هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    التونسيون يتساءلون ...هل تصل أَضحية العيد ل'' زوز ملايين'' هذه السنة ؟    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    دورة مدريد: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة العاشرة عالميا    كأس الكاف: حمزة المثلوثي يقود الزمالك المصري للدور النهائي    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    انتشار ''الإسهال'' في تونس: مديرة اليقظة الصحّية تُوضح    تقلبات جوية في الساعات القادمة ..التفاصيل    مفزع: 17 حالة وفاة خلال 24 ساعة في حوادث مختلفة..    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    الكشف عن توقيت نهائي رابطة الأبطال الإفريقية بين الترجي و الأهلي و برنامج النقل التلفزي    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    عاجل/ تفكيك شبكة مُختصة في الإتجار بالبشر واصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن في حق أعضائها    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    غار الدماء: قتيلان في انقلاب دراجة نارية في المنحدرات الجبلية    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    50 % نسبة مساهمة زيت الزيتون بالصادرات الغذائية وهذه مرتبة تونس عالميا    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصولية.. غربية المصطلح وتضاد المضمون:د. محمد عمارة
نشر في الفجر نيوز يوم 01 - 11 - 2009

الأصولية "fundamentalism" بالمعنى الذي شاع مضمونه في أوساطنا الإعلامية والثقافية والسياسية المعاصرة- هو مصطلح غربي النشأة وغربي المضمون، ولأصله العربي ومعانيه الإعلامية مضامين ومفاهيم أخرى مغايرة لمضامينه الغربية، التي يقصد إليها الآن متداولوه.
وهذا الاختلاف في المضامين والمفاهيم، مع الاتحاد في المصطلح _الوعاء_ أمر شائع في العديد من المصطلحات التي يتداولها العرب والمسلمون ويتداولها الغرب، مع تغاير مضامينها في كل حضارة، وهو أمر يحدث الكثير من اللبس والخلط في حياتنا الثقافية والسياسية والإعلامية المعاصرة، التي خلطت فيها وسائل الاتصال مصطلحات كثيرة، اتحدت في اللفظ مع اختلافها في المضامين والخلفيات والإيحاءات.
فمصطلح "اليسار" مثلاً يرمز في الفكر الغربي للأجراء والفقراء وأهل الفاقة والحاجة، بينما يدل في المفاهيم العربية والإسلامية، على أهل الغنى واليسر والنعيم!.
ومصطلح اليمين " مثلا- يدل في الفكر الغربي على أهل التخلف والرجعية والجمود، بينما هو يعني في فكر العربية والإسلام، أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فأقبلوا على بارئهم، يوم الحساب، يتناولون صحائف أعمالهم الطيبة باليمين، أي القوة والثبات والاطمئنان!
ولذلك كان الإمام عبد الحميد بن باديس (1307- 1359 ه 1889- 1940) يدعو الله سبحانه وتعالى، فيقول: اللهم اجعلني في الدنيا من أهل اليسار، واجعلني في الآخر من أهل اليمين! بالمفهوم الإسلامي، طبعاً، وليس بمفهوم الغربيين!.
نشأة غربية
والأصولية في المحيط الغربي هي في الأصل والأساس حركة بروتستانتية التوجه أمريكية النشأة، انطلقت في القرن التاسع عشر الميلادي، من صفوف حركة أوسع هي "الحركة الألفية" التي كانت تؤمن بالعودة المادية والجسدية للمسيح عليه السلام مرة ثانية إلى هذا العالم، ليحكمه ألف عام تسبق يوم الدينونة والحساب.
والموقف الفكري الذي ميز هذه الأصولية هو: "التفسير الحرفي للإنجيل وكل النصوص الدينية الموروثة، والرفض الكامل لأي لون من ألوان التأويل لأي من هذه النصوص (حتى ولو كانت – كما هو حال الكثير منها مجازات روحية ورموزاً صوفية ) ومعاداة الدراسات النقدية التي كتبت للإنجيل والكتاب المقدس، وانطلاقاً من التفسير الحرفي للإنجيل قال الأصوليون البروتستانت بالعودة الجسدية للمسيح ليحكم العالم ألف عام سعيدة؛ لأنهم فسروا "رؤيا يوحنا – (سفر الرؤيا 10 – 1- 10)- تفسيرا حرفيا.
