بسم الله الرحمن الرحيم جدلية الثورة والديمقراطية والتنمية بقلم : مقداد إسعاد باحث في التنمية جامعة ليون الثالثة إنها جدلية وقت، فالثورة تتحقق في أشهر بينما الديمقراطية تبنى في سنوات عديدة أما التنمية فتحتاج إلى عشرات السنين. هذا لكن علاقة تربط بينها وهي صلة السببية، إذ غالبا ما تكون السابقة شرطا للتي تليها من هذه المفاهيم الثلاث. وتقليص مدة مخاض الثورة إلى شهور لا يعني أنها بهذه البساطة في تكوينها وولادتها، بل على اعتبار أنها هي أيضا نتيجة أو ذروة لمرحلة طويلة تتهيأ خلالها الظروف لتجعل الوضع على حافة الانفجار بانسداد الآفاق أمام التغيير بأشكال أخرى. تنطلق الثورة فلا يطول عليها الوقت لتؤول إلى مآلين اثنين لا ثالث لهما: إما الانتصار، فتثبت به كينونتها أو الفشل فلا تدخل أصلا إلى الوجود ولا يذكرها التاريخ فهي لم تولد أصلا. أما الديمقراطية وهي كما يقول المؤرخ جون باشلار فهي الوضع الطبيعي لبني البشر، لها أسباب لاستقرارها في مجتمع ما، وليست الثورة هي السبب الحصري للديمقراطية. وأهم الظروف التي تهيأ لها هي تكافؤ القوى الفاعلة في محيط ما، إذ يقدر كل طرف أنه لا يستطيع حسم الموقف بالقوة لصالحه فينزل إلى الحوار والتعايش وقبول الآخر. وقد يأتي هذا على أثر ثورة تقلب الموازين أو كنتيجة لضعف القوى المسيطرة تدريجيا حتى أنها لا تستطيع أن تُبقي على استئثارها بالامتيازات فتقبل بالآخر. ورغم أن الفيلسوف والمؤرخ باشلار لا يقول بأن الديمقراطية ولدت في اليونان إلا أن هذا البلد توفرت فيه شروط عديدة جعلت أثينا تعيش خلال القرن الرابع قبل الميلاد ظرفا استثنائيا كان سببا في تجلي الديمقراطية في أبهى حللها في ذلك الوقت المبكر. ومما زاد في جلاء الوضع هو إحاطة مدينة أثينا وما قاربها مهد الديمقراطية بمدن أخرى تعيش وضعا مناقضا تماما مثل مدينة سبارط التي تحكم بشكل أحادي، يعتمد فيها الحاكم المستبد على المحاربين عكس أثينا التي يحكمها مجلس يراقبه شعب. وكان سقراط أبو المدينة والديمقراطية بجدليته المتواصلة للبحث عن الحقيقة، ولم يزل كتابه الشهير "المدينة الفاضلة" المرجع الأكبر لنظريات السياسة. هذا أما المحيط العالمي لأثينا وقتها فقد كانت الإمبراطوريات الفرس شرقا ومصر جنوبا تحت حكم ملوك أشداء رجحوا الكف لصالحهم ولم تتهيأ للديمقراطية ظروف نشأتها. أما في أثينا فقد أدى عجز الأسياد والملاك الكبار في فرض سيطرتهم على الفلاحين والعمال إلى تنازلهم للحوار وكانت الديمقراطية. هذا أما الانطلاقة الثانية للديمقراطية في أوربا فقد تهيأت لها أيضا ظروفها وكانت الثورات هي الغالبة عليها رغم أن عوامل كثيرة أضيفت إليها وتفاعلت معها ومنها الابتكارات التقنية وكذا السياسات الاجتماعية ولعل أهمها نشوء الدولة الحديثة L'état-nation مقابل ذاك النظام الهلامي ذي الصبغة الدينية وبعد حروب دينية وصراعات شديدة بين البابا وبعض الملوك، حسمت أوربا أمرها في مؤتمر واستفلي ببروسيا سنة 1648 لتعمد إلى شكل تنظيم جديد للأقاليم تكون فيه السيادة للدولة ولا شيء فوقها. مكن هذا التحديد الجغرافي والبشري من وضع الآليات التنظيمية المختلفة مثل سجلات الحالة المدنية التي بدأت قبل ذلك بقليل. وما كان لباقي الآليات التسييرية للمجتمعات ومنها الانتخابات والأحزاب والمجتمع المدني أن تجد لها طريقا دون تحديد