النظر في فكر آباء الصحوة الإسلامية وقراءته يساعدنا على فهم الإسلام وكيف ندعو إليه أكثر، لا سيما أن العوامل البيئية فيها عناصر مشتركة، فقد كان في وسطهم العلمانيون والنصارى والشيعة وغيرهم، كما هم في وسطنا، نذكر هنا نموذجًا من هؤلاء العلماء الذين استطاعوا أن يقدموا الحضارة الإسلامية بشكل يفرض على الجميع احترامها. هو الشيخ طاهر الجزائري المتوفى سنة (1338ه،1920م) العلامة الأصولي الفقيه المتكلِّم المحدِّث المفسّر الألسنيّ اللغويّ... حمل الشيخ طاهر الجزائري على عاتقه النهوض بهذه الأمة من الجهل إلى العلم، ومن الضَّعف إلى القوة، ومن التخلف إلى الحضارة والتقدُّم. كان يرى الشيخ طاهر أن حلَّ هذه الأمة في العلم، فهو طريقها إلى النهضة، وكانت طريقته في التعليم غير تقليدية، فقد كوَّن لنفسه حلقة يجتمع فيها بزملائه والمخلصين من هذه الأمة، كان محور وهدف هذه الحلقة هو: تعلُّم العلوم الحديثة، وتدارس التاريخ والتراث الفكري الإسلامي واللغة العربية وآدابها، والدعوة إلى التمسك بمحاسن الأخلاق والقيم الإسلامية، والانفتاح على الغرب من خلال الأخذ بالصالح من مدنيته الحديثة ونبذ كل ما لا ينسجم مع الشريعة والعقيدة الإسلامية، وكانت تدور في هذه الحلقة أحاديثٌ ومحاوراتٌ عن الوسائل التي يجب الأخذ بها لرفع مستوى التعليم والتفكير عند المسلمين. وكان من أهم روّاد هذه الحلقة التي ترأسها الشيخ طاهر الجزائري علماء مصلحون، كالإمام المحدّث المفسّر المصلح جمال الدين القاسمي، والمؤرِّخ العلامة عبد الرزاق البيطار، ومن بينهم شباب الإصلاح ... أمثال الشيخ محمد علي مسلم، رفيق العظم، عثمان العظم، محمد كرد علي، عبد الحميد الزهراوي، محبِّ الدِّين الخطيب، وكل هؤلاء أصبحوا منارات هدى يستضاء بهم ويبعثون الروح في أمة الإسلام. كان للشيخ طاهر علاقات صداقة مع كل الأطياف والطبقات من سياسيين واجتماعيين وأصحاب الكلمة وطلبة علم، ويستغرب البعض–كما استغربتُ أنا- عندما يسمع أن من بين صداقاته المستشرق المجري الجنسية اليهودي الديانة الشهير جولدتسيهر صاحب كتاب العقيدة والشريعة، ومرجليوث وبراون الإنجليزين، وكاير مونكانو الفرنسي، وجويدي الإيطالي، يبين تلميذه الأستاذ كرد علي أثر هذه العلاقة قائلًا: " وكثيرًا ما كانت صلاته بعلماء المشرقيات باعثة على تخفيف حملاتهم على الإسلام ولو قليلًا، وهذا ما كان يهتم له". وهذه رسالة بعثها المستشرقُ جولدتسيهر إلى الشيخ طاهر أذكر لك بعضها: "سلام إلى صاحب الشرف الباذخ والفضل الشامخ، من هو المرجع للأمائل والأفاضل، الحاوي لأقصى معارج الفضائل والفواضل، العالم العلامة الشيخ طاهر بن صالح المغربي الجزائري أدام الله تعالى فضله وزاد بقاءه... آمين، لله درّ عصابة نادمتُهم يومًا بجلّق في الزمان الأول..." وارجع إلى كتاب (الشيخ طاهر الجزائري رائد التجديد الديني في بلاد الشام، لحازم زكريا محي الدين، طبعة دار القلم). ولئلا يطول بنا المقام نذكر هنا ما ختم به المؤلف في كتابه المعنوَن (خاتمة، الرؤية الإصلاحية للشيخ طاهر الجزائري)، يبين أن الجزائري كان صاحب مشروع حضاري متكامل لهذه الأمة قوامه التربية والتعليم، فقد كان رحمه الله يدعو المسلمين من جهة إلى تلقّف علومهم، والاعتصام بها، والعناية بتراثهم، ونشر كنوزه ودفائنه، لتبقى العقيدة والشريعة والقيم الإسلامية ضوابط ومنارات يهتدون بها في كل الظروف والحالات، ويستأنفوا دورتهم الحضارية على أساسٍ مكين منها. ومن جهة أخرى كان يدعو المسلمين إلى أن يفتحوا قلوبهم وأفكارهم لعامة علومهم الأوائل