وعندما أصبحت الأصولية مذهبا مستقلا بذاته في بداية القرن العشرين، تبلورت لها عبر مؤتمراتها ومن خلال مؤسساتها وكتابات قساوستها مقولات تنطلق من التفسير الحرفي للإنجيل، داعية إلى مخاصمة الواقع ورفض التطور، ومعاداة المجتمعات العلمانية، بخيرها وشرها على السواء..
فهم-مثلاً– يدعون التلقي المباشر عن الله، ويتوجهون إلى العزلة عن الحياة الاجتماعية، ويرفضون التفاعل مع الواقع ويعادون العقل والتفكير العلمي والمبتكرات العلمية، فيهجرون الجامعات، ويقيمون لتعليمهم مؤسسات خاصة، وهم يرفضون إيجابيات الحياة العلمانية، ومن باب أولى سلبياتها، من الإجهاض وتحديد النسل إلي الشذوذ الجنسي والدعوات المدافعة عن "حقوق" أهله، ومن المكسرات والتدخين والرقص إلى الاشتراكية.
ولقد شهدت الحركة الأصولية في العقود الأولى من القرن العشرين عددا من المؤتمرات التي أفضت إلى عدد من المنظمات، كان من أبرزها- في أمريكا "جمعية الكتاب المقدس" سنة 1902 وهي التي أصدرت اثنتي عشرة نشرة بعنوان fundamentals "الأصول" دفاعاً عن التفسير الحرفي للإنجيل، وهجوما على نقده أو تأويله، ومن المنظمات كذلك "المؤسسة العالمية للأصوليين المسيحيين" سنة 1919 م و"الاتحاد الوطني للأصوليين".
تلك هي الأصولية في الاصطلاح الغربي، وبالمفهوم النصراني .
الأصولية عربيا
أما في المنظار العربي والمفهوم الإسلامي، فإننا لا نجد في معاجمنا القديمة، لغوية كانت أو كشافات للمصطلحات – ذكرا لهذه النسبة- "الأصولية" وإنما نجد الجذر اللغوي – "الأصل" بمعنى: أسفل الشيء والحس، وجمعه : أصول، وفي القرآن الكريم: (ما قطعتهم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) (الحشر:5).
ورجل أصيل: له أصل ومتمكن في أصله، وثابت الرأي عاقل، ورأي أصيل: له أصل، ومجد أصيل: أي ذو أصالة، والأصل كذلك القرار " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم" (الصافات:64) والجذر "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء" (إبراهيم:24) والأصلي يقابل الفرعي أو الزائد، أو الاحتياطي، أو المقلد.
ويطلق الأصل على القانون والقاعدة المناسبة المنطبقة على الجزئيات، وعلى الحالة القديمة، كما في قول علماء أصول الفقه: الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، والأصول: المبادئ المسلمة.
وعند علماء "الأصول" يطلق الأصل على معان، أحدها: الدليل يقال: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة، وثانيها: القاعدة الكلية، وثالثها: الراجح، أي الأولى والأخرى
ولقد تبلورت في الحضارة الإسلامية علوم "أصول الدين" وهو علم الكلام – التوحيد – الفقه الأكبر- و "أصول الفقه- وهو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية – "وأصول الحديث" ويقصد بها علم مصطلح الحديث.
وهكذا يخلو تراث الإسلام وحضارته وتخلو معاجم العربية وقواميسها من مصطلح "الأصولية" ومن المضامين التي عرفها الغرب لهذا المصطلح.
وحتى في فكرنا الإسلامي المعاصر، الذي استخدم بعض علمائه مصطلح "الأصولية " في مباحث علم أصول الفقه- وجدناه يعني: "القواعد الأصولية التشريعية التي استمدها علماء أصول الفقه من النصوص التي قررت مبادئ تشريعية عامة وأصولاً تشريعية كلية، مثل:
1- المقصد العام من التشريع
2- وما حق الله وما حق المكلف.
3- وما يسوغ الاجتهاد فيه
4- ونسخ الحكم
5- والتعارض والترجيح ، ولا علاقة لأي منها بمضامين مصطلح "الأصولية" في الحضارة الغربية وفكرها النصراني.
