جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    فضيحة في مجلس الأمن بسبب عضوية فلسطين ..الجزائر تفجّر لغما تحت أقدام أمريكا    قبل الهجوم الصهيوني الوشيك ...رفح تناشد العالم منعا للمذبحة    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    انطلاق الموسم السياحي بتونس.. «معا للفنّ المعاصر» في دورته السادسة    الجم...الأيّام الرّومانيّة تيسدروس في نسختها السابعة.. إحياء لذاكرة الألعاب الأولمبيّة القديمة    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    بكل هدوء …الي السيد عبد العزيز المخلوفي رئيس النادي الصفاقسي    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    توقيع مذكرة تفاهم بين تونس و 'الكيبيك' في مجال مكافحة الجرائم الالكترونية    حجز كمية من الموز المصري غير صالحة للإستهلاك    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    وزارة الصناعة تفاوض شركة صينية إنجاز مشروع الفسفاط "أم الخشب" بالمتلوي    عاجل/ هذا ما تقرّر بخصوص زيارة الغريبة لهذا العام    قيس سعيد يعين مديرتين جديدتين لمعهد باستور وديوان المياه المعدنية    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    انتخاب عماد الدربالي رئيسا للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل: زلزال يضرب تركيا    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقد علم أصول الفقه بقلم أحمد بيبني
نشر في الحوار نت يوم 19 - 04 - 2011


بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لقد شغل التراث الإسلامي قسطا لا بأس به من الاهتمام، من طرف المفكرين المعاصرين وغيرهم، ورغم الجهود المبذولة والمتواصلة لدراسة هذا التراث، فإنه ما زال مستعصيا علي الفهم، وبعيدا عن المعالجة، وهو ما أشار إليه المفكر الجزائري محمد أركون رحمه الله إذ قال بأن المسلمين يظنون بأنهم يعرفون تراثهم ، وهم في الحقيقة لا يعرفونه.
والسبب في ذلك عندي يرجع إلي أحد احتمالين، أحدهما أن تكون المناهج والأفكار المستعملة لدراسته دون المستوي المطلوب، أو بالعكس أن تكون هذه المناهج كانت معقدة ومتطورة أكثر من اللازم، بينما كان التراث بسيطا يتطلب تصورات بسيطة. فحدث الاختلاف بين المعقد والبسيط، ومن قبيل هذا ما يذكر أن معاوية بن أبي سفيان قال لعمرو بن العاص، وهو يودعه إلي المفاوضات مع أبي موسي الأشعري فقال له: صغر عقلك حتي يمكنك الاتفاق معه.
ومن أجل أن لا أقع في خطأ أحد الاحتمالين السابقين، فقد راوحت هنا بين منهجين. أحدهما يوصف بالمنهج غير التقليدي، علي نحو ما يقال عن الأسلحة غير التقليدية، واعتمدت في جانب آخر علي وسائل بسيطة أكثر من اللازم.
وهكذا يأتي هذا الكلام متابعة لتلك الدراسات النقدية، التي تخص التراث، المتمثل عندي في هذه المرة في علم أصول الفقه، لما يتميز به من أهمية ومكانة عليا في هذا التراث. فموضوعه هو الأحكام الشرعية، التي تعكس فهمنا وتمثلنا للشريعة، ومنهجه هو النقل والعقل في درجاتهما العليا إذ يأخذ من "صفو النقل والعقل سواء السبيل"
تناولت هذا العلم لا كواقع حقيقي، معطي، ومسلم به. بل كواقع مزيف يقنع الواقع الحقيقي ويعمل علي حجبه وإخفائه. لذلك فالواقع الحقيقي موضوع الدراسة هو واقع ميكروسكوبي، لا يشاهد بالعين المجردة. و الطريق إلي معرفته هو التراث المحسوس. وذلك كلما ضاعفنا من الشكوك حول أكثر الحقائق وضوحا وقطعية فيه، وكلما جعلنا من المسائل الثانوية فيه مسائل جوهرية وبالعكس، وكلما جعلنا ما هو حقيقة فيه ظنيا وبالعكس.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية وهو الوجه الآخر من المنهجية، فقد مثلت المسائل البديهية موضع البحث والنقاش، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والزنا والسرقة. فهذه المحاولة تنطلق من أن هذه المفاهيم مثلت في وقت سابق موضوعا خصبا للدراسة والتفكير. وأنها توطدت بصيغها الآن عن طريق الاجتهاد والقياس، ومثلت واقعا خلاقا دفع إلي نشأة وتطور المعرفة الإسلامية. فعن طريقها ومن أجلها ظهرت علوم الحديث والفقه وأصوله . ولما حصلت غلبة الظن علي أنها درست بما فيه الكفاية، وتبلورت صيغها بما فيه الكفاية، أعلن عن غلق باب الاجتهاد، وصارت المفاهيم موضوع البحث خارج البحث، فهي بعبارة المحلي علي شرح الورقات لا تسمي فقها لأنها مسائل قطعية.
ومهما بدا هذا البحث بسيطا وثانويا ولا يستحق أدني اهتمام، أو بدا فريدا من نوعه، فإنه يمثل أحدي المحاولات الجادة لحل اللغز أو الألغاز في المعرفة الإسلامية.
محرك البحث
هل ثبتت صيغ المفاهيم الشرعية من الصلاة والزكاة والزنا والسرقة وقوانينها عن طريق النصوص، وبصورة عفوية، لا تحتاج إلى النقاش والاستدلال؟ أم أنها اتخذت تلك الصيغ والقوانين عن طريق الاستدلال والاجتهاد، وبالتالي فهي مصطنعة و متكلفة؟.
الجواب علي هذا السؤال هو أنه لا يستحق الإجابة، فهذه المفاهيم وقوانينها بديهية لا يشك فيها إلا شاك في أصل الدين كما يقول الشاطبي[1]. بل كما يقول المسلمون بأجمعهم، وقد نقل ابن حزم الإجماع عليها فقال: “كل ما لا يشك فيه أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما، كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وكوجوب الصلوات الخمس، وكصوم شهر رمضان، وكتحريم الميتة والإقرار بجملة الزكاة. فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما...ومن قال بها فهو مسلم، فقد صح أنها إجماع من جميع أهل الإسلام”[2]. بل هناك من علماء المسلمين من يذهب أبعد من ابن حزم، فلا يشترط العلم بها للإقرار بها، فهي تكاد تكون فطرية بحيث لا تمثل موضوعا للمعرفة، لذلك يقول الجويني في الورقات الفقه هو: ((معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد((. وعقب الإمام المحلى على هذا التعريف بقوله:((الفقه هو مسائل الخلاف ككون النية في الوضوء واجبة وأن الوتر مندوب .. ونحو ذلك من مسائل الخلاف ، بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد كالعلم بأن الصلوات الخمسة واجبة، وأن الزنا محرم، ونحو ذلك من المسائل القطعية فلا يسمى فقها.(([3] وقد ضرب الغزالي مثالا شيقا على وضوح هذه المفاهيم، وعدم حاجتها للاستدلال بقوله: “لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة ولم يعش إلا ساعة من نهار، وقال في تلك الساعة من سرق فاقطعوه، ومن زنى فاضربوه، والصلاة واجبة على كل بالغ وكذلك الزكاة .. ومات عقيب هذا الكلام، ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة، ولا صدر منه سوى هذه الألفاظ إشارة ورمزا، ولا ظهر في وجهه حالة لكنا نحكم بهذه الألفاظ ونتبعها.“[4] كل هذه المواقف وغيرها كثير هي تأكيد لا يحتاج إلى تأكيد، بأن في الإسلام مفاهيم ضرورية، تكاد معرفتنا بها تكون فطرية، إذ تولد معنا، وهذه المفاهيم هي على وجه الخصوص، وجوب الصلاة والزكاة ومعاقبة السارق والزاني.
من يضع هذه المفاهيم موضوع النقاش لا يستحق الاهتمام، فهو يقفز على النصوص المتواترة، ويطعن في مبادئ الدين، بل ربما يؤدي موقفه إلى هدم الدين بالشك في أساساته
وقبل أن نذهب بعيدا نحرر موضوع النزاع، فلا جدال في أصل وجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والسرقة، وإنما النقاش في الصيغ والقوانين.
أن تكون قوانين هذه المفاهيم توطدت بعفوية من خلال النصوص بما لا يدع مجالا للشك فهذا فيه نظر.
فقد حصر الغزالي ثبوت المسائل اللغوية عن طريق النقل الصحيح في أربعة أقسام: “فإما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا، أو أقروا به بعد الوضع، وإما أن ينقل عن أهل الشارع الإخبار عن أهل اللغة بذلك، أو تصديق من ادعى ذلك، وإما أن ينقل عن أهل الإجماع، وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل.”[5] لقد ذكر الغزالى هذا المثال في البحث عما إذا كان العرب وضعوا صيغا للأمر، أم لا. كذلك فإننا نسحب هذه الجمل لمعرفة ما إذا كانت صيغ الصلاة والزكاة منقولة نقلا صحيحا عن الشارع، لا يترك مجالا للشك، أم لا. ومعلوم أننا لا نلفي عند الشارع هذا النوع من التنصيص، كما لا نلفي عند العرب صيغا ثابتة للأمر خاصة بالوجوب، دون أن تستعمل في الندب والإرشاد والتوجيه وإنما استعملوها استعمالا واحدا في هذه الوجوه وغيرها.
كذلك كان خطاب الشارع عن الصلاة والزكاة متنوعا، اشتمل على أنواع من الصلاة والزكاة بما فيهما الصلاة والزكاة المخصوصتين. ولم ينقل عن الشارع التنصيص على الصلاة والزكاة المخصوصتين. ولم ينقل عنه أنه قال: ما ذكرت لكم عن قيام الليل وصلاة التهجد، والصلاة إلى غسق الليل، والصلاة في قرآن الفجر، إنما أقصد به الصلاة المخصوصة. وما ذكرت لكم عن الإنفاق وبذل المال إنما أقصد به الزكاة المخصوصة.
لذلك، فإن هذا البحث ليس له من موضوع سوى إعادة النظر في تلك المفاهيم والبحث في ملابسات نشأتها وصياغتها، على اعتبار أنها كانت في مرحلة سابقة تمثل موضوع البحث والنقاش، وواقعا خصبا للاجتهاد والتأمل، قبل أن تتحجر في صيغ ثابتة. وينتقل الاجتهاد من البحث عن الصيغ والقوانين بصفة غير محددة، إلى المحافظة على صيغ وقوانين مخصوصة ومحددة.
يضع هذا البحث ما هو بديهي وقطعي على طائلة البحث من جديد. فهو يتساءل عن أشياء اعتبرت لزمن طويل بسيطة، فيسأل ما هي الصلاة؟ وما هي الزكاة؟ وما هي السرقة؟ وما هو الزنا؟....إلى آخر القائمة.
فلو رجعنا إلى مثال الغزالي السابق، حيث يقول رجل عاش في ساعة واحدة: الصلاة واجبة على كل بالغ وكذلك الزكاة فإننا سنعرف وجوب الصلاة والزكاة من أجل هذه الألفاظ، لكن هذا سيكون تلاعبا بالألفاظ ما دمنا لم نعرف الصيغ المحسوسة للصلاة والزكاة، لنتمكن من سحب الأحكام بالمعني الفقهي عليهما .
إذن فمعرفة صيغ الصلاة والزكاة من خلال النصوص من القرآن والسنة يتطلب البحث والمعاناة ذلك أن ثمة صعوبات لابد من تجاوزها.
أول هذه الصعوبات وقوع الاشتراك في معاني هذه الألفاظ الشرعية مع معانيها اللغوية. فالصلاة في اللغة تعني الدعاء. وفي الشريعة تعني من جملة ما تعنيه الصلاة المخصوصة، من قيام وركوع وسجود. وقال القاضي بأن الشارع حافظ على الوضع اللغوي. ولكنه تصرف في وضع الشرط لا في أصل الوضع. ومثل لذلك بالصلاة، فما زالت تعني الدعاء لكن أضاف الشارع الشروط في الأقوال والأفعال. بينما ذهب آخرون إلى القول باستقلالية الحقيقة الشرعية، وهو موقف الشاطبي الذي قال: ((بأن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالى العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري))[6] ومن الأمثلة على هذا الموقف ما رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة. ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار))[7]، فمعنى المفلس هنا في الخطاب الشرعي مغاير لمعناه الوضعي اللغوي، وقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم الرقوب بأنه الذي لم يقدم من ولده شيئ، وعرف الصرعة بأنه الرجل الذي يملك نفسه عند الغضب، وسبق للصحابة أن عرفوا الأول بالعقيم والثاني بأنه الذي يصرع الرجال[8]. إذن ففي هذه الحالات الثلاثة تبرز الحاجة إلى البحث لمعرفة الشروط الشرعية على مذهب القاضي، أو لمعرفة المعنى الجديد على مذهب الشاطبي.
أما الصعوبة الثانية، فتتمثل في تعدد الأدلة الشرعية من أجل المفهوم الواحد، سواء كان الصلاة أو الزكاة أو غيرهما، وهذا التشعب في الأدلة هو ما أشار إليه الشافعي بقوله: (والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، وأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة، أنها بيان لمن خوطب بها، ممن نزل القرآن بلسانه متقاربة الاستواء عنده ، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض ومختلفة عند من يجهل لسان العرب)[9].
ومن الأمثلة الكثيرة على هذا النوع ما ورد في صلاة الخوف، عن خوات ابن جبير: “أن طافة صلت معه – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.[10] “ وعن ابن عمر أنه صلى ركعة بطائفة، وطائفة بينه وبين العدو، ثم انصرفت الطائفة التي وراءه وبين العدو، وجاءت الطائفة التي لم تصل معه، فصلى بهم الركعة التي بقيت عليه من صلاته وسلم، ثم انصرفوا فقضوا معا". وروى أبو عياش الزرقي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم عسفان، وخالد بن الوليد بينه وبين القبلة فصف بالناس معه معا، ثم ركع وركعوا، معا، ثم سجد فسجدت معه طائفة، وحرسته طائفة، فلما قام من السجود سجد الذين حرسوه، ثم قاموا في صلاته)[11].
فهذه ثلاثة أنواع من صلاة الخوف تختلف في ما بينها، وقال الشافعي “ وقد روي ما لا يثبت مثله بخلافها كلها.” فهذا الاختلاف يؤكد على صعوبة امتثال المفاهيم ما لم يرتفع هذا التعارض والاختلاف، وذلك بالانتهاء إلى صيغة واحدة باعتبار أن غيرها يؤدي إلى الفوضى في التطبيق.
هذا الاختلاف بسيط، وأقل وطأة بالقياس إلى اختلاف آخر، وهو أن يكون للمفهوم دليلان متفقان في الصدارة و متعاكسان في الإشارة، بحيث أن أحدهما يأمر بالفعل والثاني ينهي عنه. ومن أمثلته في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم “ إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا،” وقال أيضا “ لا يؤمن أحد بعدي جالسا.”[12] ومن أمثلته في القرآن قول الله عز وجل، {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}[13] وقال أيضا: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}[14] فالأولى تحرم الجمع بين الأختين والأخرى تجيزه. ولذلك قال علي وعثمان لما سئلا عن الأختين اللتين في ملك اليمين قالا: “ حرمتهما آية وأحلتهما أخرى.”[15]
أما الصعوبة الثالثة فهي ما نشأ من الخلاف حول هذه المفاهيم. والذي بدأ بصورة مبكرة في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد حاول بعضهم أن يمتثل المفاهيم امتثالا خاطئا. ومن أمثلته أن نفرا من الصحابة “ جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر أنا اعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا . أما والله إني لأخشاكم لله و أتقاكم له، لكني أصوم وأصلي، و أرقد و أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني.}[16] فاثنان من هؤلاء النفر الثلاثة يريدون إعطاء الصلاة والصوم صورة ليست صحيحة ولا تقرها الشريعة. وروي البخاري أيضا عن أنس بن مالك قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد.”[17] وفي خلافة أبي بكر الصديق امتنع بنو حنيفة من أداء الزكاة، متمسكين باتباع النص، وقالوا إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات لأن صلاته كانت سكنا لنا وصلاتك ليست سكن لنا[18]“.
ومن هذا النوع شكاية أهل الكوفة سعدا بن أبي وقاص إلى عمر ابن الخطاب بدعوى أنه لا يحسن الصلاة، فالخلاف هنا بين صورتين مختلفتين للصلاة، فسعد يصلي صلاة غير صلاة أهل الكوفة كما يريدون. ولم يكن أنس ابن مالك سعيدا بما يشاهد من التحولات الطارئة على الشريعة وخصوصا في الصلاة. فروى البخاري عن أنس ابن مالك قال:” ما عرفت شيئا مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قيل الصلاة . قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها[19]“.
هذه بعض التحديات التي كانت تعترض امتثال الصلاة والزكاة وغيرها من المفاهيم الشرعية .
فإذا كانت النصوص من القرآن والسنة هي المصدر الأول لهذه المفاهيم، فإن دلالتها على معاني تلك المفاهيم لم تتم بطريقة نصية وقطعية، لا مجال فيهما للنقاش والاستدلال، وهذا ما عبر عنه الأصوليون أنفسهم بعبارات مختلفة.
فالنص غير كاشف عن معناه قال الشاطبي:” ولو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: {أقيموا الصلاة} أو ما أشبه ذلك، لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية، والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين لا يشك فيه إلا شك في أصل الدين”.[20]
ويقول الأصوليون، أيضا بأن الأدلة تنقسم إلى آحاد وإلى تواتر، وكلاهما لا يقدم حقيقة الأدلة، ولا حقيقة المفاهيم. بل لا بد من الاجتهاد لرفع الالتباس. يقول الشاطبي أيضا في هذا المعنى “ فالمعتمد بالقصد الأول هو الأدلة. ووجود القطع فيها على الاستعمال المشهور معدوم أو في غاية الندور، فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظنيات لا بد أن يكون ظنيا. فإنها تتوقف على نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير، والمعارض العقلي، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر “ .
والشافعي و هو واضع أصول الفقه، أشار بدوره إلى تعذر القطع في النصوص وخاصة من القرآن. فالقرآن محتمل جميعا بما في ذلك الأمور الحسابية الواضحة، فإنه يتطرق إليها الاحتمال؟ ففي قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}[21] قال الشافعي: “فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع عشرة أيام كاملة ... قال الله تلك عشرة كاملة ، فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا جمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة." [22] ولم يتعرض الشافعي في الرسالة إلى دليل من القرآن، إلا قال بأنه يحتمل معنيين على الأقل، إلا آية اللعان. ففي كتاب الله غاية الكفاية عن اللعان وعدده. أما عن أدلة الصلاة والزكاة والسرقة والزنا فحدث عن الاحتمال ولا حرج .