تلك المجموعات البشرية ضمن الدولة الحديثة. الديمقراطية هي عملية بناء تأخذ وقتا طويلا عكس الثورة التي عرفت بالهدم إذ لا بد من إزالة الوضع الماضي بخيره وشره لأنها لا تأتي إلا عندما يستحيل الإصلاح أي الإبقاء على الجانب الخيري فيه وإزالة ما هو شر منه. يحصل الهدم في وقت وجيز تطغى خلاله وبعده الفوضى، ثم يأتي زمن البناء فيتغير سلم الوقت من الواحد إلى العشرة أو أكثر، ويتطلب الوضع الجديد الصبر وطول النفس بقدر ما يتطلب ما قبله الثورة والغضب والغليان. في تونس اليوم وهي في صدارة العالم العربي. تحققت الثورة في بعض البلدان بإسقاط رأس النظام وباشرت مرحلة البناء. وبعضها الآخر لا يزال يخلخل رؤوسا متشبثة بالبقاء. وفي النهاية ستسقط كلها لغياب الخصوصيات الكبيرة بين الشعوب والأنظمة العربية. هذا ورغم غزارة الدماء البريئة التي تسيل في كثير من البلدان العربية إلا أن العالم يعيش في معظمه مرحلة ما بعد الثورة أي التأسيس للديمقراطية وهي ولا شك مرحلة ستطول. ذلك أن الثورة تقوم بها الشعوب أما البناء فيكون بواسطة آليات وهياكل يتطلب وضعها وفعاليتها ونجاعتها وقتا لا بد من الصبر عليه. فالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تختلف بحسب أفكارها وأجنداتها ووعيها. كثير ما تعمد إلى تسبيق مصالحها الخاصة على الصالح العام فلا يحصل الإتفاق العام consensus على سيادة الشعب إلا بعد دورات ومحاولات كثيرة يفشل بعضها وينجح الآخر حتى يقبل الكل بوضعه ويسلم للشعب بحقه المطلق في إعطاء أوزان القوى الفاعلة. هذا ومما يطيل تلك الفترة اصطياد بعضهم وخاصة المتضررين من التغيير في الماء العكر والتشبث بمواقع ومكاسب حرمتهم الثورة منها. أما التنمية فهي المطلب الأسمى والغاية القصوى للتغيير، والديمقراطية هي إحدى شروطها الأساسية، والعالم اليوم يعج بالأمثلة لتدعيم هذا الطرح إذ أن كل الدول النامية ديمقراطية وعلى رأسها الثلاثية حاكمة العالم أوربا، أمريكا الشمالية واليابان، لكننا على عكس ذلك قد نجد بلدانا على مستوى عالي من الحريات السياسية لكنها فقيرة ومتأخرة في توفير العيش الهانئ لشعبها، وهذا ما يجعل طريق التنمية طويلا وشاقا خاصة عند غياب الموارد والثروات. أما معادلة التنمية فهي موارد مختلفة مضروبة في شيئين اثنين هما: الإرادة والتنظيم فإذا انعدم واحد من هذين الشرطين تنعدم التنمية. كثيرون هم أولئك المخلصون المتحمسون الذين يعملون في فوضى ودون تمكن من الآليات التنظيمية العلمية والحديثة. لا ينفع تفانيهم وحماسهم لجلب التنمية لشعوبهم. وكثيرون كذلك أولئك الخبراء الذين لم يدفعهم علمهم إلى شحذ هممهم خدمة لأوطانهم. هكذا إذا كانت الإرادة سلبية كانت القوة الأمة سلبية أيضا وكذلك الأمر بالنسبة للتنظيم. هذا أما الثروات فهي سلاح ذو حدين لأنها كثيرا ما تصبح سببا في النزاعات والحروب فتنقلب من نعمة إلى نقمة على شعوب تلك الأقاليم. وهذا ما يعرف بالعقدة الهولندية Le syndrome Hollandaisولعل أحسن مثالين للتدليل على هذا هما دولتا الكونغو الديمقراطية (الزائير سابقا) واليابان. تزخر الأولى بثروات طبيعية كثيرة دفعت دكتاتورها السابق "موبوتو" إلى التفاخر أمام العالم بأن في بلده ثروات متعددة، ويحلو له أن يذكر بها بحسب الترتيب الأبجدي من حديد وزنك ونحاس وذهب، مذكرا بأن لكل حرف هجائي