براءة التراث الإسلامي
لكن وبصرف النظر عن التسمية، يمكن أن يثور السؤال التالي:
هل في تيارات الفكر الإسلامي ومذاهبه _القديم منها والحديث_ تيار أو مذهب وقف من النصوص المقدسة موقف الأصوليين الغربيين، فقال بالتفسير الحرفي للقرآن والسنة، ورفض كل ألوان المجاز والتأويل لأي نص مهما بدا من تعارض ظاهر مع براهين العقل، حتى يمكن أن يقال: إن موقف هذا التيار أو المذهب، إزاء النصوص الإسلامية المقدسة هو ذات موقف التيار الأصولي النصراني من الإنجيل والكتاب المقدس؟ الأمر الذي يبرز القول بوجود "أصولية إسلامية" بهذا المعنى الغربي - السلبي ، لمصطلح "الأصولية"؟
إن حقيقة الجواب على هذا السؤال هي النفي القاطع والأكيد.. فكل تيارات الفكر الإسلامي القديمة- سواء القلة من "أهل الأثر" و "أصحاب الحديث"، و"الظاهرية" هم الكثرة الغالبة من أهل "الرأي" قد قبلوا بالمجاز و"التأويل" لطائفة كبيرة من النصوص المقدسة، بل يكاد الإجماع ينعقد على أن مالا يقبل التأويل من النصوص- وهو الذي يسمى، في الاصطلاح الأصولي "محكماً" هو القلة، بينما الكثرة في النصوص هي مما فيها للرأي والتأويل والاجتهاد مجال.
ولقد كان التمايز والاختلاف بين هذه التيارات الفكرية الإسلامية كامنا في الاقتصاد في التأويل إزاءه أو التوغل فيه، ولم يرفضه، وبإطلاق مذهب من مذاهب الإسلام.
وإذا كان "التأويل" في تعريف ابن رشد (520 – 595 ه - 1126 – 1198) هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء: بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك مما عد في تعريف أصناف الكلام المجازي ، فإن حجة الإسلام الغزالي (450- 505 ه 1085- 1111م) قد مد آفاق التأويل المقبول إلى خمس مراتب لوجود الشيء الذي جاء به النص" تدخل هذه المراتب التأويلية بصاحبها إلى نطاق التصديق والإيمان، وتدفع عنه تهمة التكذيب والزندقة، وهذه المراتب هي:
1. الوجود الذاتي: وهو الوجود الحقيقي، الثابت خارج الحس والعقل، ولكن يأخذ الحس عنه صورة، فيسمى أخذه إدراكاً.
2. والوجود الحسي: الذي يتمثل في القوة الباصرة من العين، مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجوداً في الحس، ويختص به الحاس، ولا يشاركه غيره، وذلك كما يشاهد النائم، بل كما يشاهد المريض المتيقظ.
3. والوجود الخيالي: الذي يخترعه الخيال لصور المحسوسات إذا غابت عن الحس، فهو موجود في الدماغ لا في الخارج.
4. والوجود العقلي: فيما له روح وحقيقة ومعنى كاليد، مثلاً، فإن لها صورة محسوسة ومتخيلة ، ولها معنى هو حقيقتها، وهي القدرة على البطش- التي هي "اليد العقلية"
5. والوجود الشبهي: وهو أن لا يكون نفس الشيء موجوداً، لا بصورته، ولا بحقيقته لا في الخارج ، ولا في الحس ولا في الخيال ولا في العقل، ولكن يكون الموجود شيء آخر يشبهه في خاصة من خواصه وصفة من صفاته.
فكل من نزل قولاً من أقوال النبوة ونصاً من النصوص المقدسة على درجة من هذه الدرجات فهو من المصدقين، لأن التكذيب: هو نفس جميع هذه المعاني الواردة في هذه المراتب، والأداء بأن ما أخرت به النصوص هو كذب محض وتلبيس، وذلك هو الكفر والزندقة" ولا يلزم كفر المتأولين ما داموا يلازمون قانون التأويل.