وقد دعم الأصوليون بدورهم هذا التوجه، وتوصلوا إلى أن دلالة العام على أفراده ظنية . وهذا يعني ظنية أدلة الصلاة والزكاة في القرآن.
إذا يتبين لنا بوضوح أن المفاهيم التي تووضع على بداهتها ليست بديهية بإطلاق، وما قاله شارح الورقات سابقا من أن الصلاة والزكاة ليستا من مسائل الفقه لأنهما من المسائل القطعية كلام لا يحمل على إطلاقه. بل نقول بأنه لم تظهر العلوم الشرعية من الحديث والفقه وأصوله إلا من أجل الصلاة والزكاة و الزنا والسرقة وغيرهما، في سبيل إيجاد صيغ ومعاني محسوسة وثابتة لها، أي لتلك المفاهيم. وإن نظرة بسيطة فى موضوعات هذه العلوم تؤكد ذلك.
فإذا أخذنا كتاب صحيح البخاري وتصفحنا أبواب الصلاة فيه نلفي أن الأمر يتعلق بصياغة قوانين الصلاة فمنها باب وقت المغرب ، باب ذكر العشاء والعتمة ، باب وقت العشاء، باب فضل صلاة الفجر، باب وقت الفجر، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكر، باب قضاء الصلاة، بٍاب الأذان مثنى مثنى، باب الإقامة واحدة، باب وجوب صلاة الجماعة، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، باب تسوية الصفوف، باب رفع اليدين إذا كبر، باب وضع اليمني على اليسرى، باب الخشوع في الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلاة كلها، باب الصلاة في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، باب القراءة في الظهر، باب القراءة في العصر، باب القراءة في المغرب، باب الجهر في العشاء، باب القراءة في الفجر، باب فضل السجود، باب التشهد، باب التسليم، باب الذكر بعد الصلاة .
لقد تتبع البخاري الصلاة أولا بأول، ورغم تكرار الأحاديث والوقوف على الجزئيات إلا أنه مع ذلك يحافظ على ترتيب صورة الصلاة من أول أفعالها إلى آخرها، فبدأ بالأبواب المتعلقة بأوقات الصلاة ثم تعرض للآذان والإقامة، و تسوية الصفوف وما يقرأ في الصلاة، والجهر والسر فيها، لينتهي بالسجود والتشهد والتسليم وليتعرض أخيرا إلى كيفية مغادرة المسجد خصوصا مغادرة النساء له.
وإذا ذهبنا إلى أصول الفقه ومع الشافعي خصوصا ألفينا أن الأمر يتعلق ببيان الصلاة والزكاة والزنا والسرقة وما شابه ذلك من المفاهيم.
فقد تحدث الشافعي عن فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بالعذر ومن لا تزول، وعلى من لا تكتب صلاته بالمعصية، و الاستدلال على الصلاة الخمس، قال الشافعي: “ فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألا واجب من الصلاة إلا الخمس”. و أن فرض الصلاة على من إذا توضأ واغتسل طهر دون الحائض، و رفع الصلاة عن المغمي عليه و المغلوب على عقله، و الأمر بقضاء الحائض الصوم دون الصلاة. و رفع الصلاة عن السكران حتى يعلم ما يقول، و أن الصلاة قول وعمل وإمساك[23] ونسخ الصلاة إلى بيت المقدس و الوضوء قبل الغسل من الجنابة[24] و تأخير الصلاة عن وقتها، وصلاة الخوف، وفي موقع آخر يتحدث عن الصلاة بإسهاب قال: “أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدد الصلوات المفروضات خمس، وأخبر أن عدد الظهر والعصر والعشاء في الحضر أربع، وعدد المغرب ثلاث، وعدد الصبح ركعتان ، وسن فيها كلها قراءة وسن أن الجهر منها بالقراءة في المغرب والعشاء والصبح وأن المخافتة بالقراءة في الظهر والعصر، وسن أن الفرض في الدخول في كل صلاة بتكبير، والخروج منها بتسليم، و أنه يؤتي فيها بتكبير ثم قراءة ثم ركوع ثم سجدتين بعد الركوع وما سوى هذا من حدودها.
وسن في صلاة السفر قصرا كلما كان أربعا من الصلوات، إن شاء المسافر، وإثبات المغرب والصبح على حالهما في الحضر .
وأنها كلها إلى القبلة مسافرا كان أو مقيما إلا في حال من الخوف واحدة.[25]“ نحن هنا أمام عرض للصلاة، أي لتعليم صيغة واحدة لها. على نحو يذكرنا بما جاء عن الصلاة في صحيح البخاري، ولا يقال إن ذكر الصلاة جاء هنا عرضا. فالواقع أن كتاب الرسالة هو كتاب في الفقه.
كما أن صحيح البخاري هو كتاب في الفقه. فالرسالة حافلة بمواضيع الصلاة والزكاة والزنا والسرقة وما شابه ذلك من مواضيع الفقه التقليدية، وهذه هي الظاهرة الموحدة للمعرفة الإسلامية، و إشكاليتها الرئيسية. ومن ينتظر من الرسالة اهتماما بأمر آخر كالوقائع المستقبلية فلن يجد بغيته، فالرسالة تهتم بالمفاهيم الموجودة في الشريعة بغية إيجاد صيغ ومعان لها. ولم يكن صاحبها متورطا في أمور المستقبل ليقدم لها منهجا يتيح لها أحكاما لم تكن موجودة من قبل.
وعلى كل فإن المحرك الأساسي للبحث، سواء في الحديث أو الفقه أو أصوله هو هذه المفاهيم، من الصلاة والزكاة والزنا والسرقة وما شابههما من أجل إيجاد صيغ لها، ومن يريد موضوعا لهذه العلوم خارج هذه المفاهيم فإنه سيبقيها علوما غير ذات موضوع .
كانت هذه المفاهيم تمثل موضوعا خصبا للتفكير والبحث، وكانت ملهما لما ساد في القرنين الأول والثاني من أعمال معرفية عظيمة، أدت إلى نشأة العلوم الإسلامية من حديث وفقه وأصول فقه. وعند ما توطدت هذه المفاهيم وأخذت صيغها التي بقيت عليها إلى وقتنا الراهن، صار الاهتمام هو المحافظة عليها، ومن أغرب أنواع المحافظة عليها هو إخراجها عن ميدان البحث، بعد أن كانت موضوع البحث، ولهذا قيل كما مر سابقا بأن الفقه هو مسائل الخلاف والصلاة والزكاة ليست من تلك المسائل .
أنسنة الشريعة
يمتاز الخطاب القرآني المتعلق بالمفاهيم الشرعية، بالتنوع والخصوبة، وهو بما أنه خطاب الله عز وجل، ينفذ بطريقة خاصة إلى القلوب فيؤثر تأثيرا قويا على المتلقي. من هذا التنوع أننا إذا أخذنا الصلاة والزكاة نجد أن الآيات حولهما تتميز بالخصوبة والتنوع.
ففي الصلاة قال الله عز وجل:”يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه، ورتل القرآن ترتيلا.”[26] و قال الله عز وجل: “ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسي أن يبعثك ربك مقاما محمودا”. وقال عز وجل: “أقم الصلاة لدلوك الشمس إاي غسق الليل”[27] وقال عز وجل: “ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم”[28] وقال في الآية الأخرى: “ومن الليل فسبحه وإدبار السجود”[29]...
وعن الزكاة قال الله عز وجل: “والذين في أموالهم حق للسائل والمحروم” وقال في الآية الأخرى: “والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم” وقال عز وجل: “فلا اقتحم الحم العقبة؟ وما أريك ما العقبة؟ فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة” وقال الله: “وآتوا حقه يوم حصاده” وقال: “خذ من أموالهم صدقة تزكيهم بها” وقال: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون”.
هذا التنوع في صياغة المفاهيم أثر في المسلمين أيما تأثير. واستجاب المسلمون لهذا الخطاب دون زيادة أو نقص. مما أدى إلى قيام أمة اعتبرت خير أمة أخرجت للناس. ونلاحظ أن الآيات القرآنية لا تقدم صيغة واحدة للصلاة والزكاة، ففي الزكاة أمر الله بأن نعطي أعز ما نملك، ولكنه اعتبر بالمقابل أن إطعام يتيم في يوم ذي مسغبة هو أيضا صدقة وزكاة لها مكافأتها. في هذه المرحلة كان القرآن والقرآن فقط هو المصدر الخلاق للمفاهيم الشرعية. وكان المسلمون منفعلين لا فاعلين، ومتلقين لا ملقين، والتزموا بما قال الغزالي بأن من تلقى السمع تترتب عليه أمور من بينها السكوت والإنصات والتسليم والاعتبار بالعجز.
لكن النفس البشرية تواقة إلى التأثير في ما يحيط بها، والمشاركة فيما تقوم به. لذلك لم يمر زمن طويل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمسلمون يتشوفون لوضع القوانين للمفاهيم الشرعية. وكان لهذا التشوف عدة عوامل من بينها:
أولا: اتساع رقعة الإسلام لتدخل فيه شعوب وأمم كانت لها أعرافها وتقاليدها الدينية، وهذا الموضوع لم يعط من الاهتمام ما ينبغي ولم يتم البحث بجدية عن تأثير الديانتين اليهودية والمسيحية علي الشريعة الإسلامية وما تحويه من عبادات ومعاملات منهما.
فإذا كان الإسلام قد ظهر في بيئة وثنية هي مكة المكرمة، لكنه اكتمل في المدينة حيث أتباع الديانة اليهودية، وقد دخل في الإسلام أتباع هاتين الديانتين مثل عبد الله بن سلام من الديانة اليهودية وسلمان الفارسي من الديانة المسيحية. وهذا الأخير سئل عنه علي رضي الله عنه فقال: بأنه يعلم العلم الأول والعلم الأخر.. ومثل هذان الرجلان مصدرا للمعرفة الإسلامية في صورتها المبكرة. فلما حضر معاذ بن جبل الموت قيل له يا أبا عبد الرحمن أوصنا؟ قال أجلسوني إن الفهم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، يقول ذلك ثلاث مرات التمس العلم عند أربعة رهط عند عويمر بن أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام.»[30] وتذكر كتب التاريخ أن خالدا بن الوليد لما فتح عين التمر بالعراق وجد فيها عشرين كاهنا مسيحيا، فوزعهم على البلاد الإسلامية، وكان من بينهم والد محمد بن سيرين وقد تتلمذ أبو هريرة على كعب الأحبار، وتتلمذ مالك بن أنس علي ابن هرمز في مدة تفوق علي عشر سنين، يأتيه من الصباح حتي هوي من الليل، ولا نعرف موضوع الجلسات إذا لم يكن هو شرح تقاليد وعادات الديانات القديمة.
كما اطلع المسلمون في وقت مبكر على الكتب المقدسة للديانتين اليهودية والمسيحية. ويبين لنا هذا المقطع من سيرة ابن إسحاق المتوفى سنة 153ه دقة ترجمة تلك الكتب قال ابن إسحاق عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل: “وقد كان فيما بلغني عما كان وضع عيسى ابن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. مما أثبت يحنس الحواري لهم حين نسخ لهم الإنجيل، عن عهد عيسى عليه السلام، في رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، أنه قال: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد من قبل، ما كانت لهم خطيئة ولكن من الآن بطروا، وظنوا أنهم يعزونني، وأيضا للرب ، لكن لابد من أن تتم الكلمة في الناموس، أنهم أبغضوني مجانا –أي باطلا- فلو قد جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب ، وروح القدس هذا الذي من عند الرب خرج فهو شهيد علي وأنتم أيضا ،لأنكم قديما كنتم معي في هذا قلت لكم لكيما لا تشكو” ثم عقب ابن إسحاق قائلا: “المنحمنا محمد وهو بالرومية البرقليس صلى الله الله عليه وسلم.”[31]
هذه الفقرة من سيرة ابن هشام لا تدل على استيعاب المسلمين المبكر لنصوص المسيحية فحسب، بل تدل أيضا على دقة هذا الاستيعاب والتطور الكبير في الترجمة والمعلومات.
إذا كان لمن يسمون بمسلمة أهل الكتاب تأثير على التقاليد الإسلامية خصوصا أن هؤلاء أخذوا زمام المبادرة في المعرفة الإسلامية في وقت مبكر، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن العاص وعبد الله بن مسعود، صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، كان فقيه أهل مكة ابن أبي رباح، وفقيه أهل اليمن طاووس، وفقيه أهل اليمامة يحي بن كثير، وفقيه أهل الكوفة إبراهيم، وفقيه اهل البصرة الحسن، وفقيه أهل الشام مكحول، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني، إلا المدينة فإن الله خصها بقرشي، سعيد بن المسيب”[32]. وقد ضاق المسلمون الأوائل بهم ذرعا، وقال عروة ابن الزبير: “ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم.[33]“
أما العامل الثاني إلى وضع القوانين للمفاهيم الشرعية، فيتجلى في الإرادة السياسية للخلفاء الأوائل. فضبط الأفراد وتوجيههم سياسيا، كان يتطلب ضبط انقياداتهم الإيمانية وتصرفاتهم الدينية، وقد بدأ أول تدخل للسياسة في الأحكام الدينية في الزكاة، وهو الخلاف بين أبي بكر الصديق وبين بني حنيفة ، فأبو بكر رضي الله عنه يريد أن يتصرف في زكاة المسلمين كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبنو حنيفة ربطوا الحكم بمحله، ومنعوها محتجين بأن الزكاة أعطوها للرسول بمقابل، وهو صلاته التي هي سكن لهم، وأبو بكر صلاته ليست كذلك بالنسبة لهم. فمع هذا الخليفة أخذت الزكاة معاني جديدة، وفي عهد عمر بن الخطاب طرأ نظام جديد لصلاة الجماعة وهو صلاة التراويح وعلق عليها قائلا: (نعمت البدعة هذه).
وقد بدأ عصر التدوين للمفاهيم الشرعية حقا وصدقا مع عمر بن عبد العزيز، وكان الدافع إلى ذلك هو حادثة الصلاة الشهيرة بينه وبين عروة بن الزبير. فعن مالك عن ابن شهاب: (أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما، فدخل عليه عروة بن الزبير، فقال ما هذا يا عمر؟ أليس قد علمت أن جبريل صلوات الله عليه وسلامه عليه نزل فصلى ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم نزل فصلى فصلى رسول الله صلى عليه وسلم. ثم قال بهذا أمرت، فقال عمر لعروة: أعلم ما تحدث به، أو أن جبريل هو أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة، قال عروة كذلك كان بشير ابن أبي مسعود يحدث عن أبيه”[34]، إن سياق الحديث هنا يشير إلى أن كمية الصلاة هي العدد الخمس وكأن عمر بن عبد العزيز لم يكن على علم كاف بهذه الكمية، أو ينقصها الدليل عنده، فجاءه عروة ليقدم له الدليل عن بشير عن أبيه أن جبريل نزل خمس مرات ليصلي برسول الله صلي الله عليه وسلم. وهناك سياقات أخرى للحديث تجعله يتمحور حول أوقات الصلاة أي حول الكيفية لا حول الكمية.
ما يلاحظ هو أنه في عهد هذا الخليفة كرست الدولة الإسلامية كل طاقتها لصناعة المفاهيم. ولأن العمل قيد التنفيذ يوصف بالعمل الجلل، كان لابد من قرارات حاسمة لتوحيد الجبهة الداخلية، فاستدعى هذا الخليفة الجيش المرابط على الحدود مع البيزنطيين في الشمال، وأقام صلحا مع الخوارج والقرامطة ، مما هيأ الطريق للتفرغ لوضع القوانين.
يؤكد على هذا الكلام الأحاديث التالية: فيروى عنه أنه قال: “سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله ، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، من عمل بها فهو مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جنهم وساءت مصيرا.”[35]وكتب إلى عدي بن عدي: (إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن اعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.)[36] وفي حديث آخر أن ابنه عبد الملك قال له: (مالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق؟ قال له عمر: لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة)[37].
فعمر بن عبد العزيز يتحدث عن سنن وفرائض وشرائع يريد أن يبينها، وليت شعري ما هي هذه الشرائع والفرائض سوى صيغ جديدة يراد أن تلصق بالمفاهيم الشرعية. لذلك لعل هذا من الأسباب التي رفعت من شأن عمر بن عبد العزيز وأحاطته بهالة التقديس ورفعته إلى مرتبة الخلفاء الراشدين.
ومن أجل بلوغ هذا الهدف، تشوف هذا الخليفة إلى السنة كمصدر سلس يساعد على بناء هذه القوانين. فكتب إلى عامله بالمدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن (أنظر ما كان من حديث رسول الرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله.)[38]
في الحقيقة لا يمكن أن يعتبر القرآن موضوعا لاستخراج هذه القوانين، لأنه كتاب محفوظ غير قابل للزيادة أو النقصان، ولكن السنة يمكن استفادة القوانين منها لأنها ليست محفوظة، وبالتالي يمكن أن نجعل الحديث الصحيح حديثا ضعيفا وبالعكس. إذن انصب الاهتمام عند هذا الخليفة إلى جمع السنة، وكان من أثر جهده ظهور كتب الموطآت في الحديث، وبقي أشهرها وهو موطأ مالك، وكلمة الموطا هنا تشهد على ما نقول من أن المقصود هو توطئة وتوطيد قوانين معينة من أجل المفاهيم.
إذن لم يكن اللجوء إلى جمع السنة وتدوين الحديث من أجل ما يقال من ضرورة اتباع أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للحصول على طاعة الله. بل كان المقصود منه هو بناء القوانين كمطلب أول وأخير.
لم يكن الأمر يتعلق بجمع السنة من أجل السنة، بل كان من أجل دوافع أيديولوجية، ومعرفية، تتمثل في صياغة القوانين في معاني موحدة حتى لا يترك تمثيلها تابع للأفراد وأهوائهم، فيتمثلها كل منهم حسب فهمه الخاص، مما يؤدي إلى فوضوية العبادات والمعاملات الشرعية. هذا الهدف حدد الأفراد المرجعية الذين تستقي منهم المعرفة، وخاصة الأحاديث النبوية. كما أنه أوقع تقسيما في السنة فما كان منها يتلاءم مع القوانين استقبل في درجة الصحيح، وما كان على خلاف ذلك رفض بهذا الشكل أو ذاك من أساليب الرفض.