مادته في بلده. لكن كل تلك الثروات لم تمكن بلده من الخروج من دائرة التخلف بل زادته تخلفا جراء التكالب والتناحر والحروب طمعا في الحصول على الكثير منها. وفي المقابل دولة اليابان أفقر بلدان العالم من حيث الثروات الطبيعية فحتى في مجال الفلاحة لا يصلح من أراضيها للزراعة إلا ما نسبته خمسة في المائة ومع كل ذلك فهي ثاني بلد غني في العالم. عوضت عن فقرها من المواد الطبيعية بثروة أخرى غير مادية متمثلة في العلم والتنظيم والكد والإرادة واحترام الحريات والديمقراطية. نعم الديمقراطية شرط التنمية لكنها لا تكفي، فدولة مثل بنغلادش تصنف ضمن البلدان الديمقراطية حيث الانتخابات النزيهة والتمثيل البرلماني واحترام الحريات واستقلال القضاء، لكنها كثيرة العدد من حيث السكان وقليلة الموارد الطبيعية، إضافة إلى وجودها في محيط تكثر فيه الفياضانات والإعصارات. ومع كل ذلك استطاعت أن تنال جائزة نوبل للسلام. حاز عليها محمد يونس الاقتصادي الشهير صاحب فكرة القروض المصغرة التي أثبتت نجاعتها في طريق التنمية ليس فقط في بلده هو وبلدان أخرى فقيرة بل في بلدان الغرب الغنية أيضا. هكذا يثور شعب على مستغليه، يهدم كثيرا مما لديه في وقت وجيز ثم ينطلق في البناء الديمقراطي فيطور شأنه، إذ لا بد من تجارب على أرض الواقع تُثبّت القناعات وتحدد موازين القوى بين الفاعلين. ولما يستقر الأمر على وضع معين يقبل به الجميع ينطلقون إلى تنمية المجتمع فيدركون حينها أن الجد قد جد وأن إزاحة الدكتاتور رغم أهميتها ليست في الحقيقة إلا أيسر المهام. ثم بعد أن ينتهي الجميع من إرساء قواعد الديمقراطية والتعايش السلمي والفاعل يدركون أيضا أن عقبة أخرى أصعب من الأولى تقف في طريقهم متمثلة في قلة الموارد، حينها يتأسفون على ما أضاعوه من وقت في خلافاتهم الجانبية في المرحلة المنقضية وينطلقون مجتهدين في البحث عن الآليات التي تحسن وضع معيشتهم. وهذه هي الخاصية الثانية للإنسان العمل على تجاوز العقبات التي تحول أمام سيطرته على محيطه. ونذكر أن الأولى كانت حول حقيقة أن الديمقراطية هي الوضعية الطبيعية لحياة المجتمعات البشرية. والتنمية مستدامة أولا تكون، وحتى تكون كذلك يجب ألا تعتمد على ركيزة واحدة وهي السعي وراء الإستزادة من الربح والثروة كثمرة لمردودية اقتصادية عالية، بل يجب أخذ التنمية البشرية بعين الاعتبار و ضمان حقوق العامل وتنميته ولو كلف ذلك صاحب المال مصاريف إضافية لترقية اليد العاملة ورسكلتها وحمايتها اجتماعيا حتى تواصل عطاءها وتزيد في مردوديتها. أما المحيط فحدث ولا حرج، لقد أدرك العالم متأخرا أن السعي المطرد وراء المردودية الاقتصادية أفسد الكثير وأضر بالبيئة والمحيط. إن التنمية لا يمكن أن تدوم بهذا التهديم وهذا الاستهلاك الغير الرشيد دون مراعاة لحساسية الطبيعة والبيئة. إن الأرض إلى حد ما وصل إليه العلم اليوم هي الكوكب الوحيد القابل للحياة، والغلاف الجوي له حدود ونهايات فهو بمثابة الغرفة المغلقة تحتوي أساسا غازين إثنين هما الأكسجين والآزوت. وما يقذف فيها من غازات أخرى كربونية بالأساس يغير مكوناتها ويضعف قابليتها للحياة إضافة إلى التأثير في درجات الحرارة جراء الإنحباس الحراري. التنمية المستدامة هي تنمية رشيدة ومسؤولة ترتكز على ركائز ثلاث اقتصادية، اجتماعية، وبيئية في جو من الحكامة الراشدة