ثم يؤكد حجة الإسلام الغزالي أن كل مذاهب الإسلام قد لجأت إلى التأويل "فما من فريق من أهل الإسلام إلا هو مضطر إلى التأويل وأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل (164- 241 ه 870 – 855 م) سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون: إنه صرح بتأويل ثلاثة أحاديث" منها ما هو أبعد وجوه التأويل، وإنما اقتصر على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم يكن ممعنا في النظر العقلي، أما الأشعرية والمعتزلة فلزيادة بحثهما تجاوزوا إلى تأويل ظواهر كثيرة، والأشعرية أولو أكثر الظواهر في أمور الآخرة إلا يسيراً، والمعتزلة أشد توغلاً في التأويل
فليس إذن، بين مذاهب الإسلام القديمة من وقف تماماً ودائماً عند حرفية النصوص، رافضاً أي تأويل، حتى يمكن إطلاق مصطلح "الأصولية" بالمفهوم الغربي، عليه.
وقد خلت تيارات فكرنا الإسلامي، الحديث والمعاصر، من تيار يماثل- في الموقف من المجاز والتأويل والتفسير الحرفي للنصوص- أصولية الغرب النصرانية، فالإمام محمد عبده (1265- 1323 ه - 1849 – 1905 م ) يجعل تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض "أصلاً من أصول الإسلام ويقول : لقد اتفق أهل الملة الإسلامية، إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه ، على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقتان: طريق التسليم بصحة المنقول، مع الاعتراف بالعجز عن فهمه وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية: تأويله مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل، وبهذا الأصل ،الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل، وأزيلت من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد ، وهذا مذهب أبعد ما يكون عن "الأصولية بالمعنى الغربي لمصطلحها.
ولما كان الشيخ محمد رشيد رضا (1282 – 1354 ه 1865 – 1935 م) قد مثل حلقة الوصل بين محمد عبده وبين الشيخ حسن البنا (1324 – 1368 ه 1906 – 1949 م) حتى لقد جعل حسن البنا من كتاب محمد عبده، الذي ورد فيه النص الذي أوردناه – وهو كتاب ( الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية ) واحداً من مواد التثقيف في "جماعة الإخوان المسلمين" فلقد وجدنا هذا الموقف من علاقة العقل بالنقل هو موقف المرشد العام للإخوان، فهو يصف، جماعته بأنها دعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب ، وينفي إمكانية اختلاف النظر الشرعي والنظر العقلي في القطعي (من الأدلة) فلن تصطدم حقيقة علمية بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منها ليتفق مع القطعي، فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار، فلقد جاء الإسلام الحنيف يفضل القضية فصلاً حقاً، فجمع بين الإيمان بالغيب وبين الانتفاع بالعقل... فإلى هذا اللون من التفكير الذي يجمع بين العقليتين: الغيبية والعلمية، ندعو الناس .. وبالطبع فهذا موقف لا أثر فيه لمضمون "الأصولية" كما عرفه النصارى الغربيون.
شهادات غربية
بل إن بعض الكتاب الغربيين، الذي أطلقوا مصطلح "الأصولية" على الصحوة الإسلامية المعاصرة، نراهم – وهم يتحدثون عن علاقة هذه الصحوة ب"الماضي الإسلامي يجعلون موقفها هذا من "الماضي" والتراث على العكس من موقف الأصوليين الغربيين من ماضيهم وتراثهم النصراني!
فعلى حين تنسحب "الأصولية" بمعناها الغربي، إلى الماضي مخاصمة الحاضر والمستقبل، نجد الصحوة الإسلامية المعاصرة- بشهادة هؤلاء الكتاب الغربيين – تتخذ من العلاقة بالماضي ومن النظر إليه ومن علاقته بالمستقبل موقفاً مختلفاً، فهي تريد "بعث الماضي" لا على النحو الذي تفعله التيارات الجامدة و"المحافظة"، وإنما بعثاً ينظر إلى هذا الماضي ليتخذ منه "هداية للمستقبل"، الأمر الذي يجعل أهل هذه الصحوة- بنظر هؤلاء الكتاب- ثواراً وليسوا محافظين"!