بالنسبة للأفراد استقي أغلب الحديث من صغار الصحابة مثل عبد الله بن عباس وعبد الله عمر، وأبي هريرة رضي الله عنهم، وقد انتقد النظام كثرة الرأي عند العبادلة وقال متهكما عليهم: (كأنهم كانوا أعرف من آبائهم) فأكثر الأحاديث صادرة عن صغار الصحابة دون كبارهم، وذكر ابن القيم الجوزية أن “أصحاب ابن عباس يقولون ابن عباس أعلم من عمر ومن علي ومن عبد الله ويعدون ناسا فيشب عليهم الناس، فيقولون: لا تعجلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عباس قد جمعه كله.”[39] كان الوعي بالهدف هو الذي يمكن من بلوغ الصدارة في المعرفة، ووجد الحرس القديم من الصحابة أنفسهم عاجزين عن مقاومة التيار، فاعتزل البعض منهم كأبي ذر الغفاري، بينما التزم البعض الآخر بالسكوت، “فكان أكثر التابعين يفتون في الدين، ويستفتيهم الناس، وأكابر الصحابة حاضرون يجوزون لهم ذلك.[40]“ والسبب في ذلك أننا أمام هدف معين ما كل احد يعيه. و لهذا قال مالك بأنه أدرك سبعين ممن يحدث كل واحد منهم عن الصحابة مباشرة ولم يأخذ عن واحد منهم، رغم أنهم عدول لكنهم ليسوا أهلا لهذا الشأن. أي أنهم لم يستوعبوا الهدف الذي يطلبه مالك من وضع قوانين معنية من أجل المفاهيم.
أما بالنسبة لأثر هذا الهدف في السنة، فقد اختزلت السنة في نسبة قليلة جدا وتم إلغاء أكثريتها الساحقة رغم صحتها.
وبالنسبة لرواة الحديث، فقد أقروا بأنهم لم يحدثوا بجميع ما يعرفون من السنة. فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاء ين، أما أحدهما فبثثته، وأما الأخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم[41]، فلعل أحد هذين الوعائين هو السنة التي تتعارض مع القوانين المراد إثباتها » وعن أنس بن مالك أنه قال «إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كذب على متعمدا فليتبوأ معقده من النار[42].» وقال مالك ابن أنس إعلم أنه ليس يسلم رجل حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماما أبدا وهو يحدث بكل ما سمع ، وقيل لشعبة بن الحجاج: مالك لا تروى عن عبد الملك ابن أبي سليمان وهو حسن الحديث؟ فقال من حسنها فررت. وقال مسلم «ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه 2» وقال أهل الحديث في علم الاصطلاح: قولنا حديث صحيح أي صحيح على شروطنا وقد لا يكون كذلك في نفس الأمر، وكذلك القول في الحديث غير الصحيح.
وبالنسبة للمؤلفين في الحديث فقد رووا أقل جدا مما جمعوا، فيروى أن مالكا روى مائة ألف حديث ، جمع منها في الموطإ عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها علي الكتاب والسنة ويختبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة. في هذا الكلام أن الحديث يعرض على السنة، ومعلوم أن السنة هي الحديث وبالتالي فالسنة في العبارة السابقة هي القوانين المرشحة لصنع المفاهيم.
وجمع البخاري مائتي ألف حديث، ومسلم ثلامائة ألف حديث بينما كتبهما تشتمل على أربعة آلاف حديث أصول دون المكرر.[43]
ومما يدل أخيرا، على أن المقصود بالسنة ليس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاق، بل السنة كما تتماشى مع القوانين المرشحة للعمل ما يذكر من رفض الأئمة أنفسهم أحاديث صحيحة رووها برواية صحيحة.
فرد مالك حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، وقال: جاء الحديث ولا أدري ما حقيقته، وكان يضعفه ويقول يؤكل صيده فكيف يكره لعابه، ورد حديث خيار المجلس، وقال: ليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه. ورد أبو حنيفة هذا الحديث أيضا كما رد خبر القرعة.[44]
إذن تمثلت أنسنة الشريعة في درجة أولى، في المكانة التي أعطيت للسنة على حساب القرآن، وذلك في مرحلة أولى لتقريب المفاهيم من الإرادة البشرية، إذ اعتبرت السنة هي دستور القرآن. فتبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه. قال الشافعي: «فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه وأن ينتهوا إلى حكمه، ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته » فالقرآن جاء بعناوين المفاهيم، كالنص على وجوب الصلاة، والزكاة، وتحريم الزنا والسرقة، بينما قامت السنة بوضع حدود لهذه المفاهيم، لذلك في المقارنة بين القرآن والسنة اعتبرت السنة في مجال الأحكام أهم من القرآن، فقال عمران بن حصين لرجل اعترض على السنة: «إنك رجل أحمق، أتجد في كتاب الله الظهرأربعا، لا يجهر فيها بالقراءة، ثم عدد إليه الصلاة والزكاة ونحو هذ،ا ثم قال أتجد هذا في كتاب الله مفسرا إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسير ذلك »
وقيل لمطرف ابن عبد الله ابن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرأن منا. وقال الأوزاعي القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن.[45]
إذن في المرحلة الأولى من الأنسنة تم تحييد القرآن لتحل السنة مكانه، والسنة هنا ليس كل السنة، بل السنة حسب حدود معينة كما مر سابقا، ولذلك اعتبر القرآن في الرسالة للشافعي ظني ومحتمل، كما اعتبر مع الأصوليين عمومات ظنية تحتاج إلى بيان من السنة. أما في المرحلة اللاحقة من الأنسنة فستبين الاجتهادات عند الأئمة السنة نفسها وتحل محلها كما حلت السنة محل القرآن.
وهكذا، فإذا كانت السنة تبين القرآن، فإن اجتهادات الأئمة تمثل بالنسبة للسنة ما تمثله السنة بالنسبة للقرآن، فهي تخصص عمومها وتقيد مطلقها وتبين مجملها، وفي مرحلة لاحقة أيضا سيمثل مجتهدو المذاهب نفس الدور بالنسبة لمذاهب أئمتهم في سلسلة من النفي ونفي النفي، وكما تدين تدان.
وهكذا فإذا كانت نسبة القرآن في بيان المفاهيم قليلة جدا بالنسبة للسنة، فإن نسبة بيان هذه الأخيرة قليلة جدا بالنسبة لاجتهادات الأئمة. فما حصل هو أنه بعد تحييد القرآن من أجل السنة وقع تحييد السنة أيضا من أجل رؤى ومواقف واجتهادات الأئمة.
أصول الفقه
من مرحلة العلم إلى مرحلة اللاعلم
أ المرحلة العلمية
أشار الدكتور سالم يفوت في كتابه “حفريات المعرفة العربية الإسلامية” إلي وجود قطيعة معرفية داخل العلوم العربية الإسلامية، وفي هذا الصدد ذكر مواقف لعلماء سابقين ألمحوا إلى هذه القطيعة. ففي اللغة أشار إلى طريقتين مختلفتين في علم النحو، تهتم الأولى بدراسة اللغة كما هي، واستخراج الخصائص والملامح العامة فيها، بينما تتناول الطريقة الثانية العلل والأسباب لتلك الخصائص، وقد عزا إلي ابن السراج أنه قال متحدثا عن الطريقيتن والفرق بينهما: «فباستقراء كلامهم ما علم أن الفاعل رفع والمفعول به نصب، وأن فعلا مما عينه ياء أو واو تقلب عينه من قولهم قومة وبيعة، واعتلالات النحويين على ضربين، ضرب منها هو المؤدي من كلام العرب كما مثلنا، وضرب آخر يسمى علة العلة، مثل أن يقولوا لما صار الفاعل مرفوعا؟ والمفعول به منصوبا؟ ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحا قلبتا ألفا؟ وهذا لا يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما نستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها، ويتبين بها فضل هذه اللغة على غيرها.[46]» وقد أرجع طه حسين هذا التحول، خصوصا في علم البلاغة، إلى الغارة الهلينية التي حملت معها المنطق والقياس خصوصا فقام البلاغيون بتحجير البلاغة في قوانين ثابتة[47].
ولم يسلم علم الكلام من هذه القطيعة، فقد سبق بابن خلدون أن ميز في علم الكلام بين مرحلتين، يعتبر الغزالي نقطة الفصل بينهما، المرحلة الأولى هي مرحلة المتقدمين، غلب عليها الأسلوب الجدالي، والمرحلة الثانية مرحلة المتأخرين الذين استشعروا ضرورة تنظيم الأساليب الكلامية بالمنطق الأرسطي، لذا غلب على طريقتهم الأسلوب القياسي[48]. ويري سالم يفوت في نفس الوقت أن هذه القطيعة ليست نهائية، “لأن طريقة المتأخرين لم تتجاوز طريقة المتقدمين إلا شكلا.[49]“
وفي نظري الخاص، لم يسلم علم أصول الفقه من هذه القطيعة، والتي بدورها تنقسم إلى طريقة المتقدمين ممثلين في الشافعي، حيث كان الاهتمام ينصب على الأدلة الشرعية من أجل تحديد المفاهيم وقوانينها، ومرحلة المتأخرين التي بدأت أيضا كما في علم الكلام مع الغزالي، وفي هذه المرحلة لم يعقم أصول الفقه بالمنطق فحسب، بل صار أصول الفقه هو المنطق والفلسفة بعينهما، وصار هذا العلم يتحدث عن كل شيء إلا عن أصول الفقه، على الأقل في صيغته عند الشافعي، مثلما قيل في تفسير الرازي أنه يشتمل على كل شيء سوى على التفسير.
قد أكون تسرعت إلى هذه النتيجة دون تمهيدها بالمقدمات، فأقول إن علم أصول الفقه على مستوى التعريف، هو عند الغزالي: «أدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها، ووجوه دلالتها على الأحكام، هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه.[50] » هذا التعريف يشتمل بمنطوقه ومفهومه على أربعة حدود، تشكل ماهية أصول الفقه. فهو يتكون من الأحكام، ومن الأدلة، ومن طرق ثبوتها ووجوه دلالتها وهذا دور القواعد الأصولية، والحد الرابع هو المجتهد، وقد قرب الغزالي هذه الحدود بالمماثلة الطبيعية، فقال بأن الأدلة هي المثمر والأحكام هي الثمرة وطرق الاستثمار هو القواعد الأصولية والمستثمر هو المجتهد.
وفي سبيل المقارنة بين الشافعي وبين غيره من الأصوليين اللاحقين، أتناول مفهوم وماهية الحدود الثلاثة في أصول الفقه، و هي الأحكام والأدلة والقواعد كما هي مع الشافعي وكما هي مع غيره من الأصوليين اللاحقين.
فيما يتعلق بالأدلة وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، نجد أنه فيما يتعلق بالقرآن فإن الشافعي يباشر الآيات القرآنية، مستلهما الأحكام منها، ومستغلا إياها إلى أقصى درجة ممكنة، وقد استعرض الشافعي الآيات الكريمة المتعلقة بالأحكام الشرعية، فذكر الآيات المتعلقة بالصلاة كآية الوضوء، وآية الحيض، وآية النهي عن صلاة السكران، وآية المزمل، وآيات أخرى معها، ليتوصل بعدها إلى الصلاة الخمس كما في الحديث. كما استقرأ الآيات المتعلقة بالزكاة وبالصوم وبالحج وبصلاة الخوف والميراث والمحرمات من النساء، ليستنتج قوانينها.
وعن اعتماد الشافعي على الحديث، فحدث ولا حرج، فقد اعتمد على الاستنطاق الواسع للسنة من اجل بناء المفاهيم. وعلي سبيل المثال ففي الصلاة والزكاة نجد الأحاديث المتعلقة بالصلاة كثيرة. فذكر علي سبيل المثال وقت الصلاة في الحديث أول الوقت رضوان الله الحديث..وفي الوضوء ذكر الحديث ويل للأعقاب من النار[51]، وذكر الوضوء عن أبي هريرة مرة مرة[52]، وذكر السنة عن رسول الله فيما يجب منه الوضوء والجنابة، وتعرض لسنة رسول الله في الصلاة فقال: سن رسول الله عدد الصلوات المفروضات خمس، وأخبر أن عدد الركعات الظهر والعصر والعشاء أربع أربع، وعدد المغرب ثلاث وعدد الصبح ركعتان...وما سوى ذلك من حدودها[53].
كما تعرض للأحاديث في الزكاة[54]. فذكر السنة عن رسول الله في الزكاة في بعض الأموال دون بعض، فأخذ رسول الله من الماشية من الإبل والغنم وأمر فيما بلغنا بالأخذ من البقر، وأخذ رسول الله من النخل والعنب الزكاة، وحفظنا عن رسول الله الأخذ من الحنطة والشعير والذرة، وفرض رسول الله في الورق الصدقة، وسن في الركاز الخمس . وعلى كل حال فإن كتاب الرسالة هو كتاب في القرآن والحديث بالمقام الأول، وإذا كان هناك من كلام خاص للشافعي فهو متعلق بتطبيق القواعد الأصولية عليهما.
أما فيما يتعلق بالأحكام فهي بيت القصيد في أصول الفقه عند الشافعي وهي الإشكالية التي توقظه من النوم.
والأحكام التي تطلبها الشافعي في الرسالة، هي الأحكام بمعنى الصيغ والمعاني المحسوسة للمفاهيم الشرعية، فإذا كان الجاحظ قد عانى من قلة الألفاظ، أما المعاني فهي كثيرة توجد في الطريق ويعرفها القروي والبدوي، فإن الشافعي على العكس يعاني من قلة المعاني، أما الألفاظ فهي كثيرة، بدليل أن الآيات القرآنية نافت على ستة ألاف آية، والحديث هو من الكثرة بحيث لا يمكن أن يستوعبه شخص واحد، مثله في ذلك مثل لسان العرب. قال الشافعي: «والعلم به، يعني لسان العرب، كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره»[55]، فلم يكن الشافعي يطمح لأحكام لوقائع جديدة، وإنما كان هدفه هو معالجة المفاهيم القائمة لإيجاد صيغ لازمة لها. فقد تقرر أن البيان معاني مجتمعة الأصول ومتشعبة الفروع، فمنه بيان الله، ومنه بيان رسوله، والمطلوب هو صياغة المفاهيم بواسطتهما على نحو لا يستشعر فيه بالتعارض والتنافر بينهما.
والأحكام التي توصل إليها الشافعي في الرسالة لا تبدو غريبة، فمن هذه الأحكام وجوب الصلاة الخمس، ووجوب الزكاة في بعض الماشية دون بعض، وحد السرقة لمن تجاوزت سرقته ربع دينار، والمحرمات من النساء، ومعنى استحلال المطلقة ثلاثا بعد الطلاق من زوج آخر، لكن ما هو جديد هو التبرير العقلي لهذه الأحكام.
هذا التبرير يتمثل في القواعد الأصولية التي تكرم بها الشافعي على الأدلة، وهي الموضوع الثالث من وجوه المقارنة.
وقد حققت هذه القواعد الرمية الواحدة التي قتلت عصفورين، فمن جهة بررت هذه القواعد الاختلاف بين أدلة القرآن، وأدلة الحديث باعتباره اختلافا ظاهريا لا حقيقيا، ويرجع إلى الأصل العرقي للإنسان وهو أن يكون غير عربي، أما إذا كان عربيا فلا شعور بالتعارض. أما الهدف الثاني فقد تمثل في صياغة المفاهيم بالتأكيد على أخذها قوانين معينة.
إن الحديث عن الأدلة الشرعية ومعانيها عند الشافعي يجب أن يكون على جهة العلم واليقين بعيدا عن الاحتمال والتخمين، فإذا كنا مطالبين بالتوجه إلى القبلة للصلاة فإن هذا التوجه إما أن يكون بالعيان، أي أننا نشاهد البيت ونلاحظه أمامنا. أو يكون بالاجتهاد، وهذا الاجتهاد ليس من الفراغ، بل الاستدلال بالعلامات بحيث يكون التوجه يقينيا وفي قوة التوجه الأول، أو قريبا منه. قال الشافعي: «فدلهم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، بالعقول التي ركب فيهم والعلامات التي نصب لهم ...فكانت العلامات جبالا وليلا ونهارا فيها أرواح معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المهاب، وشمس قمر ونجوم معروفة المطالع، والمغارب والمواضع من الفلك» ، كذلك في البحث الشرعي إما أن يكون الشيء منصوصا عليه، وإذا غاب عنا النص استعنا بالعلامات، والعلامات هذه المرة هي القواعد من العام والخاص والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين. فهذه القواعد هي خصائص اللسان العربي التي ترفع عنه الالتباس، وتشهد على تميزه دون الألسنة الأخرى قال الشافعي: «من جماع العلم بكتاب الله العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب»[56]، وقال أيضا «فإنما خاطب الله بكتابه العرب على ما تعرف من معانيها، وكان مما يعرف من معانيها، اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، ويستغني بأول هذا منه عن آخره ، وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره»[57].
وقد قدم الشافعي أمثلة لهذه القواعد. بل الرسالة تكاد تكون أمثلة لها، من هذه الأمثلة قول الله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}[58] قال الشافعي: «فكان مخرج الآية عاما على الأموال، وكان يحتمل أن تكون على بعض الأموال دون بعض، فدلت السنة على أن الزكاة في بعض الأموال دون بعض.» وقال الله: {ولأبيه لكل واحد منهما السدس...إلى قوله تعالى ولأزواجكم}[59] قال الشافعي: «فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمي في الحالات، وكان عام المخرج، فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه إنما أريد بعض الوالدين والأزواج دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحد ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا»[60].
ومن أمثلة الناسخ والمنسوخ قول الله عز وجل: {يا أيها المزمل قم اليل إلا قليلا}[61] ثم نسخ هذه في السورة معه فقال: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل.} إلى قوله: {فاقرأو ما تيسر منه}[62] قال الشافعي: «فكان بيننا في كتاب الله نسخ قيام الليل ونصفه والنقصان من النصف والزيادة عليه بقول الله {فاقرأوا ما تيسر منه} فاحتمل قول الله فاقرأوا ما تيسر منه معنيين، أحدهما أن يكون فرضا ثابتا، والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره، كما أزيل به غيره، لقول الله {ومن الليل فتهجد به نافلة لك.}[63] قال: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على ألا واجب من الصلاة إلا الخمس فصرنا إلى الواجب الخمس وأن ما سواها منسوخ بها»[64]
تابع الشافعي في الرسالة هذا المنهج، أي توزيع الأدلة على العام والخاص والمنسوخ والناسخ والمجمل والمبين، مما يمكن من إيجاد صيغ للمفاهيم، باعتبار أن الطرف الثاني يمثل الحقيقة واليقين للمحل، أما الطرف الأول فيمثل الظن والاحتمال وبهذه القواعد راح الشافعي يبني الشريعة بأقل عدد من العناصر وبأكبر ديمومة ممكنة.
وقد كرس الشافعي في هذا المنهج الأسلوب العلمي، بحيث أن القواعد أو ما يمثل الجانب النظري، تصدقه الأدلة، والأدلة بدورها تستجيب للقوانين وتخضع لها، ولم يستعمل الشافعي أحدهما بمعزل عن الآخر، فعند ما يأتي بالقاعدة يباشر في تمثيلها بالأدلة. وبهذه الحركة النشطة بين الأدلة والقواعد تنبني المفاهيم الشرعية ويأخذ كل منها معنى ومبنى.