والأواخر، من الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية على اختلاف أنواعها، فمن الواجب على الأمة أن تطّلع على الكسب الحضاري الذي أنجزه الغرب في عصره، لتزداد قوة على قوة، وتتسلّح بكل أسباب البقاء والمنعة، وكان يقول لأصحابه:" تعلّموا كل ما يتيسّر لكم تعلّمه، ولو لغة مالطة، فقد يجيء زمان تحتاجون إليها، وإياكم أن تقولوا: إنها لا تدخل في اختصاصنا، فالعلم كله نافع، والمرء يتعلّم ما حسنت به الحياة". وكان رحمه الله لا يؤمن بالعنف والإكراه طريقًا يمكن أن يتوصَّل به إلى إصلاح أمر الأمة وإنهاضها، فهو يرى أن الإصلاح على اختلاف أنواعه لا بدّ أن يكون على سبيل التدرج، وفقًا لمقتضى السنن الطبيعية، لأن ما يأتي على جناح السرعة لا يلبث أن يرجع من حيث أتى". وكان رحمه الله يدعو إلى بثّ روح الوحدة والتسامح بين فرقاء الأمة الواحدة، ويبذل الجهد المتواصل لإزالة الخلافات بين الفرق الإسلامية، وكان ينفتح على جميع الفرق فيسمع من الشّيعة والإباضية ويحاورهم وربّما أعطاهم فرصة الكلام أكثر من إخوانه من السنة. هذه نبذة مختصرة جدًا من سيرة الرجل، وإلا ففي ترجمته مؤلفات منها لتلامذته كالباني في تنوير البصائر، ومحمد كرد علي في كنوز الأجداد، ومحب الدين الخطيب وغيرهم. وعرضنا لهذه الشخصية لا يعني تقليدها، أو فرض رؤيتها هذه على الجميع، وإلا وقعنا في الذي نعاني منه، وإنما يعني أن هذه سيرة من سير أجدادنا العلماء، وقد قالوا قديما: " لا تتكلم في مسألة إلا ولك فيها إمام"، ينبغي علينا أن نتدبّرها وأن نقرأها، وقال بعضهم :"سير الرجال أحبُّ إليَّ من كثيرٍ من الفقه"، ذلك لأن الصالحين عندما نقرأ سيرهم، نجد في أقوالهم عُصارة تجاربهم وخلاصة أفكارهم بعدما عركوا الحياة وعالجوا أخطارها. كما أنه يشعرنا بالفخر والأنفة حينما نعلم أن آباءنا وأجدادنا أمثال هؤلاء كما قال القائل... أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع فالدعوة الآن لقراءة سير علمائنا متوجّبة لا سيما آباء الصحوة الإسلامية أمثال العلامة جمال الدين القاسمي، ومحدِّث وادي النيل أحمد شاكر، والمجدِّد رشيد رضا، وغيرهم الكثير، ومقالات هؤلاء وتراجمهم ومذكّراتهم متوفّرة، فينبغي لنا جميعًا أن نعلم كيف كان يفكر هؤلاء، وكيف كانت دعوتهم الإصلاحية، هذا كله يساعدنا كثيرًا على فهمٍ أكثر للإسلام، وعلى تعاملٍ أعمق مع الواقع الذي نعيشه، وعلى فكرٍ ينهض بالأمة العربية والإسلامية. والدعوة إلى قراءتهم ضرورة لأن الكثير منّا حينما يتكلم عن الإسلام وسماحته في ظل هذه الظروف، لا يذكر إلا أسماء الإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والشيخ محمد الغزالي، ممن لُمّعت أسماؤهم وروِّج لهم بقصدٍ وبغير قصدٍ، فلابد أن نفهم أن الدائرة أوسع من هؤلاء بكثير، وأن النهضة العربية والإسلامية عندما دُقّت بشائرها لم يحملها على عاتقه شخص أو اثنان، وإنما رجال كان فكر كل واحد منهم بفكر أمة، اشترك الجميع في الإرادة الناهضة لهذه الأمة، واختلفت طرقهم في ذلك، ولم يكن يضرّ أحدهم المكان الذي يعيش فيه بقدر ما يهمّه نهضة هذه الأمة فهذا الشامي يأتي إلى مصر ليصلح فيها، وذاك المصريّ يذهب إلى الجزيرة ليعلّم بها. وبقي الدور علينا في الوفاء لهم بإحياء ذكراهم، وتعطير مجالسنا بآثارهم، واستكمال طريقهم نحو القمة، وأخيرًا أقترح تأسيس موقع إلكتروني للتعريف بهؤلاء وإطلاق سباق علمي بسرد الأسماء والتّعريف بالجهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها". والله من وراء القصد...