ومن أصحاب هذه الرؤية وهذا التقييم للصحوة الإسلامية المعاصرة، الرئيس الأمريكي الأسبق "ربيتشارد نيكسون "الذي يقول عنها في كتابه (الفرصة السانحة seizthe moment) : "إنهم هم الذين يحركهم حقدهم الشديد ضد الغرب، وهم مصممون على استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي، ويهدفون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وينادون بأن الإسلام دين ودولة بالرغم من أنهم ينظرون إلى الماضي، فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل، فهم ليسوا محافظين ولكنهم ثوار "
بل إن عدداً كبيراً من المستشرقين المعاصرين- وخاصة الخبراء منهم في الفكر الإسلامي- والأكثر التزاما بمعايير الفكر الإسلامي، والأكثر التزاما بمعايير "الفكر" المتميز عن "لغة الإعلام" يرفضون صراحة إطلاق مصطلح "الأصولية على ظاهرة الإحياء الإسلامي واليقظة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وبلسان هؤلاء يقول المستشرقين الفرنسي الأشهر "جاك بيرك": أنا أرفض تعبير الأصولية لأنه أت من النزاعات داخل الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية، هناك مسلمون العامة، وهناك الإسلاميون الذين يشددون على قدرة الإسلام على إيجاد حلول مناسبة لمشاكل الحياة اليومية، وقدرته على بناء دولة ومؤسسات، وهؤلاء لا يقفون عند الطبيعة الدينية للإسلام فقط، هذه أطروحة من نسميهم الإسلاميين..
ويؤكد: "إنها حركات تسعى إلى تقريب العالم العربي من منابعه، ولديهم خطابات تجعلهم مختلفين بعضهم عن بعض، لكنهم يلتقون في الدعوة إلى الرجوع إلى الأصول، وبخاصة القرآن، ويدعون إلى إعادة تأصيل القرآن باعتباره قادراً على تقديم الحلول للمشاكل التي يطرحها العالم المعاصر، يطرحون ذلك في مواجهة المجتمعات التي وضعت نفسها منذ مائة سنة في مدرسة الغرب، ولم تحقق النجاحات المطلوبة!
ومع "جاك بيرك " في رفض إطلاق مصطلح الأصولية" ذي المضامين الغربية السلبية- على الظاهرة الإسلامية "المعاصرة، يقف العديد من كبار المستشرقين منهم المستشرق الأمريكي روجر أوين "والمستشرقة الأسبانية "كارمن رويث" والمستشرق الروسي "فيتالى ناعومكين" والمستشرقين الإنجليزيين "هومى بابا" و "روبن أوستل" إلخ ..
وهكذا نجد اختلافا بينا، قد يبلغ حد التضاد، بين مفهوم ومضمون مصطلح "الأصولية"، كما عرفتها النصرانية الغربية، وبين مفهوم هذا المصطلح في تراثنا الإسلامي ولدى تيارتنا الفكرية..
فالأصوليون في الغرب: هم أهل الجمود والتقليد الذين يخاصمون العقل والمجاز والتأويل والقياس وينسحبون من العصر، فيقفون عند التفسير الحرفي للنصوص.. بينما الأصوليون في الحضارة الإسلامية: هم علماء أصول الفقه – الذي يمثل قطاعا من أبرز قطاعات إسهام المسلمين في الدراسات العقلية – أي هم أهل الاستنباط والاستدلال و الاجتهاد والتجديد.. الأمر الذي يجعل من هذا المصطلح – "الأصولية "- نموذج من نماذج الخلط الفكري الناشئ عن عدم التمييز بين المفاهيم المختلفة- وأحيانا المتضادة – التي تضعها الحضارات المختلفة في وعاء المصطلح الواحد المتداول بين أبناء هذه الحضارات.
إن المسلم هو كل من يؤمن بالإسلام، من عامة الأمة وجمهورها و"الإسلامي" هو من له "مشروع" للتغيير والتجديد والنهوض، مرجعيته الإسلام، وبعبارة "جاك بيرك ": " هناك مسلمون (العامة) ، وهناك الإسلاميون، الذين يشددون على قدرة الإسلام على إيجاد حلول مناسبة لمشاكل الحياة اليومية، وقدرته على بناء دولة مؤسسات "
أما مصطلح "الأصولية"_بمعناه الغربي_ فهو غريب عن الواقع الإسلامي مقحم عليه وبقوة " القصف الإعلامي"؛ لأنه يعني في الغرب: "أهل الجمود" بينما هو في التراث الإسلامي عنوان على: "أهل التجديد و الاجتهاد و الاستدلال و الاستنباط".
تدليس وتلبيس
لكن كتاب اليمين الديني – المسيحيين – الصهاينة – و المحافظين الجدد - في أمريكا – الذين سخروا أفكارهم وأقلامهم لتبرير الهجمة الأمريكية على الإسلام والعالم الإسلامي، هؤلاء الكتاب قد أصروا على إطلاق مصطلح "الأصولية" – بمعناه الغربي- على الحركات الإسلامية المعاصرة، لا لشيء إلا لرفضها "التغريب" والتقليد للنموذج الغربي، ودعوتها – بدلا من ذلك – إلى الأصالة الإسلامية والاستقلال الحضاري.