لسنا إذا في الرسالة أمام عمل يستهدف وقائع المستقبل لإيجاد أحكام لها، بل نحن أمام مفاهيم تعددت أدلتها ويريد الشافعي أن يأخذ المفهوم معنى واحدا، على اعتبار أن التعدد والتشعب من المظاهر السلبية.
لذلك نقول بأن علم أصول الفقه عند الشافعي يهدف إلى وضع حد لأصول الفقه وللاجتهاد.
لقد عاش الشافعي في مرحلة بناء المفاهيم، أو ما يسمى بعصر التدوين. وبرزت مدرسة أهل الحديث في الحجاز يتزعمها مالك رضي الله عنه عالم المدينة. ومدرسة الرأي في العراق ويتزعمها أبو حنيفة. وفي هذا العصر كان الحوار والنقاش على أشدهما، فأراد الشافعي أن يضع حدا لبناء المفاهيم. ومنهجه في أصول الفقه بمثابة إعلان عن توقف الاجتهاد في الشريعة، لذلك على مستوى الأصول، رفض الشافعي الاستحسان لأنه تلذذ قال الشافعي: «وإنما الاستحسان تلذذ»[65] وقبل بالأصول الأربعة فقط، معرفا القياس بأنه لا يأتي بجديد، وإنما يحيل إلى خبر متقدم، فقال: «والقياس ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب و السنة لأنهما علم الحق المفترض طلبه»[66] أما في ما يتعلق بالقواعد الأصولية، فقد استنفذت صورها الممكنة في الأدلة، وعرفت الأدلة العامة والأدلة الخاصة، وتميزت الأدلة المنسوخة من الناسخة، وتميزت الأدلة المجملة عن المبينة، وبالتالي نقول بأن الشافعي وضع اللمسات الأخيرة لأصول الفقه وربما للفقه أيضا، لأنهما غير منفصلين. فوضع القواعد استتبعه وضع الجزئيات أيضا. لذلك اطمأن العلماء بعد الشافعي على ما آلت إليه الشريعة من بناء مرضي عنه لمفاهيمها، وأصبح الهدف هو المحافظة على هذا البناء، من أي عمل تخريبي ولو كان باسم الاجتهاد. فقال بكر بن العلاء القشيري المالكي «إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار»[67]
ب) المرحلة اللاعلمية لأصول الفقه
إذا كان علم الكلام قد مر بمرحلتين مثل الغزالي نقطة الفصل بينهما، كما مر آنفا، فإن هذا الرجل مثل كذلك نقطة الفصل بين المرحلتين اللتين مر بهما أصول الفقه. فإذا كانت المرحلة الأولى مثل فيها الشافعي موقع الصدارة، فإن المرحلة الثانية من إنتاج الغزالي وصنعه، وبالتالي للتعريف بهذه المرحلة يجب التعريف بالغزالي فهذه العصا من تلك العصية.
بالنسبة للأصوليين فهم لا يرون بوجود القطيعة بينهم وبين الشافعي، بل يقولون بأنهم استمرارية له، وهؤلاء هم الذين أخذوا طريقة الشافعية أو طريقة المتكلمين، وذلك للفصل بينهم وبين الأحناف الذين أخذوا أصولهم من كلام أبي حنيفة وصاحبيه محمد بن الحسن وأبي يوسف بالملاطفة والرفق[68].
والحقيقة أن ما يسمى طريقة الشافعية ليس للشافعي منها إلا الاسم، وبالأحرى أن نسميها طريقة الغزالي. حيث أن الكتب اللاحقة للغزالي هي انعكاس للمستصفى، وذلك باختصاره كما في كتاب الضروري في أصول الفقه أو مختصر المستصفى لابن رشد الحفيد، أو بتمطيطه كما هو الشأن في كتاب الإحكام للآمدي. إذن لمعرفة أصول الفقه بعد الشافعي يجب أن نعرف شيئا ولو يسيرا عن صاحبه ومؤسسه وهو الغزالي. الذي ذكر عنه ابن رشد بأنه لا يعرف له حقيقة، فهو مع الفلاسفة فيلسوف، ومع الفقهاء فقيه، ومع المتكلمين متكلم، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن ينطبع أصول الفقه بصفات الغزالي وعلومه، لذلك صار أصول الفقه هو هذه العلوم مجتمعة، فصار فيه علم الكلام، والفقه والفلسفة ممثلة بالمنطق، وبكلمة واحدة صار يحتوي على كل شيء، إلا من شيء واحد وهو أصول الفقه، كما قيل عن تفسير الرازي أنه احتوى على كل شيء إلا التفسير.
لقد أشرت سابقا إلى أن هذا العلم يقوم على دعائم أربعة، وهي الأدلة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، والأحكام، والقواعد، والمجتهد. وتناولت تناول الشافعي لهذه المواضيع. أما الآن فسأتعرض لتناول الأصوليين لهذه المواضيع لملاحظة التغير الطارىء على أصول الفقه.
فيما يتعلق بالأدلة، نلاحظ أن الأصوليين لا يهتمون بمحتوى الكتاب والسنة. وإنما يهتمون بالبحث عن موضوعات خارجية لا تمس جوهرهما، فالمواضيع المطروحة في القرآن هي البسملة في القرآن، والخلاف فيها بين الشافعي والقاضي أبي بكر، وقراءة ابن مسعود {فصيام ثلاثة أيا متتابعات} وخلافه فيها مع الجمهور، واشتمال القرآن على الحقيقة والمجاز، واشتمال القرآن على ألفاظ غير عربية، والمحكم والمتشابه في القرآن، أما السنة فيتناول الأصوليون موضوعين محوريين، وهما أخبار الآحاد وأخبار التواتر، ومراتب الحديث، وصفات الراوي، وإفادة خبر الواحد لليقين، وهي موضوعات خاصة بالحديث.
أما في الإجماع فيبدأ الحديث بدليل الإجماع، ثم عن أهل الإجماع، وتختلف الآراء، فهناك من يقتصره على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهناك من يشرك فيه كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أول الدنيا إلى آخرها[69]، وهناك مواقف وسطية بين الموقفين، ثم يأتي الحديث عن انقساماته، حيث ينقسم إلى صريح وسكوتي، وإلى إجماع باشتراط انقراض العصر وإجماع يتم في الدقيقة، وفي القياس يبدأ الحديث عن الخلاف بين القائلين به وبين من يرفضه، ثم يتواصل الحديث عن أنواعه الثلاثة، وهي تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط. ثم يأتي الحديث عن ما هو مهم فيه وهو البحث في أركانه الأربعة، وهي الأصل والفرع والحكم والعلة، ورغم الاهتمام الكبير بهذا الموضوع فلم يتخلص منه إلى أحكام تذكر، سوى حكم قياس الأرز على الشعير والنبيذ على الخمر وهما مختلف فيهما أيضا.
نأتي إلى الموضوع الثاني، وهو الأحكام، وقد تناول الأصوليون فيه الأحكام التكليفية، وهي الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه، والأحكام الوضعية وهي السبب والشرط والمانع، تناولا خاصا وغريبا نذكر لبعض أمثلته، ففي الواجب يبدأ الحديث عن تعريفه، ثم انقسامه إلى واجب بنفسه، كوجوب الصلاة، وواجب بغيره، كالطهارة بالنسبة للصلاة، والإمساك للصوم، وإلى واجب واسع، وهو ما يتسع وقته لغيره كصلاة الظهر فوقتها موسع بين أول الوقت وآخره ووسطه، وواجب ضيق كصيام رمضان لا يسع صياما آخر، كما ينقسم إلى واجب معين مثل الواجب في الظهر أربع ركعات، وواجب مبهم وهو ما زادت أقسامه على الواحد كخصال الكفارة، ويضاف إلى ذلك الواجب في الواجب المخير، والواجب المختلط الذي اختلط بأمر غير مرغوب فيه كالصلاة في الدار المغصوبة[70].
إذن نحن هنا لسنا في الأحكام كما هي في أصول الفقه أي الأحكام بمعنى صيغ وقوانين المفاهيم ولسنا أيضا إزاء الأحكام الفقهية، ففي أصول الفقه مع الشافعي هناك بحث عن الأحكام لكن الأحكام بمعنى آخر، أي بمعنى الصيغ المحسوسة للمفاهيم الشرعية، فالأحكام التي طلبها الشافعي في تناوله للصلاة والزكاة هي الأحكام بمعنى صيغهما المحسوسة. ولم يبحث فيهما باعتبار الوجوب أو الحرام إلى آخر القائمة. كذلك فإن الأحكام الفقهية ليست فيها هذه التقسيمات، وهذا يعني أن الأحكام في أصول الفقه في مرحلته الكلامية مع الغزالي أخذت معاني خاصة لا تعلق لها بالأصول ولا بالفقه.
لذلك اعتبر البعض إدخال هذا المبحث في أصول الفقه من المسائل السلبية، فقد منع الآمدي من تناول هذه الأحكام في الأصول إلا لضرورة ضرب المثال. وقال الشاطبي: « إن الأحكام التي يتعاطاها هذا العلم هي الأحكام العقلية كالوجوب والاستحالة والجواز، أو الأحكام العادية، أو الأحكام السمعية المتواترة المفيدة للقطع، وأما كون الحكم فرضا أو مباحا أو مكروها أو حراما فلا مدخل فه في مسائل الأصول من حيث هي أصول فمن أدخلها فيها فمن باب خلط العلوم بعضها ببعض»[71].
نأتي إلى الموضوع الثالث، وهو القواعد الأصولية، وقد تناولها الأصوليون ممثلين في الغزالي تناولا مخالفا لتناول الشافعي لها، ففي مبحث العموم والخصوص يستعر الخلاف حول صيغ العموم بين من ينفي أن يكون العرب وضعوا له صيغا، وهم أرباب الخصوص، ومن يرى بأن العرب وضعوا لها صيغا وهم أرباب العموم وبين هؤلاء وهؤلاء، أرباب الوقف الذين قالوا بأن العرب استعملوا صيغ العموم للخصوص وبالعكس، أما الموضوعات الأخرى فتتناول العام بعد التخصيص هل هو حجة في الباقي أم لا، وتخصيص العموم بخبر والواحد وبالقياس، وعلى كل حال فإن الأدلة من الكتاب والسنة وكذلك الحديث عن المفاهيم الشرعية هي أمور لا وجود لها في هذا المبحث. فالأمر يتعلق باهتمامات لا تمت إلى الهدف الحقيقي لأصول الفقه وهو البحث في المفاهيم الشرعية وفي صيغها.
إذا كان الأمر يتعلق بالقرآن والسنة كأصول للشريعة، فإن الاهتمام فيها عند الشافعي، ينصب على كيفية بناء وتأسيس المفاهيم الشرعية وقوانينهما منهما، لذلك حفل كتاب الرسالة باستقراء واسع للآيات والأحاديث، أما عند الأصوليين فإن الآيات والأحاديث تكاد تحصى بأصابع اليد. وبدلا من ذلك يتناولون موضوعات خاصة بعلوم أخرى ففي القرآن يتناولون البسملة وقراءة ابن مسعود وهي مواضيع من اختصاص علماء التفسير. وفي الحديث يتناولون عدالة الراوي والحديث الصحيح والضعيف والآحاد والتواتر وهي من اختصاص علم الحديث.
وإذا ذهبنا إلى الأحكام نلاحظ أن الأصوليين يتناولون الأحكام تناولا خاصا لا ينسجم مع الأحكام التي طلبها الشافعي في الرسالة، كمالا يتماشى مع الأحكام عند الفقهاء حيث ترتبط الأحكام بالموضوعات الفقهية.
وإذا اتجهنا إلى القواعد نلاحظ أن القواعد عند الشافعي تنشط داخل الأدلة، حيث تناول العام والخاص وغيرهما كمسلمات لغوية وفرع الأدلة عليهما. أما الأصوليون فبحثوا في أصل وجودهما وعما إذا كانا موجودين بالفعل في اللغة أم غير موجودين، وهذا يعني أن القاعدة التي من المفترض أن يسلم بها، ليكون النظر والنقاش في تطبيقها، أصبحت الآن هي نفسها موضوع النقاش. وهذا ما نبه إليه الشاطبي عندما قال بأن المباحث اللغوية إذا احتاج إليها الأصولي فيجب أخذها كمسلمات، لا أن يحاول إقامة الدليل عليها. وذلك مثل «معاني الحروف وتقاسيم الاسم والفعل والحرف والكلام على الحقيقة والمجاز وعلى المشترك والمترادف والمشتق»[72].
إذن إن المقارنات السابقة بين الشافعي وبين الأصوليين حول الأحكام والأدلة والقواعد تؤكد بوضوح خروج علم أصول الفقه عن هدفه ومنهجه ومساره بعد الشافعي. وهذا ما يفسر ندرة وانقراض شروح الرسالة في مقابل الكتب التي ظهرت بعدها. فالقطيعة كانت مطلقة مع الرسالة, فكما لا يوجد لها شرح لا توجد لمعانيها استمرارية.
العام وإخوته
لا شك في وجود تداخل بين العلوم العربية والإسلامية ككل. تداخل تمليه وحدة المصدر ووحدة الهدف. فمصدر هذه العلوم هو القرآن، وقد نزل بلسان العرب، لذالك كان تدوين اللغة العربية يرمى من جملة ما يرمى إليه، إلي المحافظة على القرآن، بالمحافظة على العربية كوسيلة لفهمه. وفي أصول الفقه يوجد تداخل واضح بينه وبين اللغة العربية، إذ توجد موضوعات عربية خالصة، فغالبا ما تبدأ كتب الأصول في الكلام عن معاني الحروف، وتقاسيم الفعل والاسم والحرف والحقيقة والمجاز، والمشترك والمترادف والمشتق. بل إن القواعد الأصولية تسمى بمبحث اللغات، لأنها متعلقة باللغة. كما تعتبر معرفة اللغة العربية شرطا من شروط الاجتهاد. ولذا قيل بأن العلوم العربية الإسلامية هي “ بنية منسدة تغيراتها ومكوناتها تمثل استمرارا واتصالا لذات الحقل الذي يضم شتات المجموع ويضفي عليه صفة الوحدة”[73] والمثال المعبر عنه كدليل على وحدة العلوم العربية الإسلامية، هو تحدي أحد علماء اللغة لفقيه مدعيا أنه يعرف الفقه من خلال اللغة. فقال الفقيه ما تقول في من سجد فسها، ثم سجد فسها، فقال عالم اللغة لاشيء عليه لأن التصغير لا يصغر. ومما يؤكد على ذالك ما نقل عن الجرمي أنه قال: “ أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس من كتاب سيبويه [74]“
أقول هذا وأنا أتذكر ما تلقيت في الصغر من مباديء العربية. وخصوصا ما تلقيت عن الأفعال الناسخة التي يمثل لها بكان وأخواتها، والحروف الناسخة وتتزعمها إن وأخواتها. فما هو معلوم من تلك المبادئ أنما يصدق على "كان" يصدق على أصبح وصار وأمسى، وما يصدق على "إن" يصدق علي: أن، لعل، لكن، ...وأن هذه الأفعال والحروف سميت ناسخة، لأنها تغير واقع المبتدأ والخبر، فبالنسبة لكان ترفع المبتدأ وتنصب الخبر. أما إن فتنصب المبتدأ وترفع الخبر.
هذه قوانين اللغة العربية. وهي نفسها تتطابق بشكل عجيب مع القواعد الأصولية، من العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين. فالأمر يتعلق بتقارب في العدد وفي الوظيفة. فإذا كانت في العربية أفعالا وحروفا ناسخة، ففي أصول الفقه قواعد ناسخة، وإذا كانت “كان” تتزعم الأفعال الناسخة، بحيث تصير هي أم الباب، فيمكن بالمثل اعتبار العام والخاص قاعدة تتزعم القواعد التي وراءها. وإذا كانت “كان” تنسخ واقع المبتدإ والخبر، فتنقلهما من حال إلي آخر. فإن هذا ما يقوم به العام وإخوته، فتدخل في الأدلة فتنسخ بعضها وتثبت البعض الآخر، بكلمات متفقة في الإشارة، وإن اختلفت قليلا في العبارة.
وتعتبر هذه القواعد الأصولية هي الموضوع الأهم في أصول الفقه. قال الغزالي متحدثا عن هذه القوانين: “اعلم بأن هذا القطب هو عمدة الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها، إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها، والأصول الأربعة من الكتاب والسنة الإجماع والعقل، لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها، وتأصيلها، وإنما مجال إضطراب المجتهد واكتسابه، استعمال الفكر في استنباط الأحكام من مداركها.[75]“
وقال الشاطبي بأن هذه القوانين حاكمة على الأدلة، فهي بمثابة اختبار وامتحان لها، فقال: “إن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية متوقف على تلك القوانين، التي هي أصول العلم، فلا يمكن الاستدلال بها إلا بعد عرضها عليها، واختبارها بها، ولزم أن تكون مثلها، بل أقوى منها لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة، بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين.[76]“
هذه القوانين تسمي في الأصول بالقواعد الأصولية، وبعوارض الأدلة، وتسمي بعوارض الأدلة، لأنها لا تغير نفس الأدلة، ولا تتناولها في الجوهر، وإنما تبحث في الظواهر العارضة عليها، بينما تبقي الأدلة على حالها. قال الغزالي في هذا المعني: “تخصيص العام محال كما سبق، وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لإرادة العموم الخصوص، فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذالك أنه خصص العموم، ثم من لم يعرف ذالك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمي مخصصا، وإنما هو معرف ومخبر عن إدارة المتكلم ومستدل عليه بالقرائن لا أنه مخصص بنفسه.”[77]
كما تسمي بمبحث اللغات، فالعام والمجمل والمطلق والأمر هي موضوعات لغوية، لأن صيغها تعرف بالرجوع إلى اللغة العربية.
هذه القواعد كما قلنا سابقا، متداخلة ومترابطة، فثمة تشابه بين المجمل والمبين والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ. فربما تداخلت هذه القوانين في المثال الواحد. كما في قوله الله عز وجل: “أقيموا الصلاة” يعتبر عاما خصصته الصلاة الخمس. ويعتبر منسوخا نسخته الصلاة الخمس كما ذهب إليه الشافعي، ويعتبر مجملا بينته الصلوات الخمس، ويعتبر مطلقا قيدته الصلاة الخمس.
لذالك يتداخل العام والخاص مع الناسخ والمنسوخ. حتى لا يعرف هل يصدق على الموضوع المطروح أنه من قبيل النسخ أومن قبيل التخصيص. فالتخصيص هو إخراج ما لولاه لكان داخلا تحت عموم اللفظ وهو غير داخل وإلا سمي نسخا، فتعريف التخصيص هو إخراج لما هو غير داخل، وهذا مستحيل، وبالتالي لابد أن نقبل بأنه الوجه الآخر للنسخ. إلا أن الفرق بينهما، هو أن ما بقي بعد التخصيص كان متوهما، وما بقي بعد النسخ كان مقطوعا به، فالمنسوخ كان حكما شرعيا مقطوعا به، والباقي من العام كان متوهما.
