشرفا أدخل الاطمئنان في نفوس أبناء الحركة الإسلامية ونفوس الغيورين على سورية وعلى الكرامة العربية مطلقا. ومن المرجو أن يُردف هذا الموقف بإجراءات وتدابير عملية تكرسه وترسخ دعائم العمل السياسي الوطني لحركة "الإخوان" بأساليب متطورة. إذ لا نتصور كيف يمكن لهذه الحركة المناضلة، التي أعلنت مؤخرا برنامجا سياسيا مؤسسا على مبادئ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.