يعتبر تخلي وزير الخارجية الليبي موسى كوسا عن نظام الزعيم الليبي معمر القذافي ضربة قوية للأخير وأخطر من أي مسئول ليبي كبير آخر انشقوا عنه وأعلنوا انضمامهم إلى المعارضة. فقد شغل كوسا سنوات طويلة منصب رئيس المخابرات الليبية واحتفظ بهذا المنصب أيضا بعد تعيينه وزيرا للخارجية، ولذلك فهو يملك معلومات قيمة أكثر مما يعرفه جميع أعضاء المجلس الانتقالي في بنغازي. أنه يعلم كيف يعمل نظام القذافي لأنه كان أهم رجل بالنسبة لمن كان يسميه "القائد" وكذلك يعرف خلفية مشكلات القذافي مع الخارج، وكون كوسا اختار التخلي عن "القائد" في هذه المرحلة الحساسة فإن هذا قد يؤدي إلى نهاية القذافي ونظامه لأن فرص البقاء أصبحت شبه معدومة. رحلة كوسا من طرابلس إلى عاصمة الضباب تم التحضير لها بضعة أسابيع من العمل البوليسي الشاق والخطر وهي عملية تصلح لأن تكون سيناريو فيلم عن سقوط"العقيد" مثل الفيلم عن"عيدي أمين". فقد وقع أعضاء وحدة كوماندوس بريطانية تسلح أفرادها جيدا بأحدث أنواع السلاح، بأيدي الثوار الليبيين، وكما أشيع حينها كانوا برفقة دبلوماسي بريطاني جاء عبر طرق ملتوية ليجتمع مع ممثلي الثوار وعقد الصلات معهم. لكن أحدا من الثوار الليبيين لم يصدقهم خاصة وأن بيانات وزارة الخارجية البريطانية والاستخبارات M16 كانت غامضة كما جاءت هذه الواقعة بعد وقت قليل على سقطة وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ عندما صرح بأن القذافي في طريقه إلى المنفى في فنزويلا وتبين أن معلوماته ساذجة لا تستند إلى الصحة. البريطانيون يعرفون كوسا جيدا. حين كان سفيرا لبلاده في لندن عام 1980 طلبت الحكومة البريطانية إبعاده بعد أن نشرت صحيفة"تايمز" تصريحات له قال فيها أن حكومته تريد تصفية بعض المعارضين الليبيين يعيشون في بريطانيا. كما أورد جورج تينيت المدير السابق لجهاز CIA في مذكراته أنه حسب معلوماته فإن كوسا كان الرجل الذي خطط لتفجير طائرة "بان ام" الأمريكية فوق بلدة لوكربي الاسكتلندية عام 1988 أسفرت عن مقتل 270 شخصا كانوا على متنها. كذلك فإن قاضي التحقيق الفرنسي جان لويس بروغير أصدر مذكرة إيقاف ضد كوسا بسبب مشاركته في تفجير طائرة فرنسية فوق الصحراء. لم يكن تعيينه سفيرا لليبيا في لندن قبل إبعاده مجرد صدفة. ذلك أن العلاقات بين البلدين لم تنقطع جذريا رغم كل الهزات التي حصلت. فقد كان كبار المسئولين الليبيين وأبناء القذافي يزورون العاصمة البريطانية باستمرار للتبضع وقضاء عطل الاستجمام ثم كان كوسا يقوم وراء الكواليس بعقد محادثات مع مسئولين بريطانيين. نتيجة لذلك زار طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني في عام 2004 طرابلس وصرح ببداية صفحة جديدة للعلاقات والرجل الذي هيأ لهذه الزيارة كان كوسا. بعد مدة قصيرة جاء المستشار الألماني جيرهارد شرودر إلى طرابلس وبذلك عادت ليبيا إلى الحظيرة الدولية. كما أن عودة عبد الباسط المقراحي الذي شارك في تفجير طائرة"لوكربي" من سجنه في اسكتلندا إلى بلاده بداعي"إنساني لإصابته بمرض سرطان على وشك أن يقضي عليه خلال أسابيع" تم بوساطة كوسا والغريب أن المقراحي ما زال على قيد الحياة