ونظرا للتداخل الكبير بين العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، فقد فرقوا بينهم بفروق خمسة مصطنعة ومتكلفة. في الحقيقة أنه لا يوجد فرق كبير بين قولنا هذه الآية عامة خصصتها آية أخرى، أو حديث آخر وحل محله. وبين قولنا هذه الآية منسوخة نسختها آية كذا أو حديث كذا وحلت محله، لكن لما كان للفظ النسخ والتأويل والتقييد وقعا منفرا، وخصوصا أن ما يمثل هذه الأوصاف وموضوعها هو القرآن الكريم، بينما تمثل السنة الجانب الآخر. فقد وقع الاختيار علي التخصيص، لأنه بيان وصارت له شهرة عالمية وامتياز كبير، علي حساب القواعد الأخري المشاركة له في العمل.
كذلك يتداخل المطلق والمقيد مع العام والخاص، فكلاهما عموم، لكن عموم العام شمولي، وعموم المطلق بدلي. تفصيل ذلك أن العام يدل على شمول كل فرد من أفراده، وأما المطلق فيدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا على جميع الأفراد، فالعام يتناول دفعة واحدة كل ما يصدق عليه ، والمطلق لا يتناول إلا فردا شائعا من الأفراد.[78]
كذلك يتداخل المجمل والمبين مع العام والخاص، فقول الله عز وجل: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما” هو عام عند ابن تيمية ، وقال القاضي هو مجمل، وقال عيسي ابن أبان: إن العام بعد التخصيص مجمل ومثل له بهذه الآية[79].
من الواضح أن القوانين من العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والظاهر والمؤول والناسخ والمنسوخ، هي وجوه لعملة واحدة، هي عملة النسخ، عملة الانتقال من دليل إلى دليل. ولا نشعر بالقطيعة عندما ننتقل من أحدهما إلى الآخر، إلا بقدر القطيعة التي نشعر بها في الانتقال بين كان وأخواتها. فكما أنه لا فرق كبير بين: كان الرجل كريما أو أصبح أو صار أو أمسى أو لازال، كذالك لا فرق بين قولنا دليل مخصص أو منسوخ أو مبين أو مؤول. فالقاسم المشترك هو الإزالة والنسخ، أي أننا ننتقل من دليل إلى دليل آخر أكثر يقينية وحقيقة. وهذه القواعد سماها ابن حزم بالمناقل، وهي تسمية تنم عن شيئ من التهكم. فقال: “إن الوجوه التي تنقل فيها الأسماء من مسمياتها، فيخرج بذالك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه وعن الفور إلى التراخي، وعن الظاهر إلي التأويل، وعن العموم بكل ما يقتضي إلي تخصيص بعضه بذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها.”[80]
وإذا كان الأمر كذالك فإن العام والخاص اكتسبا مكانة خاصة في أصول الفقه، فشغل هذا المبحث حيزا كبيرا في الكتب الأصولية. ففي المستصفي للغزالي وفي الإحكام للآمدى شغل هذا الباب ما يقارب الربع في كل منهما. ولذا يمكن أن يعتبر هذا الموضوع مثالا لما وراءه من تلك القواعد، كما مثلت كان أخواتها.
كذالك نقول بالمثل إن هذا الموضوع ربما يكون لأهميته، يمثل صورة مصغرة لعلم أصول الفقه، كما كانت هذه القواعد مجتمعة تمثل العمود الفقري لأصول الفقه لأنها مجال اضطراب المجتهد .
ومن خلال العام والخاص، ومن خلالهما فقط، يمكن العثور علي ثلاث توجهات رئيسية في أصول الفقه. لذالك سندرس هذا الموضوع الحساس، عند كل من الشافعي والغزالي والشاطبي، معتبرين أننا ندرس من خلال ذلك أصول الفقه بصورة مصغرة عند كل واحد من هؤلاء الثلاثة. حيث يمثل كل واحد منهم من خلال هذا الموضوع الحساس، مدرسة خاصة في أصول الفقه. والواقع يؤكد علي ذلك، فإذا كان من البديهي أن هذا العلم ظهر لأول مرة مع الشافعي. وإذا كان الشاطبي يمثل مرحلة متقدمة في هذا العلم، إذا لم نقل إنه يمثل أصول فقه في ثوب جديد، هو ثوب المقاصد. فإننا نقول بالمثل إن الغزالي يمثل المرحلة القروسطية لهذا العلم، والتي لازلنا نقلدها ألا وهي المرحلة الجدالية العقيمة لهذا العلم.
أولا العموم اللفظي عند الشافعي
إذا كان لكل من علماء الأصول البارزين كلمة خاصة يرددها، فمقولة القاضي أبو بكر الباقلاني المفضلة هي: أن الأمر يعرف بضرورة أو نظر، ولا سبيل إلى دعوى شيء من ذالك ، ومقولة الغزالي المفضلة هي: أن الأمر استدلال وقياس في اللغات، واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا و استدلالا، أما مقولة الشاطبي المفضلة فهي: أن الأمر يؤدي إلى محال وما أدى إلى محال فهو مثله. إذا كان الأمر كذالك، فإن المقولة المفضلة للشافعي هي باختصار العام والخاص. فإذا حذفنا هذه العبارة من الرسالة وربما من الأم فلن نفهمها على النحو المطلوب. مما يدل على أهمية هذه العبارة عند الشافعي هو أنه رددها أمام هارون الرشيد عندما كان الموت قريبا منه. فقال لما سأله الخليفة كيف علمك بالقرآن فقال: “عرفت وقفه وابتداءه، وناسخه ومنسوخه، وما خوطب به العام ويراد به الخاص، وما خوطب به الخاص يراد به العام “ وقال الإمام أحمد ابن حنبل: “لم نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي.[81]“
لقد ألفت الشافعي في الرسالة الاهتمام إلى أن القرآن عربي، فقال: “فأقام حجته بأن كتابه عربي”.[82] وقال بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عربي اللسان والدار”[83]. وهذا يعني حمل القرآن والسنة على اللغة العربية وقوانينها من أجل معرفتهما.
وهذه القوانين هي كما قال الشافعي : “فإنما خاطب الله العرب بلسانها، وكان مما يعرف من لسانها اتساعه، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره.[84]“ ، فمن خصائص اللغة العربية وما يميزها الاتساع وجواز التجوز، أو جواز الانتقال من العام إلى الخاص ومن الظاهر إلى المؤول.
وحتى لا نكون أمام افتراضات لا وجود لها علي أرض الواقع، يقدم الشافعي الأمثلة الملموسة لهذه القوانين من اللغة أولا، وفي مرحلة لاحقة يقدم الأمثلة من الشرعية التي هي بيت القصيد.
أما أمثلة العام فمنها قوله تعلي: “ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” [85] قال الشافعي: “فكل نفس خوطبت بهذا في زمان الرسول صلي الله عليه وسلم وقبله مخلوقة من ذكر وأنثي، وكلها شعوبا وقبائل”، وقال عز وجل “ وما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها”[86]. قال الشافعي: فهذا عام لا خاص فيه، فكل شيئ من سماء وأرض، وذي روح وشجر وغير ذلك، فالله خلقه، وكل دابة فعلي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.” فهذه أدلة علي العام وحده.
أما أمثلة العام الذي يدخله الخاص، فمن أمثلته قول الله عز وجل : (يأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له) قال الشافعي فمخرج اللفظ عام على الناس كلهم، وبين عند أهل العلم بلسان العرب منهم، أنه إنما يراد بهذا اللفظ العام المخرج بعض الناس دون بعض. ومن أمثلته قوله تعالى : “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم” قال الشافعي: “فإذ كان من مع رسول الله ناسا غير من جمع لهم من الناس، وكان المخبرون لهم ناسا غير من جمع لهم، وغير من معه ممن جمع عليه معه، وكان الجامعين لهم ناسا. فالدلالة بينة مما وصفت من أنه إنما جمع لهم بعض الناس دون بعض”.[87]
نكاد هنا نصاب بالملل والسآمة، نظرا إلي بداهة ما نتحدث عنه، أو بالأحري سذاجة ما نتحدث عنه. لكن هذه السذاجة والبدائية هي الأعمدة التي يقوم عليها كل من فهمنا وتمثلنا للشريعة.
فاللسان العربي يتصف بالاتساع، حتى لا نقول أنه يتصف بالكذب. و المقصود من هذا هو بناء المفاهيم الشرعية حسب قوانين خاصة. فمثلما أننا انتقلنا من البشرية جمعاء إلى فرد أو فردين، في قوله تعالى: “ الذين قال لهم الناس” كذالك فإن قول الله عز وجل : “أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة “ لا ينطبق على كل صلاة ولا على كل زكاة وإنما ينطبق على صلاة مخصوصة وزكاة مخصوصة بدليل أن القرآن والسنة عربيان. ومن خصائص العربية أن يخاطب باالعام تريد به الخاص.
قال الشافعي والأمثلة هذه المرة من الشريعة – وقال الله تعالى : “يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق” قال الشافعي : فقصد جل ثناؤه قصد القدمين بالغسل كما قصد الوجه واليدين، فكان ظاهر هذه الآية أنه لا يجزئ في القدمين إلا ما يجزئ في الوجه من الغسل والرأس من المسح، وكان يحتمل أن يكون أريد بغسل القدمين أو مسحهما بعض المتوضئين دون بعض. فلما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين دلت سنة رسول الله على إنه إنما أريد بغسل القدمين بعض المتوضئين دون بعض[88].
وقال الله تبارك وتعالى: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءا بما كسبا نكالا من الله” قال الشافعي: وسن رسول الله أن لا قطع في ثمر ولا أكثر وأن لا يقطع من بلغت سرقته ربع دينار فصاعدا.[89]
وقال الله : “ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها” قال الشافعي: وكان مخرج الآية عاما على الأموال وكان يحتمل أن تكون في بعض الأموال دون بعض فلما كان المال أصنافا: منه الماشية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإبل والغنم وأمر- فيما بلغنا - بالأخذ من البقر خاصة دون الماشية سواها. ثم أخذ منها بعدد مختلف كما قضى الله على لسان نبيه. وكان للناس ماشية من خيل حمر وبغال وغيرها فلما لم يأخذ رسول الله منها شيئا وسن أن ليس في الخيل صدقة ، استدللنا على أن الصدقة فيما اخذ منها وأمر بالأخذ منه دون غيره.
وكان للناس زرع وغراس فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النخل والعنب الزكاة بخرص غير مختلف ما أخذ منهما وأخذ منهما معا العشر إذا سقيا بسماء أو عين ونصف العشر إذا سقيا بغرب.
وقد أخذ بعض أهل العلم من الزيتون قياسا على النخل والعنب .
ولم يزل للناس غراس غير النخل والعنب والزيتون كثير من الجوز واللوز والتين وغيره فلما لم يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيئا ولم يأمر بالأخذ منه-: استدللنا على أن فرض الله الصدقة فيما كان من غراس في بعض الغراس دون بعض .
وزرع الناس الحنطة والشعير والذرة وأصنافا سواها فحفظنا عن رسول الله الأخذ من الحنطة والشعير والذرة وأخذ من قبلنا من الدخن والسلت[90].
هذه الطريقة في الصلاة والزكاة هي عصب الحياة في الرسالة. فالأدلة تتوزع إلي عام ومصدره القرآن، وخاص ومصدره السنة، وعن طريق الحوالة أي تحويل الأدلة العامة إلي الأدلة الخاصة تتوطد صيغ المفاهيم وقوانينها.
لقد أوجد الشافعي هذا المفهوم العجيب ليحل به الصعوبات في الشريعة دفعة واحدة. فمن الجهة الأولى حدد الشافعي المفاهيم الشرعية بواسطة هذا المفهوم، ومن الجهة الثانية وفق الشافعي بواسطة هذا المفهوم بين بيان الله وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارهما بيانا واحدا. فالله عز وجل جاء بالألفاظ العامة كالنص على وجوب الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم الزنا والسرقة وتولت السنة بيان ذالك، وليس في هذا الأمر تعارضا، طالما أن في العربية يأتي اللفظ العام ويراد به الخاص وهو ما يكتشفه أهل المعرفة باللغة.
كذالك هنا أهل العلم يدركون ما يراد في القرآن من الألفاظ العامة، هذه العلاقة بين القرآن والحديث سيحظى الشافعي من جرائها بوسام ناصر الحديث. لا كنها أزاحت القرءان من ميدان المفاهيم الشرعية، ومثل الاستغلال المكثف للقرآن في الرسالة دور اللقاء الأخير مع القرآن و إلقاء التحية الأخيرة عليه، إذ سيتوقف ظهوره في كتب الفقه وأصوله، ولم يسمح له بالظهورإلا في قراءة الصلاة والتراويح فقط. و لولا السنة لما عرفنا المفاهيم من الصلاة والزكاة ولطبقنا العقوبات تطبيقا خاطئا.
قال الشافعي ولولا الاستدلال بالسنة وحكمنا بالظاهر, قطعنا من لزمه اسم سرقة، وضربنا مائة كل من زنا حرا ثيبا وأعطينا أسهم ذي القربى كل من بينه وبين النبي قرابة. وخمسنا السلب لأنه من المغنم.
من جهة ثالثة أدت هذه القاعدة العجيبة إلى رفع ما يظن أنه تعارض بين القرآن وبين الحديث. ففي القرءان الكريم جاء حد القذف ثمانين جلدة وفي قوله تعالى : (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة.)
وجاء قوله تعالى: “ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات.”
قال الشافعي : فلما فرق الله بين حكم الزوج والقاذف سواه فحد القاذف سواه إلا أن يأتي بأربعة شهداء وأخرج الزوج من اللعان دل ذالك على ما وصفت من أن القرآن عربي يكون منه ظاهرا عاما وهو يراد به الخاص.
لقد ذكر الشافعي، إلى جانب العام والخاص قاعدة الناسخ والمنسوخ، وقدم الصلاة كأبرز مثال للنسخ. مع أن الأصوليين سيذكرونها على أنها من أمثلة التخصيص لا من أمثلة النسخ، رغم إقرارهم بأن الشافعي من علماء الناسخ والمنسوخ. ومثل دور النسخ ما مثله دور العام والخاص تقريبا في بناء صيغ وقوانين المفاهيم في الرسالة.
لكن ما هو مطلوب منا معرفته هو المبدأ المعرفي الذي انطلق منه الشافعي في العام والخاص. يقوم هذا المبدأ على تصور بدائي للمعاني اللفظية. فعنده أن قول القائل جاء التلاميذ، أن هذا اللفظ ليس حقيقة فهو يشمل تلاميذ البشرية جميعا. مما يعني انه لابد من معرفة المقصود بهذا اللفظ، حيث هنا سنستعين بالأدلة من العقل والحس لمعرفة حقيقة التلاميذ هاهنا. ومعلوم أن هذا التصور لمعاني ألفاظ العربية هو تصور خاص بالشافعي وليس من العربية في شيء, لأنه في اللغة العربية لا يفهم من الألفاظ العامة إلا ما يفهم من مقصود المتكلم. لذالك فإن القوانين التي وضعها الشافعي هي قوانين الشافعي، وليست قوانين اللغة العربية وأبعد من ذلك أن تكون قوانين لفهم الشريعة. وهذا ما عبر عنه الزركشي عند ما قال بأن تناول الأصوليين للأمر والنهي والعام والخاص ليس له أصل في اللغة العربية، فهو يحتوي علي: “ استقراء زائد على استقراء اللغوي. مثاله دلالة صيغة إفعل على الوجوب ولا تفعل على التحريم، وكون كل وأخواتها للعموم وما أشبه ذالك لو فتشت كتب اللغة لم تجد فيها شفاء لذالك.[91] إذا هذه القواعد لا صلة لها باللغة العربية فأن لا تكون لها صلة بالقرآن والسنة فبالأولى .
كما أن هذه المفاهيم بانطلاقها من فهم بدائي، سيظل فهمنا للشريعة بدائيا. فهذه المفاهيم لا تناقش الأدلة ولا تبحث فيها، وإنما ينصب اهتمامها في العلاقة فيما بينها من حيث التزاحم والتدافع بينها. فالبحث هو في انتماء الدليل إلى هذا الطرف أو ذاك، فإذا انتمى إلى العام حذف وإذا انتمى إلى الخاص صار دليلا يعمل بمقتضاه.
هذا بغض النظر عن معرفة المعاني والمقاصد للأدلة.
إذا كانت المباديئ التي يقوم عليها أصول الفقه ممثلة في العام والخاص بدائية ومتخلفة، فإن الفقه الناجم عنها سيكون مثلها. فإذا طبقنا عليه التنصيص كما يفهمونه، وهو أن أدنى احتمال يتطرق إلي اللفظ يجعله غير حقيقة، فإنه يتعذر تطبيق الصلاة والزكاة وسائر الأوامر والنواهي الشرعية. ففي الزكاة أنه لا تجب الصدقة إلا في خمس جمال ففيها شاة, إذن من لا يملك إلا خمس جمال فقط فلا بد أن يبيع أحدها ليشتري منه شاة، وفي هذه الحالة لم يعد يملك النصاب، وهذا يقال في خمسة أوسق وفي المقدرات كلها.
ثانيا العموم الخالي عند الغزالي
مثل كتاب المستصفى في أصول الفقه أهم كتب الأصول عند الغزالي، كما مثل في نفس الوقت أحد الكتب الأربعة الرئيسية في هذا العلم. أما الكتب الثلاثة الأخرى فهي: كتاب المعتمد لأبي الحسن البصري، وكتاب العمدة للقاضي عبد الجبار، وكتاب البرهان للجويني. وقد مثل كتاب المستصفى «قمة الكمال كما يقدم نموذجا في التأليف وحسن الصياغة والعرض والتنظيم للقضايا والموضوعات تنظيما يحترم التسلسل المنطقي»[92].
وقد برهن الغزالي في هذا الكتاب على ثقله وسلطته المعرفيين، فقد تدخل أربع مرات للتخفيف عن المجتهد بإلغاء بعض الشروط المعرفية، معتبرا أنها لم تكن موجودة في عصر الصحابة ويجب الآن سلوك عصرهم، كما أنه ربما هدد باستخدام أسلحة الدمار الشامل، في حالة مواقف قوية تعارض موقف الأصحاب. فقال في بعض هذه المواقف مهددا «ومن لم يقتنع به، أي الرد، فتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه، ولتزلزلت له قواعد لا يمكن تداركها.»[93] فالخصم إما أن يسلم بتفوق الأصحاب، مكتفيا بمواصلة الحوار، والسماح بعرض مواقفه. أما إذا حاول التفوق على الأصحاب فهذا غير مسموح به، ولو تطلب الأمر تدمير المعرفة كلها والانطلاق من الصفر.