وفي هذا المقام كتب الصحفي الأمريكي الصهيوني "توماس فريدمان" – إبان الغزو الأمريكي لأفغانستان سنة 2001 م يقول: إن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس، ولذلك يجب أن نفرغ من حملتنا العسكرية ضد ابن لادن بسرعة، ونخرج، عندما نعود من (أفغانستان) يجب أن نكون مسلحين بالكتب لا بالدبابات فقط، عندما تنمو تربة جديدة، وجيل جديد يقبل سياستنا، كما يحب شطائرنا، سيكون لنا في المنطقة الإسلامية أصدقاء.
ويكتب المفكر الاستراتيجي الأمريكي "فوكوياما" يقول: " إن العالم الإسلامي يختلف عن غيره من الحضارات في وجه واحد مهم، فهو وحده قد ولد تكرارا خلال الأعوام الأخيرة حركات أصولية مهمة، ترفض لا السياسات الغربية فحسب، وإنما المبدأ الأكثر أساسا للحداثة العلمانية نفسها، وأنه بينما تستنجد شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية ودول المعسكر الاشتراكي السابق وأفريقيا الاستهلاكية بالحضارة الغربية وتود تقليدها لو أنها فقط استطاعت ذلك، فإن الأصوليين المسلمين يرون في ذلك دليلا على الانحلال الغربي، وإن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة "ضد الإرهاب " ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية –الفاشية الإسلامية- التي تقف ضد الحداثة الغربية، وإن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم هو أكثر من مجرد معركة من مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الفاشية الإسلامية الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا إيديولوجيا هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية، وعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة الغربية، وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية..
كما يعلن المفكر الاستراتيجي الأمريكي صموئيل هنتجنتون عن ذات الأهداف أهداف اليمين الديني والمحافظين لجدد – فيقول "إننا نريد حربا داخل الإسلام حتى يقبل الإسلام الحداثة الغربية والعلمانية الغربية والمبدأ المسيحي فصل الدين عن الدولة.."
فهم يطلقون مفهوم الأصولية – بمعناه السلبي الغربي على الحركات، لا لأنها مثل الحركات الأصولية المسيحية الغربية "- تقف موقفا جامدا ورجعيا ولا عقلانيا، ولكن يريدون نشوب صورة هذه الحركات الإسلامية؛ لأنها رافضة للحداثة الغربية والعلمانية الغربية والمبدأ المسيحي في فصل الدين عن الدولة والاستهلاكية الغربية، بل لقد رأينا الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون يعلن – في صراحة تحمد له – أن الأصوليين المسلمين هم :
1- الذين يحركهم حقدهم الشديد ضد الغرب
2- وهم مصممون على استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي
3- ويهدفون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية
4-وينادون بأن الإسلام دين ودولة
5- وعلى الرغم من أنهم ينظرون إلى الماضي، فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل، فهم ليسوا محافظين، ولكنهم ثوار
هكذا كشف هذا الفكر الاستراتيجي عن المعنى الحقيقي للأصولية الإسلامية والأصوليين الإسلاميين باعتبارهم دعاة البعث الحضاري الإسلامي، والثوار المجاهدين في سبيل النهضة الإسلامية المتميزة عن نموذج الحداثة الغربية.
فأين هذه "الأصولية الإسلامية" من الأصولية الغربية، التي عرفها قاموس "لاروس الكبير" سنة 1984م، بأنها: "موقف جمود وتصلب، معارض لكل نمو أو لكل تطور، مذهب محافظ متصلب في موضوع المعتقد السياسي؟!.
هكذا وجدنا – ونجد – اختلافاً بينا، قد يبلغ حد التضاد، بين مفهوم ومضمون مصطلح "الأصولية"، كما عرفته النصرانية الغربية "والحضارة الغربية، وبين مفهوم المصطلح في تراثنا الإسلامي، ولدى تياراتنا الفكرية، القديم منها والحديث والمعاصر على حد سواء.
مفكر مصري.
مدارك
/ 01-11-2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.