رغم أن البريطانيين أنفسهم قالوا عند الإفراج عنه أن أيامه معدودة. عمل كوسا بشكل وثيق جدا مع القذافي الأب وخاصة مع ابنه سيف الإسلام وأصبح رجلا مهما في مسعى القذافي هذه المرة ليس للقيام بمزيد من العمليات الإرهابية وإنما لإنهاء التوتر الذي طغى سنوات طويلة على علاقات ليبيا مع الغرب، وعمل مع سيف الإسلام في حل المشكلات برصد مليارات الدولارات في إطار تعويضات لأقارب ضحايا"لوكربي" كما تفاوض كوسا الذي درس في الولاياتالمتحدة ويتحدث الإنجليزية بطلاقة، مع عملاء الاستخبارات الأمريكية والبريطانية في براغ وجنيف لإقناعهم بأن ليبيا تخلت عن مسعاها التخلي عن الحصول على أسلحة نووية ولم تكن ليبيا وصلت إلى مرحلة متقدمة في برنامجها، وبناء على أوامر من القذافي أعد كوسا قائمة بأسماء الشركات التي زودت ليبيا بالسلاح وأسماء الوسطاء وتم تسليم القائمة إلى الأمريكيين والبريطانيين وكان هذا ثمن عودة ليبيا إلى الحظيرة الدولية. لم يسجل أحد في ليبيا أن كوسا أقام علاقات خلال فترة المفاوضات مع الاستخبارات الأمريكية والبريطانية. يقول بعض المحللين أن البريطانيين أبلغوا كوسا عند بدء ترنح نظام القذافي أن جميع الأبواب في بريطانيا مفتوحة أمامه إذا أراد اللجوء إلى بلادهم. حين صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 بشأن فرض حظر جوي فوق ليبيا وقف كوسا أمام الصحافة حيث أعلن وقف إطلاق النار وهو حل مؤقت أراد أن يستغله القذافي لإنقاذ نظامه، ولوحظ أن يداه كانتا ترتعشان وهو يقرأ البيان على الصحافة، ذلك أنه في قرارة نفسه فقد الثقة تماما بالقذافي ونظامه ويقال أن مشادة بالأيدي نشبت بينه وبين أحد أنجال القذافي نتيجة الخلاف على الاستراتيجية السياسية ولأن كوسا يؤيد مفاوضات سلمية بينما القذافي وأنجاله يصرون على القوة العسكرية. وأكدت مصادر إعلامية مطلعة أن لجوء كوسا إلى بريطانيا جزء من استراتيجية غربية لإضعاف نظام القذافي من خلال تشجيع مؤيدي النظام على التخلي عن القذافي لهدف إضعافه قدر المستطاع. ويقارن الفرار المثير لكوسا من طرابلس إلى نهر التيمز عملية الفرار التي قام بها رودولف هيس نائب هتلر في عام 1941 بطائرة حطت به في اسكتلندا وقال حينها أن جاء ليتفاوض مع الحلفاء. انتهى الأمر بهيس في سجن عسكري بريطاني في "شبانداو" ببرلينالغربية وكان حتى وفاته في نهاية عقد الثمانينات السجين الوحيد هناك. وقال النائب في مجلس العموم روبرت هالفون الذي ينحدر من أسرة ليبية يهودية فرت من ليبيا عام 1960 بعد اضطرابات معادية لليهود أن كوسا من المرجح أن يكون مجرم حرب له يد في مقتل مواطنين بريطانيين ينبغي أن يتم تسليمه إلى محكمة الجزاء الدولية. هذا بالتأكيد ما لن تفعله لندن بحق "الصديق القديم" موسى كوسا. في الغضون فإن أيام القذافي أصبحت معدودة، وقد انخفض عدد الدول المرشحة لاستضافته وتصبح منفاه بعدما تحولت ثورته ضده. ونُقل عن عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية قوله لمقربين منه أن القذافي جزار، وصدام حسين كان أيضا جزارا لكنه لم يكن أضحوكة مثل القذافي الذي شوه سمعة العرب في العالم. سمير عواد (مراسل الراية في برلين)