وقد مثل موضوع العام والخاص حيزا كبيرا في هذا الكتاب، وشغل هذا الموضوع ولواحقه من الشرط والاستثناء ربع الكتاب، المكون من ثمانمائة صفحة، وقد انطلق في هذا البحث بعرض صيغ العموم أولا. وعرف العام بأنه «عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل الرجال والمشركين ومن دخل فأعطه درهما.»[94] هذا التعريف للعام لا ينسجم مع التعريف اللغوي له. فهو في اللغة يعني التام والكامل، وهذا واحد من الخروق الكثيرة لهذا العلم مع اللغة العربية، فكلمة الأصل في أصول الفقه تعني عند الأصوليين لغة، ما يبنى عليه غيره كأصل الشجرة، أو هو ما منه الشيء كالوالد للولد، هذا في لغة الأصوليين. أما في اللغة العربية فهو من الألفاظ المشتركة فالأصل أسفل الشيئ وتقال لما ثبت واستقر، كما تعني القلع يقال استأصل القوم لم يبق لهم أصلا، وأصل اللحم إذا تغير.
بعد هذا التعريف للعام يتناول الغزالي صيغ العموم وهي خمسة، الأول ألفاظ الجموع إما المعرفة كالرجال والمشركين، وإما النكرة كقولهم رجال ومشركون، والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود، كقولهم أقبل الرجال أي المعهودون المنتظرون، الثاني من وما إذا أوردا للشرط والجزاء، كقوله عليه السلام من أحيا أرضا ميتة فهي له، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه، وفي معناه متى وأين للمكان وللزمان، الثالث ألفاظ النفي كقولك ما جاءني أحد، وما في الدار ديار، الرابع الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام كقوله تعالى {إن الإنسان لفي خسر}. الخامس الألفاظ المؤكدة كقولهم كل وجميع وأجمعون وأكتعون.
يتناول الغزالي مباشرة بعد هذه الصيغ الإشكالية التي لا تنتهي بسرعة. وهي هل هذه الصيغ تفيد العموم؟ أم تفيد الخصوص؟ أم لا تفيد شيئا؟ فقال البعض إن هذه الصيغ موضوعة للعموم، وهؤلاء أرباب العموم ولهم أدلة خمسة[95].
الأول: أن أهل اللغة كما عقلوا الأعداد والأنواع والأشخاص والأجناس، ووضعوا لكل واحد اسما لحاجتهم إليه، عقلوا العموم، والرد جاهز عند الغزالي، وهو أن هذا قياس واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا واستدلالا. وبعد الدليل الثاني والثالث والرابع يتوقف الغزالي عند الدليل الخامس، وهو عمدة هذا الاتجاه. وهو إجماع الصحابة. فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم، إلا ما دل الدليل على التخصيص، وكانوا يطلبون دليل التخصيص لا دليل العموم. فعملوا بقول الله “يوصيكم الله في أولادكم” واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها، حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه نحن معشر الأنبياء لا نورث. وقوله تعالى: “الزانية والزاني” وقوله تعالي: “والسارق والسارقة” إلى غير ذلك مما لا يحصى. ولما نزل قوله تعالى: “إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جنهم” قال بعض اليهود أنا أخصم لكم محمدا، وقال قد عبدت الملائكة والمسيح فيجب أن يكونوا من حطب جنهم، فأنزل الله “إن الذين سبقت لهم منا الحسنى” تنبيها على التخصيص. ولما نزل قوله تعالى: “الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم” قالت الصحابة فأينا لم يظلم نفسه؟ فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق والكفر.
وقد رد الغزالي على هذا الدليل، بقوله بأن هذا إن صح من بعض الصحابة فلا يصح من جميعهم، فلا يبعد عن بعض الأمة اعتقاد العموم فإنه الأسبق إلى أكثر الأفهام، ولا يسلم ذلك على كافة الصحابة، الثاني أنهم ربما حكموا بالعموم مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ وبين بقية المسميات، والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة، أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة.
إذن نحن هنا مع أرباب العموم، مع الفهم الذي ذهب إليه علماء الشريعة الأوائل من التخصيص، والذهاب من الأدلة العامة إلى الأدلة الخاصة، ودليلهم في ذلك أن الصحابة فهموا من العموم كل ما يصدق عليه في اللغة، حتى جاءهم الدليل الذي يحصر معنى اللفظ في معنى معين، وهذا بعينه هو ما ذهبوا إليه من تخصيص الصلاة والزكاة والزنا والسرقة في معاني مخصوصة بعد أن جاءت بألفاظ عامة.
يتخلص الغزالي بعد هذه الجماعة إلى جماعة أخرى وهم أرباب الخصوص. وقالوا إن لفظ الفقراء والمساكين والمشركين ينزل على أقل الجمع، واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ، والباقي مشكوك فيه، ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك، وهذا الاستدلال فاسد فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة ولا يوجب كونها مجازا في الباقي.
وأخيرا يتناول الغزلي موقف الفلاسفة والمتكلمين والشكاك، وهم أرباب الوقف. فقد «ذهب القاضي والأشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف ولهم شبه ثلاثة الأولى: أن تكون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا تخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل، والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع، وكل واحد إما آحد أو تواتر والآحاد لا حجة فيها، والتواتر لا يمكن دعواه، فإنه لو كان لأفاد علما ضروريا والعقل لا مدخل له في اللغات.» والشبهة الثانية: أنا رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته، قضينا بأنه مشترك ومن ادعى أنه حقيقة في واحد ومجاز في الأخر فهو متحكم، وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم والخصوص معا .
بعد أرباب العموم وأرباب الخصوص وأرباب الوقف، يتخلص الغزالي إلى «بيان الموقف المختار عندنا في إثبات العموم» فيقول: اعلم بأن هذا النظر لا يختص بلغة العرب بل هو جار في اللغات كلها، وهو هنا يرد ردا خفيا على الشافعي، الذي سبق أن قال إن العموم والخصوص من صفات اللسان العربي.
أما الدليل على العموم عند الغزالي فهو أربعة أدلة تفي بالغرض: وهي توجه الاعتراض على من عصا الأمر العام وسقوطه عمن أطاع، ولزوم النقض والخلف عن الخبر العام، وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة.
أما الدليل على سقوط الاعتراض على من أطاع الأمر العام، فإن السيد إذا قال لعبده من دخل داري فأعطه درهما، أو رغيفا، فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه، فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا، وقال لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير، وإنما أردت الطوال، فيقول العبد ما أمرتني بإعطاء الطوال، بل بإعطاء من دخل. فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها، رأوا اعتراض السيد ساقطا، وعذر العبد متوجها.
أما الدليل على توجه الاعتراض على من عصا الأمر العام، فإن السيد إذا قال من دخل داري فأعطه درهما، فأعطى الجميع إلا واحدا، فعاتبه السيد وقال لم لم تعطيه؟ فقال العبد لأن هذا طويل و كان لفظك عاما فلعلك أردت القصار استوجب هذا العبد التأديب.
أما الدليل على ورود النقض على الخبر العام، فإذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأي جماعة كان كلامه خلفا منقوضا كذبا.
وأما الدليل على الاستحلال بالعموم، فإذا قال الرجل أعتقت عبيدي وإمائي، ومات عقيبه، جاز لمن سمعه أن يزوج من عبيده من شاء ومن أي جواريه شاء، بغير رضا الورثة. وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان، كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع. وبناء الأحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر .
وهنا يعترض على الغزالي كما اعترض هو علي غيره، والاعتراض أن ما قال مسلم به بسبب القرائن، فلعنا فهمنا العمومات السابقة بقرائن وأحوال. لذلك فإن الصحابة رضي عنهم لم يبحثوا العموم والخصوص لأن القرائن المعرفة للصيغ كانت في زمنهم غضة طرية. وهذا لم يتح للخلف فأصبحوا يعتمدون على هذه القواعد لمعرفة المراد بالصيغ، وبهذا المنهج عرف قوله تعالى “أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة” بالقرائن المخصصة لهما.
وهنا يرد الشافعي قائلا « كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها، ويبقى حكم الاعتراض والنقض كما سبق، فإن غايتهم أن يقولوا إذا قال أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي كان مطيعا بالإنفاق على الجميع لأجل قرينة الحاجة إلى النفقة، أو أعط من دخل داري فهو بقرينة إكرام الزائر فهذا وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها، فإنه لو قال لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالإنفاق مطيعا بالتضييع، ولو قال من دخل داري فخذ منه شيئا بقى العموم، بل نقدر ما لا غرض في نفيه وإثباته فلوا قال من قال من عبيدي جيم، فقولوا صاد، ومن قال من جواري ألف فأعتقها فامتثل أو عصى كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض وتوجهه جاريا.
إن الغزالي هنا يحطم نظرية باتت هي الأساس لتبرير صيغ المفاهيم الشرعية، وهو ثيرير قائم على أن مجرد الأمر بالصلاة والزكاة يبقى كلاما في فراغ، ما لم تأخذ هذه الألفاظ صيغا محسوسة وهذه الصيغ المحسوسة لا يعثر عليها إلا بالبحث في السنة خصوصا لمعرفة المعاني المرادة من تلك الألفاظ، ومن أجل تقويض هذا الأسلوب في البحث يقول الغزالي: «بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة، ولم يعيش إلا ساعة من نهار، وقال في تلك الساعة من سرق فاقطعوه، ومن زني فا ضربوه والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ، وكذلك الزكاة، ومن قتل مسلما فعليه القصاص، ومن كان له ولد فعليه النفقة ومات عقيب هذا الكلام، ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة، ولا صدر منه سوى هذه الألفاظ إشارة ورمزا، ولا ظهر في وجهه حالة لكنا نحكم بهذه الألفاظ ونتبعها، ولا يقال جاء بألفاظ مشتركة مجملة ومات قبل أن يبينها فلا يمكن العمل بها.»
إننا في الفقرات السابقة أمام نظرية أصولية جديدة وأصيلة بما في الكلمة من معنى. وأمام تدشين فقه جديد أيضا. و ما نلاحظ في البداية، أن الغزالي هنا يقدم العام والخاص كإشكالية لغوية يجب البحث في صيغها اللغوية، وهذا النوع من البحث قد غلب على علم الأصول في مرحلة ما بعد الشافعي. أما الشافعي فلم يهتم بهذه الصيغ، وإنما أخذ العموم كمعطى لغوي مسلم به. وبالتالي فمرحلة ما بعد الشافعي هي المرحلة التي اختلط بها هذا العلم وبتأثير مباشر من الغزالي بكل شيء، وأصبح فلسفة تضم جميع العلوم بدون تمييز، لذلك قيل إن علم أصول الفقه ما هو " إلا نبذ جمعت من علوم متفرقة، نبذة من النحو كالكلام على المعاني والحروف، ونبذة من علم الكلام، كالكلام في الحسن والقبيح، ونبذة من اللغة كالكلام في موضوع الأمر والنهي، وصيغ العموم، و ونبذة في علم الحديث كالكلام في الأخبار»[96].
وصار هذا العلم نموذجا للخلاف والاختلاف. فقال الطاهر ابن عاشور إن الأصوليين” لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر وينتهي إليها المشتبه عليه، كما ينتهي أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلي الأدلة الضرورية فينقطع بين الجميع الحجاج[97].”
نلاحظ ثانيا أنه مع الشافعي فإن العام والخاص هما عبارة عن أدلة شرعية، و عمل الباحث هو تمييز الدليل العام من الدليل الخاص، أي أن لهما محتوى تجريبي، لكنه مع الغزالي فليس هناك اهتمام بالأدلة وبالمفاهيم، فالبحث هو في أمور مجردة فاقدة لكل محتوى تجريبي. وعليه فإن الصدق والكذب لا ينطبق عليها، هذا ما قاد إلى أن ينطبع البحث بالخلاف والاختلاف فالأدلة الجزئية التي تمتحن بها القواعد قد حذفت من الاعتبار، وبالتالي سيكون النقاش العقيم هو سيد الموقف. لذلك نرى الخلاف هنا في أشده ليس بين فرد وآخر، وإنما ما بين أرباب العموم وأرباب الخصوص وأرباب الوقف.
تتخلص نظرية الشافعي في العام والخاص أن العمومات محتملة وظنية، والأخذ بها يؤدي إلى الخطأ، وإنما يتوصل إلى اليقين بفضل الأدلة الخاصة من الحديث، فلو أخذنا العمومات في قوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة}، لكانت حبة واحدة تكفي لأنه يصدق عليها كلمة مال، وفي قوله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وقوله {والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منها مائة جلدة} لو أخذنا بظاهرهما لجلدنا كل من صدق عليه اسم الزنا محصنا وغير محصن، ولقطعنا يد كل سارق، ولو كان سرق شيئا لا يساوي درهما.
إن الغزالي يثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن العموم يمكن تطبيقه بمجرد اللفظ سواء صدر من اللغة العربية أو صدر عن غيرها من اللغات، ولا يحتاج فيه إلى قرائن وصيغ تحدده، فمن قال من دخل داري فأعطه شيئا عند الأصوليين، وبحسب عموم الشافعي هو كلام مجمل يحتاج إلى بيان. ووزانه من الأدلة الشرعية “خذ من أموالهم صدقة” لا بد له من بيان. لذلك انطرحت مشكلة جديدة، وهي تأخير البيان وتعجيله، ومعلوم أن البيان الذي يبحث عنه هنا، هو بيان الأصوليين لا بيان الشريعة، فعند القائلين بالتأخير فإن هذا الأمر لا يعني شيئا. فمن جاءه الفقراء وهو يحصد زرعه فليتركهم، لأنه غير مخاطب بالزكاة إلا بعد تلقي الزكاة المخصوصة المبينة للزكاة. أما الغزالي ففي هذا البحث يرى أن هذه العمومات يمكن تطبيقها لأجل اللفظ ولا يتوجه إلينا اعتراض معترض عند جميع العقلاء.
هذا الموقف القائم على رفع القرائن والصيغ، هو نقد خفي ليس لأصول الفقه فقط، وإنما هو رفض مبطن للفقه جميعا. فالغزالي على شاكلة المتصوفين، لم يكونوا يرضون عن تقعيدات الفقهاء وقوانينهم. وقد سأل أحدهم متصوفا عما يجب في مائتي درهم، فقال بالنسبة لنا فالكل لله وبالنسبة لكم فخمسة دراهم. وأيضا عند المتصوفة فإن المعرفة لا تستقي من البحث في الأدلة النقلية أو العقلية، وإنما هي انكشاف إلهي ونور يقذفه الله في القلب، وبالتالي فلا حاجة للعموم في البحث عن القرائن التي تكتشف بالعقل والنقل والحس وما إلى ذلك.
لذلك نرى أن الغزالي كان يرمي من خلال كتابه إحياء علوم الدين، إلى وضع فقه جديد، وأبواب جديدة للمعرفة الشرعية. أي أنه يريد أن تأخذ المعرفة الفقهية مسارا مغايرا للمسار الذي كانت تسير عليه.
فهذا الكتاب لا يتعرض للموضوعات التقليدية في الفقه، وخصوصا أحكام الصلاة والزكاة، ولكنه يتحدث عن أسرار الصلاة والزكاة وليس عن قوانينهما وصيغهما. فالأمر حسب الغزالي يتعلق بموضوعات لم تحظ بالاهتمام في النظرية الفقهية السابقة. ويريد الغزالي من وراء ذلك أن تأخذ هذه المفاهيم معاني جديدة تقوم على أسرار المفاهيم وغاياتها لا على أشكالها وكيفياتها.
ثالثا: العموم الاستعمالي عند الشاطبي
في مقدمات هذا المبحث يحرر الشاطبي المقصود بالعموم، مؤكدا على أن “المراد بالعموم العموم المعنوي كان له صيغة مخصوصة أولا ، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره أنه عام، فإنما معني ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم بدليل فيه صيغة عموم أولا”[98].
إذن هذا الموقف يتعارض مع ما ذهب إليه الأصوليون بأجمعهم، بأن العموم من عوارض الألفاظ، لا من عوارض المعاني. قال الغزالي “العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني”[99]،” وشرح ذلك فيما بعد فيقول: “فقولنا الرجل له وجود في الأعيان، وفي الأذهان، وفي اللسان. أما وجوده في الأعيان فلا عموم فيه إذ ليس في الوجود رجل مطلق، بل إما زيد وإما عمرو وليس يشملهما شيء واحد هو الرجولية، أما وجوده في اللسان فلفظ الرجل وضع للدلالة ونسبته في الدلالة إلي زيد وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة، وأما ما في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا، من حيث أن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان، وحقيقة الرجل فإذا رأي عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى، وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا فهذا معني كلية فإن سمي عاما بهذا المعنى فلا بأس[100]“ وهذا يعني أن العموم في الألفاظ ، أما المعنى فلا عموم له، لأننا عند ما نشاهد زيدا فإن الذي نشاهده هو عمرا الذي لم نشاهده بعد، وعندما يأتي عمرا فالذي أتي هو زيد. وهذا شاهد علي الفلسفة والهرطقة اللذين طبعا هذا العلم في مرحلة الغزالي وما بعده، وهناك بعض الأصوليين الذين ذهبوا إلى موقف مغاير للموقفين السابقين، وهو أن العموم لا يعم ولو على مستوى الألفاظ، وهي الضجة التي أثارها الكرخي وذهب إليها بعض الأصوليين، ومنهم ابن الحاجب واعترف الآمدي أنه لا يملك لها حلا وتمنى وجوده مع غيره، وهي قوله إن صيغة العموم لا تعم. فقوله تعالى:{خذ من أموالهم صدقة } لا عموم له بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم صدقة، وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحو هما واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله”[101].
إذن يرى الشاطبي أن العموم هو العموم المعنوي. وفي المسألة الثالثة وهي بيت القصيد، يقول الشاطبي بأنه لا يبحث فيما إذا كان العرب وضعوا صيغا للعموم أم لا؟ وهو بحث كبير كما لاحظنا مع الغزالي. باعتبار أن ذلك البحث يخص علماء اللغة العربية.ولا يخص الأصولي. وبمقابل ذلك يبحث في أمر آخر قريب من موضوعات اللغة العربية، ولكنه أكيد التقرير ههنا. يقول الشاطبي “إن للعموم نظرين أحدهما باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها علي الإطلاق، وإلي هذا النظر قصد الأصوليون لذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة، والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع عي خلاف ذلك، وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي، والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الإستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان االحكم للاستعمالي”[102].
فالعرب تستعمل ألفاظ العموم ، بحسب ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع، كما أنها تستعملها، وتقصد بها معاني مغايرة، كقولهم فلان يملك المشرق والمغرب، وضرب زيد الظهر والبطن ، ومن دخل داري أكرمته ، وضرب الأمير كل من في المدينة. فإن الألفاظ هنا استعملت في بعض معانيها بحسب الوضع ولم يقصد بها معانيها في أصل الوضع “فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها هو مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان”[103] .
