هناك من يتحدث عن الشعب والأحزاب السياسية ، وكأنه يتحدث عن مجموعة من القاصرين الذي يحتاجون إلى واصي عليهم، وكأنهم غير ناضجين لتحمل مسؤوليتهم بأنفسهم، وهذا تفكير خاطئ ، ولعل ذلك من الترسبات الفكرية لهذه الأنظمة الديكتاتورية الجاثمة على أنفاس الشعوب العربية المغلوبة على أمرها ، و التي تقدم نفسها دائما و أبدا ، بأنها الوحيدة التي تتوفر على القدرة والكفاءة والنضج لتدبير وإدارة شؤون الشعوب . هكذا كان نظام الفرعون مبارك و نظام الديكتاتور بنعلي يقدمان نفسيهما قبل الإطاحة بهما ، ليتبين لشعوبهما عكس ما كان يروجانه من خطاب، كله استصغار للشعبين وتحقيرا لقواهما الحية، ولعل الصحفي التونسي الموالي لنظام بعلي برهان بسيس أحسن من يعبر عن هذا الخطاب على قنوات الفضائية ، قبل سقوط بنعلي. إن ما تعيشه أحزابنا السياسية من مشاكل وعوائق، كانت للدولة فيها النصيب الأكبر والحصة الأوفر . فالدولة المغربية لم تعتبر ، في يوم من الأيام ، أحزابنا السياسية شريكا لها في صناعة القرار ، ولا قنوات لضخ الأطر والطاقات البشرية في أجهزتها، و لم تجعلها مشتلا للكفاءات السياسية والتدبيرية ، التي تستعين بها لتسيير شؤون مؤسساتها من عمالات و ولايات و سفارات و شركات عمومية و مكاتب وطنية ومؤسسات مالية. بل العكس، تعمل على تحجيمها، و تسعى إلى منع وإقصاء الأطر الحزبية من الوصول إلى أية مسؤولية في المؤسسات العمومية ، حيث كان الانتماء السياسي لبعض الأطر حاجزا دون وصولها إلى بعض مراكز القرار. و إذا ما تمكنت من الوصول الى مركز المسؤولية خطأ، أوفي غفلة من حراس المعبد المخزني ، وتم اكتشاف الميولات السياسية لتلك الأطر فيما بعد ، إلا وكان ذلك سببا في استعجال الإطاحة بها . وبذلك صار الانتماء السياسي ، في فترة من الفترات شبهة يتجنب و يتفادى كل من له طموح الصعود إلى المراكز القرار الاقتراب منها. وهذا ما جعل الأطر المغربية والنخب التواقة إلى المشاركة في تدبير شؤون بلدها ، لا ترى في الأحزاب السياسة قنوات للوصول إلى ما تتمناه ولا تعتبرها وسيلة إلى ما تطمح إليه ، خاصة وأن هذه الأحزاب ، في ظل الدستور القائم ، لا تتنافس إلا على هامش قليل من صناعة القرار و التدبير لشؤون البلاد ، و حيث لا يمكن لها أن تحلم بتطبيق برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، حتى في حالة إذا ما استطاعت، و بأعجوبة، تجاوز عقبات القوانين المؤطرة للعمليات الانتخابية( قانون الأحزاب ، مدونة الانتخابات ، التقطيع الانتخابي ، الميثاق الجماعي) وتفوز بغالبية الأصوات ، وبالتالي فهي أحزاب يحكم عليها الدستور القائم ، والقوانين المنظمة للعبة السياسية بقلة هامش حركتها و ضيق أفق عملها . لتصبح بعد ذلك منفرة للنخب والأطر، أكثر مما هي مغرية لها . وهذا جعلها قاعا صفصافا إلا من بعض النخب العائلية و الانتهازية ، وما رحم ربك من أقلية من الملتزمين إيديولوجيا بأحزابهم السياسية . احتكار الملكية لمساحة شاسعة من صناعة القرار في البلاد ، بمقتضى الدستور ،مكنها من فائض كبير من السلطة ، التي تتوزع بين ما هو تشريعي و ما هو تنفيذي، وما هو رمزي سيادي وما هو تدبيري ، وهذا ما جعل المؤسسة الملكية ا في حاجة إلى جيش عرمرم من الأطر والكفاءات من مستشارين ومكلفين بالمهام بالقصر والأصدقاء ، حتى تتمكن من تدبير هذا الفائض الكبير من السلطة. واختيار هذه الأطر المخزنية وتحديد مسؤوليات هؤلاء الذين يشتغلون إلى جانب الملك لا يخضع لقوانين شفافة ومعايير علمية واضحة محددة بقوانين ، مثل الكفاءة التقنية، والنزاهة العلمية والمعرفية ، والإخلاص في خدمة الوطن ، بقدر ما يخضع لمعايير مخزنية تقوم على مقاييس الولاء والصداقة والقرابة العائلية. فعدم التوازن بين المجالين في صناعة القرار بالمغرب : مجال شاسع و مسيج تتمتع به المؤسسة الملكية، وغير خاضع للمراقبة الدستورية و المحاسبة السياسية والمساءلة القانونية ، وتحول مع مرور الزمن إلى مجال للاغتناء والنفوذ، ليصبح بعد ذلك منطلقا لاحتكار الثروات ، من جهة. وهامش ضيق، من جهة ثانية يخضع للمراقبة الشعبية والمحاسبة القانونية و خاضع للمنافسة السياسية بين الأحزاب في الانتخابات، وفق ترسانة قانونية معرقلة لنشاطه أكثر مما هي مسهلة لتدبيره. وهل آن الأوان لإعادة التوازن في صناعة القرار بالمغرب بطريقة ديمقراطية لتكون مدخلا كذلك لتقسيم الثروة، وهل تستطيع الإصلاحات الدستورية المرتقبة الاضطلاع بهذه المهمة ؟ الاستاذ: محمد أقديم