فمن قال ضرب الأمير من في المدينة فإن اللفظ لا يشمله، ومن قال قاتلت الكفار فالمقصود من لقي منهم دون من لم يلق “هذا كلام العرب في التعميم فهو إذا الجاري في عمومات الشارع، وقد نبه إليه طائفة من أهل الأصول.. وعليه يحمل كلام الشارع بلا بد”[104].
إننا هنا أمام نظرية من أجل العموم. مخالفة لنظرية الشافعي التي اعتمد عليها من أجل إقصاء بعض الأدلة وتبنى البعض الآخر، وإقامة الشرخ بين الأدلة الشرعية. فعند الشافعي أن العموم والخصوص ناتجين عن اتساع لسان العرب فقول الله عز وجل: {الذين قال لهم الناس} فهذا اللفظ يجب أن يجري على وضعه، وكلمة الناس تنطبق على البشرية جمعاء، وهذا يعني أنها استخدمت هنا استعمالا غير حقيقي. الأمر الذي يستلزم البحث عن المعنى الحقيقي، وهو التخصيص بأدلة العقل والحس، وعلى مستوى البحث الشرعي فإننا ننطلق بالمثل من قوله تعالى: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، للبحث في المعنى الحقيقي لهما، لأنهما مثل كلمة الناس السابقة ليستا حقيقيتين في معناهما.
أما الأمر هنا فهو مختلف إذ أن الألفاظ تتحدد من خلال مقاصد المتكلم، وقرائن الأحوال وسياق الكلام، وبعبارة أخرى فإن الألفاظ تحمل معانيها من الداخل وليس من الخارج، أي أن المعني لا ينفصل عن حامله المادي.
هذا لا يكفي، لأن الأصوليين يعتمدون على مبدأ صلب، هو أن هذه الألفاظ جاءت بحسب اللغة، ولهذه اللغة وضع لا نملك التصرف فيه، بل هو المرجعية في فهم الألفاظ، فإذا استعمل اللفظ في غير ما وضع له فقد خرج الوضع من أيدينا، وبالتالي لابد من اعتماد مرجعية أخرى لمعرفة المعنى الجديد، وهذا هو مقصود الأصوليين بالتخصيص بالعقل والحس، وهما مرجعيتان في قوة الحقيقة الوضعية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تخصيصنا للمفاهيم من الصلاة والزكاة يجد مبرره من فهم السلف، فقد أجروا الألفاظ العامة علي معناها الوضعي الإفرادي، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص، دل علي أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ عندهم بحيث صار كوضع ثان، بل هو باق علي أصل وضعه، ثم التخصيص آت من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل. مثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى:{الذين آمنوا ولم يلبسوا بظلم} فهموا منها كل ظلم دق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنه ليس بذلك آلا تسمع قول لقمان الشرك لظلم عظيم».
للإجابة على الاعتراض الأول، يرى الشاطبي أن اللفظ إذا استعمل في غير ما وضع له لغة، فهذا يعني أنه صار له وضع جديد وأصالة جديدة. ودليله “ما تقرر في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين: أصالة استعمالية وأصالة قياسية ، فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع. وهي التي وقع الكلام فيها وقام الدليل عليها في مسألتنا فالعام إذا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال”[105].
أما عن الاعتراض الثاني، وهو أن الصحابة حملوا الألفاظ على الوضع اللغوي، فهذا راجع إلى أنهم لم يعرفوا المقصود الشرعي من تلك الألفاظ، وهو المقصود الذي تقرر في سور القرآن، والذي يتطلب التعمق في فهم الشريعة، وإطالة معاشرتها. فكما أن للوضع العربي من يعرفه، وهم أهل اللغة وهم شرع في هذا الوضع. فكذلك فإن الوضع الشرعي يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب، كما أن الوضع العربي يختص به العارفون بمقاصد العرب.
انطلاقا من هذا، فإذا رجعنا إلى الآيات المزعوم أنها مخصصة بأدلة إضافية كشفت عن معناها، إذا رجعنا إليها نجد أنها حقيقة في معناها، إذا أتيح لنا أن ندرسها دراسة متأنية، تستعمل المعطيات الواقعية واللغوية وسياق النص. فقوله تعالى: {إنكم وما تعيدون من دون الله حطب جهنم} يقول الأصوليون إن هذه الآية تشمل الملائكة والمسيح، وبالتالي جاء التخصيص في قوله تعالى:{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى}. أما الشاطبي فيرى أن معرفة المقصود من الآية يتوقف عليها، وعلى فهمها باستعمال المعطيات العلمية، فالآية تقول إنكم وما تعبدون، وما لما لا يعقل فلا تشمل الملائكة والمسيح، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمعترض ما أجهلك بلغة قومك يا غلام.
يقول الشاطبي بعد ذلك: «والذي يجري على أصل مسألتنا، أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح، وإنما كنوا يعبدون الأصنام فقوله وما تعبدون عام في الأصنام التي كانوا يعبدون، فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق، وغفلة عما قصد في الآيات لحداثة سنه وغلبة الهوى عليه في الاعتراض»[106].
إذن يتعلق الفهم للخطاب الشرعي أن لا نخرج بعيدا عنه، وأن نعتمد على الأساليب المتاحة حتى تنكشف لنا حقيقة اللفظ. أي أننا مطالبون ببذل الجهد لاستكشاف معنى جديد لا أن نخلد إلى الراحة، بالتشكيك في معنى اللفظ وإلغاء شرعيته والذهاب إلى لفظ الآخر.
إن البحث الشرعي يعني مسايرة الألفاظ الشرعية ومراقبتها بصورة مستمرة، وفي كل مرة نستكشف حقيقة جديدة، ومعنى جديدا، واجتهاد الصحابة كان تأكيدا لهذه الحقيقة يقول الشاطبي: «وبالجملة فجوابهم بيان لعمومات تلك النصوص كيف وقعت في الشريعة، وأن ثم قصدا آخر سوى القصد العربي لا بد من تحصيله وبه يحصل فهمها وعلى طريقه يجري سائل العمومات الشرعية. وإذ ذاك لا يكون ثم تخصيص بمنفصل البتة واطردت العمومات الشرعية قواعد صادقة العموم»[107].
إن العمومات قواعد صادقة العموم، وإذا أدركنا عموما متعلقا بالصلاة في آية، وعموما في آية أخرى، فالأمر لا يتعلق بعام وخاص، أو ناسخ ومنسوخ، وإنما يتعلق بقيمة مضافة، فلكل من العمومين معنى جديد، وطريقة البحث تتصف بالجهد والمعاناة وذلك بمعايشة الأدلة يوميا لمعرفة معانيها.
يقوم البحث عند الأصوليين على التخصيص وهو إخراج، وفي المثال السابق «الذين قال لهم الناس» يعني التخصيص إخراج الناس الذين لم يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم شيئا في شأن أبي سفيان، وهم الناس في الأرياف والمناطق النائية، ليكون الداخل في هذا اللفظ هو نفر قليل من الناس لا يبلغ أصابع اليد. ووزانه في البحث الشرعي، أنه في قوله تعالى: {أقيموا الصلاة} فإننا نخرج صلاة قيام الليل، وصلاة التهجد، وصلاة الفجر... وندخل الصلاة الخمس، وقد رفض الشاطبي هذا الإخراج، مقدما فهما جديدا للتخصيص يتداخل مع التخصيص عند الأصوليين لشدة ما بينهما من التباعد.
قال الشاطبي: «إذا تقرر ما تقدم، فالتخصيص إما بالمنفصل أو بالمتصل، فإن كان بالمتصل، كالاستثناء والصفة والغاية وبدل البعض وأشباه ذلك، فليس في الحقيقة بإخراج لشيء، بل هو بيان لقصد المتكلم في عموم اللفظ ،أن لا يتوهم السامع منه غير ما قصد، وهو ينظر إلى قول سيبويه: زيد الأحمر عند من يعرفه كزيد وحده عند ما لا يعرفه، وبيان ذالك أن زيدا الأحمر هو الاسم المعرف به مدلول زيد بالنسبة إلى قصد المتكلم، كما كان الموصول مع صلته هو الاسم لا أحدهما، وهكذا إذا قلت الرجل الخياط فعرفه السامع فهو مرادف لزيد...وإذا كان كذلك فلا تخصيص في محصول الحكم لا لفظا ولا قصدا، ولا يصح أن يقال إنه مجاز لحصول الفرق عند أهل العربية بين قولك ما رأيت رجلا شجاعا، وما رأيت أسدا يفترس الأبطال، وأن الأول حقيقة والثاني مجاز، والرجوع في هذا إليهم لا إلى ما يصوره العقل في مناحي الكلام، وأما التخصيص بالمنفصل فإنه كذلك راجع إلى بيان المقصود في عموم الصيغ حسبما تقدم في رأس المسألة لا أنه على حقيقة التخصيص الذي يذكره الأصوليون»[108].
هذا الاستشهاد طويل نسبيا، إلا أننا قصدنا ذلك لطرافة الأفكار التي يقدمها الشاطبي، فالتخصيص يعني المنهج، والمنهج عند الأصوليين ، يقوم على الإخراج، والمنع، ففي الطريقة الأصولية التقليدية، بمجرد أن يكون للمحل دليل خاص به، ويكون طائرا في عنقه، يكون البحث بعد ذلك قائما علي تضييق الخناق علي الأدلة الأخري التي تقدم صيغا أخري لنفس المحل، فينصبون لها العداء، ويتخلصون منها باعتبارها عامة خصصت أو مطلقة قيدت، أو منسوخة نسخت. وعند الشاطبي فإن الأمر يختلف إذ يقوم علي الإكثار من الأدلة، لأنه كلما استوعبنا أكبر قدر من الأدلة، كان فهمنا للموضوع ولمحل البحث أكبر وأوضح. يقول الشاطبي: «فإذا المجموع هد الدال»[109] وهذا يعني أن مجموع الأدلة من أجل هذا المحل أو ذاك، أو هذا المفهوم أو ذاك تعتبر هي حقيقة المحل والدال الذي يدل عليه. ولا يصح القول بأن بعضها عام والبعض خاص، أو أن البعض ناسخ والآخر منسوخ، فالرجوع فيه هذا إلى الأصوليين لا إلى الشارع، كما أن من وضع الحقيقة والمجاز هم علماء اللغة وليس أهل العربية أنفسهم. فهم أي الأصوليون، من وضع هذه القوانين التي لا تلزم غيرهم.
يتوصل الشاطبي إلى أن التخصيص في مفهومه الجديد، يعني بيان وضع الصيغ العمومية في أصل الاستعمال العربي أو الشرعي. أما عند الأصوليين فيعني بيان خروج الصيغة عن وضعها من العموم إلى الخصوص، يقول الشاطبي مقارنا بين الموقفين: «وبينهما فرق، فالتفسير الواقع هنا نظير بيان الذي سيق عقب الحقيقة ليبين أن المراد منه، والذي للأصوليين نظير البيان الذي سيق عقيب اللفظ المشترك ليبين أن المراد المجاز كقولك رأيت أسدا يفترس الأبطال»[110].
إذن يعني التخصيص عند الشاطبي من بين ما يعني تفسير اللفظ المشترك. فكملة العين تدل على الماء الجاري، وعلى الحاسة المعروفة، على المعدن الثمين، فإذا استعملها إنسان نعرف المقصود من بين هذه الأنواع من مقتضى الحال وسياق الكلام وما إلى ذلك، لكن هذا لا يعني أن كلمة العين أصبحت خاصة في واحد من هذه المسميات الثلاثة، ولكن نقول إنها الآن وفي هذه الواقعة خاصة بكذا وذلك، وقد تطلق في مناسبة أخري علي معني آخر. ووزانه في الشريعة أننا أمام أدلة لكل منها من الشرعية ما للآخر ، لأنها قواعد صادقة العموم. فعندما نخصص الصلاة بأنها تعني الصلاة الخمس فهذا إنما هو انطلاقا من أدلة معينة. وثمة أدلة أخرى تقدم معاني أخرى للصلاة وكل منها حقيقة، فالبيان عند الشاطبي هو بيان متدفق ومتنوع، أما البيان عند الأصوليين فهو متحجر في صيغة واحدة، وبين بيان والبيان ما بين السماء والأرض.
في المقارنة بين هذا الموقف وبين الموقف الأصولي، يورد الشاطبي اعتراضا لا بد منه. وهو أنه إذا كان هذا الموقف صحيحا يلزم منه أن يكون ما أجمع عليه الأصوليون خطأ، وما أجمعت عليه الأمة خطأ. ويرد الشاطبي بعبارة وجيزة أن ما أجمعت عليه الأمة صحيح وهذا الموقف صحيح أيضا.
أما عن النتائج العملية لهذا الموقف، وما يترتب عنه من الأحكام. فقد أشار الشاطبي إلى أن هذا البحث تنبنى عليه الأحكام، وفوق ذلك يمكن أن «يبنى عليه فقه كثير وعلم جميل»[111] وأول هذه الأحكام هو إعادة الثقة إلى العمومات الشرعية، ووضع حد للتشكيك فيها والتقليل من أهميتها، وذلك فيما قيل عن ظنية العموم، وهل يبقي حجة بعد التخصيص وغير ذلك من المسائل الخطيرة في الدين[112].
أما الفقه الكثير فقد اكتملت مبرراته وطرقه، وبقي شيء واحد، وهو التطبيق والناحية التجريبية، علي غرار ما فعل الشافعي في الرسالة. ولكن هذا لم يتحقق مع الشاطبي نظرا لتوغل هذا العلم منذ الغزالي في التجريد. والابتعاد عن الأدلة الجزئية.
لقد سبق أن ألحمت إلى أن العموم هو صورة مصغرة للقواعد الأصولية .التي تمثل بدورها الصورة المصغرة لعلم أصول الفقه، فهي الموضوع البارز والمثمر فيه، وقلت بأن كلا من الشافعي والغزالي والشاطبي يتميز بأنه وضع له معنى خاصا يسمح له
بأن يقرأ النصوص الشرعية قراءة خاصة، فموقف الشافعي من العموم هو موقف فج إذا لم نقل بأنه موقف ساذج. وأقل ما فيه هو أنه يجعل كل النصوص محتملة وطنية، والفقه الناجم عن هذه النظرية لا ينسجم مع القرآن ولا مع السنة في تعددهما وتنوعهما. بينما هو ظل فقها متحجرا. أما الغزالي فقد تصور أن العموم هو حقيقة في معناه وعلينا امتثاله امتثالا آليا مكانيكيا. وهذا على مستوى الفقه يعني بقاء المفاهيم الشرعية مفتوحة، وأن نمتثل الأوامر الشرعية امتثالا آليا: وقد حاول الغزالي أن يدعو الناس إلى هذا الفقه الجديد من خلال كتابه إحياء علوم الدين حيث الحديث عن أسرار العبادات لا عن قوانينها.
أما بالنسبة للشاطبي فقد لاحظنا بلا شك تعاملا جديدا لهذا المفهوم، يقوم على البحث العقلاني، باعتبار أن المعنى كامن في حامله المادي وغير منفصل عنه، وأن العمومات الشرعية صادقة على كل وجه. وأن هذه العمومات لها مقاصد ومعاني ليست بالضرورة مرغمة بأن تساير المعاني العربية، بل إن الشارع تقدم بوضع جديد، وهذا الوضع يتسم بالخصوبة والتنوع.
إن من شأن كل نظرية أن تكون لها تطبيقات عملية، وكان من شأن نظرية الشاطبي أن يستتبعها كما هو العادة فقه يناسبها ويتماشى معها، كما جري مع الشافعي والغزالي، فكل منهما أفرزت نظريته في العام والخاص فقها خاصا. وقد قال الشاطبي بأن نظريته تشتمل على فقه جميل فأين هو يا ترى هذا الفقه: أم أن الشاطبي تكلم عن أشياء وسكت عن أشياء.
الواقع أن الشاطبي يقول في نهاية الكتاب: «علي أنه بقيت أشياء لم يسع إيرادها، إذ لم يسهل على كثير من السالكين مرادها، وقل على كثرة التعطش إليها ورادها، فخشيت أن لا يردوا مواردها، وأن لا ينظموا في سلك التحقيق شواردها، فثنيت عن جماح بيانها العنان، وأرحت من رسمها القلم والبيان، على أن في الكتاب رموزا مشيرة»[113]، وهذا إقرار من الشاطبي بأنه لم يقل كل ما كان يريد أن يقوله، وأنه ترك رموزا تمكن من اكتشاف المستور، ونحن نرى أن من أبرز هذه الرموز هو هذا الموقف الطريف من العموم والخصوص وما يؤديه عند التطبيق من مراجعة شاملة لما تأصل في الأصول ولما أجمعت عليه الأمة .
إن الفقه الجديد الذي تعد به نظرية العموم يقوم على تنوع الصيغ والقوانين ويجعل كل تحديد للمحل هو تحديد نسبي ما دامت أدلة المحل قد زادت علي الواحد.
لذلك نرى أنه إذا كان من جديد عند الشاطبي، ومن شيء واعد عنده، فإنه يكمن في نظرية المقاصد، لكن لا المقاصد الخمسة كما يحلو لأكثر المشتغلين بهذا العلم، بل المقاصد بمعنى ما جاء في فصل العموم والخصوص، وبما جاء عنهما في المسألة الثالثة علي التحديد.

ما بعد المقاصد الشرعية
كان علم أصول الفقه في مرحلة الشافعي يتميز بوضوح الهدف والرؤية، لقد كانت الإشكالية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فالأمر يتعلق ببناء مفاهيم تعددت و تشعبت أدلتها، ويراد لها أن تأخذ معاني ثابتة، يراد لها أن تكون هي صيغة المحل وقانونه.
هذا هو الهدف الذي أدى إلي تدوين الشريعة، فهذا التدوين لا يعني النقل والاستنساخ، بل يعني الغوص في الأدلة الشرعية من أجل استكشاف صيغ المفاهيم وقوانينها، وفي هذا الاتجاه وضع الشافعي الرسالة في أصول الفقه لتحقيق هذا الهدف. فوضع القوانين من العام والخاص، والناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين، لتوزع الأدلة عليها، على اعتبار أن الخاص والناسخ والمبين هي الممثل الشرعي الوحيد للمفهوم.
وفي عصر الشافعي وأئمة المذاهب، كان هذا الهدف واقعا معاشا، وحافزا دفع إلى نشأة المذاهب الفقهية. لكن بعد وفاة الأئمة الأربعة أعلن عن غلق باب الاجتهاد والاختيار، نظرا لاستقرار الأمر الذي أشار إليه بكر ابن العلاء القشيري المالكي.[114]
بعد هذه الفترة توقف البحث يقول أحمد الخمليشي: »أما بعد نشوء المذاهب الفقهية المعروفة في القرنين الثاني والثالث، فقد سيطر التقليد علي الفكر الفقهي سيطرة شبه مطلقة، وبقيت دراسات أصول الفقه حول الاجتهاد مجرد مناقشات نظرية منقطعة الصلة بالواقع « .[115]
لذلك قلت في كلام سابق إن علم أصول الفقه عند الشافعي كان ينطوي علي وضع حد للاجتهاد، وكان يحمل بذرة فنائه، وذلك ما يشير إليه تحديد الأصول في العدد أربعة، فلا تزيد عليها. وأيضا فإن وضع القواعد الأصولية تزامن معه وضع الجزئيات الفقهيةَِ، لأنه لم يكن ينفصل في هذه المرحلة النظرية عن التطبيق، فالصور الممكنة بين القواعد والأدلة قد استنفذت بالكامل تقريبا، وأصبح من الصعب الاجتهاد إلا ضمن دائرة ضيقة، وبعبارة أخرى فإن غلق باب الاجتهاد كان أمرا اضطراريا فرضه اكتمال الواقع الشرعي، ولم يكن إراديا.
الدليل علي ذلك، أنه في القرون اللاحقة ظهر علماء لا يتقاعدون في الدرجة العلمية عن الأئمة الأربعة، وذلك لما أتيح لهم من الشروط الموضوعية التي تحدث عنها الشوكاني، ومن بينها سهولة المآخذ، بخلاف العلماء السابقين الذين ربما ارتحل الواحد مدة شهر من أجل اقتناء الحديث الواحد، من هؤلاء الذين ذكر الشوكاني: ابن عبد السلام وابن دقيق العيد والسيوطي، بل علي العكس من ذلك تذكر الحكايات عنهم أنهم عانوا من التعب والمرض عندما حاولوا محاكاة اجتهاد الأئمة، فقال السيوطي إنه حاول الاجتهاد من مثل اجتهاد الأئمة، فعاني من المرض وتقهقر الحالة الصحية، و لم يرجع إلي صحته الطبيعية إلا بعد التخلص من تلك المحاولة الفاشلة والرجوع إلي التقليد.
إذا كان لابد أن تستغل الطاقة الفكرية الهائلة عند هؤلاء العلماء وأمثالهم، وذلك بإنتاج إشكاليات جديدة توجه إليها السهام المعرفية، وكان من بين هذه الإشكاليات أنه أنتج علم أصول فقه جديد في غايته وهدفه. وصار هدفه هو القدرة على استخراج الأحكام للنوازل الجديدة، أي مزاحمة الشارع في القدرة علي إنتاج الأحكام، بدل ترك هذا الأمر للشارع والاكتفاء بمعرفته والاستجابة له. وهذا ما وقع في علم اللغة العربية، حيث اهتم العلماء الأوائل بتأدية اللغة كما هي عند أهلها، وصار الاهتمام لاحقا بالبحث عن العلل للتمكن من وضع لغة جديدة ولم لا؟.
وقد بدأ هذا الأمر مع الجويني الذي اعتبر أن عشر الشريعة توطد بالاجتهاد وأن النصوص لا تفي بعشر معشار الأحكام الشرعية[116].
وقال السيوطي في هذا الصدد: » نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم أيضا أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذالك أيضا والنصوص متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى تكون بصدد كل حادثة اجتهاد.[117]» إذا أصبح الهدف من أصول الفقه التمكن من ملاحقة التطور وأصبحنا نتوقع من الشريعة أن تحل مشاكلنا المستعصية. هذه النزعة النفعية إزاء الشريعة وإزاء أصول الفقه، يجعلنا نحمل الشريعة فوق ما تتحمل، ونطلب منها كل شيء مما في ذالك حل مشاكلنا مع الدول الخارجية. وهكذا حدد أ .د. عياض ابن نامي السلمي فوائد أصول الفقه في عدة نقاط، منها معرفة الحكم لكل ما يجد من الحوادث والوقائع التي لم يرد فيها نص صريح، مثل التلقيح الصناعي، والبويضات وقضايا الإنترنت. ومن هذه النقاط مواجهة خصوم الشريعة الذين يزعمون أن الشريعة لم تعد صالحة للتطبيق في هذا الزمان.[118]
وهذه النزعة النفعية إزاء الشريعة، جعلت علماء الشريعة يتذكرون علم الاقتصاد في معرض الحديث عن الهدف من أصول الفقه. فقال محمد الحسن ولد الددو: “علم أصول الفقه هو علم اقتصاد الشريعة فعلم الاقتصاد في علوم الدنيا، هو العلم الذي يمكن من خلاله تغطية الحاجيات غير المحصورة من المواد المحصورة، وعلم أصول الفقه هو الذي يمكن من خلاله تغطية النوازل والوقائع المحصورة.”[119]
هذا البحث في الأحكام تحكمه منهجية معينة، وهي العودة بالوقائع الجديدة إلى الوقائع المنصوص عليها، وهذا هو القياس ، ولذالك شغل القياس في أصول الفقه في مرحلة ما بعد الشافعي حيزا لا بأس به من الاهتمام، فأشبعت مواضيعه درسا ومناقشة. وفي العصر الحديث لاحظ المفكرون من أمثال الجابري رحمه الله وسالم يفوت وغيرهما في القياس مظهرا من النزعة العقلية التي استلهموها من ديكارت وباشلار. فضاعفوا الاهتمام بالقياس، وعللوا به نشأة أصول الفقه، وربما العلوم الإسلامية جميعا. وأصبح فزاعة يرجع إليها كل ما هو إيجابي أو سلبي في هذه الثقافة الإسلامية، فأصول الفقه يرجعه الأستاذ سالم يفوت إلى “الوعي الحاد بتناهي النصوص ولا تناهي الحالات والنوازل، أي بأن النصوص مهما كثرت محدودة والحوادث على مر الأيام متجددة وغير مضبوط، مما أولد الحاجة إلى رد اللامتناهي إلى المتناهي.[120]“
في رأيي الخاص فإن تحديد هدف أصول الفقه بكونه، هو إيجاد أحكام لنوازل جديدة، ما هو إلا نوع من التغطية على الواقع الفقهي الذي تبلور في القرن الثاني للهجرة، فبدلا من أن ينصب البحث كما كان في الماضي على الأدلة لمعرفة المفاهيم، صار الاهتمام هو في المستقبل ليبقي ذلك الواقع بعيدا عن أضواء النقد والمراجعة .
لكن الناس سئموا من القياس، الذي لم يتخلص منه حكم يذكر. وبالتالي كان لابد من إشكالية جديدة لملئ الفراغ، وكانت الاشكالية في هذه المرة مع نظرية المقاصد الشرعية، وهي لا تعدو في جملتها أن تكون قياسا من نوع آخر .
هذه المقاصد تحدث عنها أولا الغزالي في قوله: “مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، وأموالهم وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة.[121]“ ومن المعلوم أن الغزالي لم يتناول هذه المقاصد أصالة، وإنما تعرض لها أثناء الحديث عن الأصل الرابع من الأصول الموهومة، وهو الاستصلاح والمصلحة المرسلة، لكن هذا الذكر الهامشي جعل منه البعض محورا للدراسة والاستكشاف، فبدوره اهتم القاضي عز الدين بن عبد السلام بهذه المقاصد، وقال: “معظم مصالح الدنيا ومقاصدها معروفة بالعقل، وذالك معظم الشرائع، إذ لا يخفي على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرأ المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن درأ أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درأ أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، واتفق الحكماء على ذلك وكذالك الشرائع” [122]
وقد استمر تطور نظرية المقاصد ليبلغ الذروة مع الشاطبي، من خلال كتابه الموافقات، فقد رفع هذه النظرية إلى مكان مرموق، لتحل به محل أصول الفقه، أو تكاد.
في تناول الشاطبي لهذه المقاصد بدأ بالبحث عن دليل ولكنه لم يجده. فالدليل إما أن يكون عقليا، و العقل ليس بشارع، وإنما أن يكون نقليا والنقل إما آحاد أو تواتر والآحاد ظنية لا حجة فيها، والتواتر رغم ندرته يتوقف على مقدمات عشر ظنية والموقوف على الظنيات ظني. فالنصوص المتواترة تتوقف علي نقل اللغات وآراء النحو وعدم التخصيص.. إلي أخر القائمة المذكورة سابقا. إذا “فدليل هذه المسألة على التعيين غير متعين.“[123] وقد بقي الإجماع وهو آخر دليل من الأدلة النقلية. وليس هناك إجماع “على اعتبار تلك القواعد الثلاثة شرعا نقلا متواترا، عن جميع أهل الإجماع وهذا يعتبر إثباته متعذر ولعلك لا تجده.”[124]
إذا فقد استيأس الشاطبي من وجود دليل على هذه القواعد، التي هي أصل الأصول الشرعية، وعندما لم تساعد الأصول السابقة على وجود دليل على هذه القواعد. استخلص الشاطبي بأنه: “يصعب الطريق إلى إثبات كون هذه القواعد معتبرة شرعا بالدليل الشرعي القطعي.”
بعد ذلك، يعتمد الشاطبي في إثبات هذه الأدلة على ما يسمي في هذا العلم بالتواتر المعنوي، أي استقراء الوقائع الجزئية لاستخلاص القاعدة العامة، فلاجتماع الأدلة من القوة ما ليس لها عند الافتراق، وعلي اعتبار أن الأدلة الجزئية لا تفيد اليقين وحدها، فشجاعة علي رضي الله عنه وكرم حاتم عرفا بوقائع كثيرة، رغم أن حادثة واحدة لا تؤكد علي شجاعة الأول وكرم الثاني. ومن هذه الجهة أيضا يقوم الدليل علي هذه القواعد، بأدلة لا تنحصر تؤدي بمجموعها علي اعتبار تلك المقاصد. أما الدليل الثاني فهو إجماع المجتهدين عليها ، وهو تناقض واضح لأنه سبق أن اعتبر أن لا دليل من الإجماع عليها .
هذه القواعد ثلاثة: وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات. فالضروريات تعني “أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، من حيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت الحياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم بالرجوع بالخسران المبين.” وهي خمسة: حفظ العقل والدين والنسل والمال والنفس .
وأما الأصول الحاجية فهي مفتقر إليها من أجل التوسعة، بحيث إذا فقدت كانت المشقة والحرج، وإن لم يبلغ ذالك مبلغ الأصول الضرورية، وذالك مثل الرخص في السفر والمرض وسقوط الصلاة والصوم في حق الحائض، وإباحة الصيد والتمتع بالطيبات .
وأما الأصول التحسينية فهي “الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات، التي تألفها العقول الراجحات” كإزالة النجاسة وآداب المأكل والمشرب ومنع بيع فضل الماء ومنع قتل الحر بالعبد.
هذه المقاصد اعتبرت عصا سحرية تمكن من فهم الشريعة ، ضربة لازب ، وقد أصبح الاهتمام بالشاطبي لا يضاهى بالقياس مع غيره من الأصوليين. منذ أن بدأ الإهتمام به مع الشيخ محمد عبد وتلميذه الشيخ رشيد رضا وتلميذ هذا الأخير الشيخ عبد الله دراز .
وأشير في البداية إلى أن هذه المقاصد ليست كذالك بتلك الأهمية، إذا لم نقل بأنها عوائق معرفية ، فلا يمكن لما بدأ الحديث عنه متوهما في إطار الأصول الموهومة عند الغزالي، و انتهى بالاستنكار وافتقاد الدليل عليه كما هو الشأن مع الشاطبي أن يمثل استكشافا نوعيا في أصول الفقه، وأن يعتبر عصا سحرية لفهم الشريعة .
ذلك أن البحث في المقاصد هو بحث عقلي، فهي كما يقولون دليلها هو ثبوتها عند سائر العقلاء والعقل ليس بشارع ، وبالتالي فإن الطعون الواردة على القياس ترد هنا على المقاصد. وعلى الخصوص ما يرد على القياس من أن تعليل الحكم بشيء قد يكون نقيضه هو حكم الله، كذالك قد نرجع الحكم إلى قصد قد يكون نقيضه هو مقصود الله تعالى، فنعصي الله بأن نقصد على خلاف قصده، وهو اعتراض متوجه إلى المخطئة وغير متوجه إلى المصوبة .
ومن جهة ثانية فإننا عند ما نفصل، نلاحظ أن الشارع لم يقصد الحفاظ على هذه الأصول الخمسة بإطلاق، وعلى سبيل المثال، فإذا كان حفظ المال من المقاصد الخمسة “فإن الذي أهلك المجتمع الحديث، ونزع من قلبه القناعة والتكافل والرحمة، هو حرص أفراده على جمع المال والمحافظة عليه، وفي القرآن عشرات وعشرات الآيات التي تأمر بالإنفاق، وليس فيه آية فيما أتذكر تأمر بجمع المال.”[125]
والحفاظ على الدين من المقاصد الضرورية الخمسة. لكن جهة الحفظ غير معروفة عندنا، فالمحافظة علي الصلاة من حفظ الدين ومجرد معرفة وجوب الصلاة والمحافظة عليها لا يكفي، بل لا بد من معرفة الأدلة الجزئية للمحافظة علي الصلاة، وهذه الأدلة الجزئية هي بيت القصيد، وهي إشكالية البحث في الشريعة ومعرفتها سابقة علي معرفة المقاصد الشرعية.
هذه المقاصد هي في نظري تصورات ميتافيزيقية لا تقدم ولا تؤخر، مثلها في ذالك مثل البحث القياسي فيصدق عليهما المثل: أسمع جعجعة ولا أري طحينا . فالأحكام المستخلصة منها هي أيضا نادرة أو معدومة .
والحقيقة أن درس الشاطبي في المقاصد أخذ مجزأ، إذ وقع الاهتمام بالمقاصد الخمسة الضرورية، في حين أن الشاطبي جاء به كنوع أول من الأنواع الأربعة المكونة للمقاصد الشرعية عنده. أما الأنواع الثلاثة الأخرى من المقاصد فهي: النوع الثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، وفيها يتناول اللغة العربية كوسيلة لفهم الشريعة. وذلك يعني أولا من بين ما يعنيه مراعاة معهود العرب في الفهم. ويعني، ثانيا، أمية الشريعة فيجب إجراء الألفاظ الشرعية بمقتضي الفهم العربي بعيدا عن التعمق والتمنطق والقواعد. فتلك القواعد زادت الطين بلة لأنها “مقدمات عقلية غير بديهية ولا قريبة من البديهية نشأت هربا من احتمال يتطرق في العقل للأمور العادية، فدخلوا في أشد مما منه فروا، ونشأت مباحث لا عهد للعرب بها، وهم المخاطبون أولا بالشريعة، فخالطوا الفلاسفة في أنظارهم، وباحثوهم في مطالبهم التي لا يعود الجهل بها على الدين بفساد ، ولا يزيد البحث فيها إلا خبالا، وأصل ذالك الإعراض عن مجاري العادات في العبارات ومعانيها الجارية في الوجود”[126]. هذه القواعد أفسدت أكثر مما أصلحت. فإذا كان علم الكلام لم يزد العقيدة الإسلامية وضوحا، وإنما عقدها حتى تمنى أحد علمائه وهو الجويني أن يموت حسب عقيدة عجوز من بلاده. فإن الشاطبي يكاد يردد كلام الجويني في الفقه، إذ يتمنى هو بدوره بمفهوم هذا الاستشهاد، أن لا يعرف من الفقه أكثر مما توحي به الآيات والأحاديث بعيدا عن قواعد التخصيص والتأويل والنسخ التي وضعها الأئمة .
النوع الثالث من المقاصد هو قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف، ويتعرض الشاطبي هنا إلى أن التكليف هو ما كان للمكلف قدرة على القيام، مميزا بين الأفعال الاضطرارية، والأفعال الإرادية، والنوع الرابع قصد الشارع من دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، “وهو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبد الله اختيارا كما هو عبد الله اضطرارا.”
رغم وجود هذه الأنواع من المقاصد، إلا أن الاتجاه السائد في الدراسات الأصولية اهتم بالنوع الأول، وهو المقاصد الخمسة، وأهمل الأنواع الأخرى. في حين أن الأنواع الأخرى من المقاصد تتنزل أكثر على الأدلة الجزئية، وأكثر عملانية، ولو استغلت بما فيه الكفاية لكشفت الغطاء عن أشياء جديدة في الشريعة .
إننا نسيء إلى الشاطبي، عندما نختزل المقاصد عنده في النوع الأول، أي المقاصد الضرورية و الحاجية والتحسينية . والحقيقة أن كتاب الشاطبي هو كتاب المقاصد بمعنى البحث والتحري في الأدلة الشرعية لمعرفة معانيها ومقاصدها ، والشاطبي في الموافقات يقدم مقاصد تحمل بعدا تجريبيا، وهو ما يظهر من خلال عودته إلي منهجية الشافعي في استغلال النصوص من القرآن والسنة ، كما تظهر في حديثه المتكرر عن الترابط بين الجزئيات والكليات والتكامل بينهما.
ونظرية المقاصد هي بصورة حاسمة الدعوة من جديد إلي استنطاق الأدلة ليكون الحديث علميا، ويتوخي نتائج أكثر يقينية، ويكون ما يوجه هذا البحث ليس القدرة علي استخراج الأحكام، وتوسيع الشريعة، بل يكون الهدف هو دراسة نفس الأدلة لاستخلاص معانيها، هذه الأدلة التي ما زالت واقعا بكرا وحقلا نشطا للاستكشاف، لأن البحث الأصولي يزدها علي التصنيف الشكلي، باعتبارها لا تخلو أن تمثل واحدا من القواعد بأن تكون عامة أو خاصة ومطلقة أو مقيدة.
فالشاطبي يريد أن يستبدل منهجية البحث الأصولي القائمة على مقارعة الأدلة وتدافعها، دون أن تدرس نفس الأدلة، بمنهجية تضع نصب عينيها الأدلة كما موضوعها من المفاهيم كالصلاة والزكاة كموضوع للبحث والتفكير و الدراسة .
لذالك يعتبر المبحث الخاص بالعموم والخصوص عند الشاطبي هو المبحث الذي تتجلي فيه بوضوح منهجية الشاطبي، وما يريد أن يكون عليه البحث في الأدلة، وفيها وفيها فقط تتجلي نظرية المقاصد كاستكشاف، وكنظرية متطورة عنده. لأنه في هذه الحالة لا نتحدث عن مقاصد شمولية، أو موضوعات عامة، وإنما نتحدث عن عمومات شرعية لنعرف الطريقة الصحيحة لفهمها.
إن الشاطبي يقول كما مر في مبحث العموم والخصوص السابق بأن المطلوب هو تتبع عمومات الشريعة لمعرفة “كيف وقعت في الشرعية” وهذا يعني أن نواجه هذه العمومات خلو الوفاض من الأفكار السابقة، لنترك للشريعة دور الكلمة وحرية التعبير، لذالك فإن المقاصد إذا لم ترتبط بقوانين معينة، وبموضوع معطى، فيوشك أن نذهب إلى مقاصدنا الخاصة ونضع مقاصد الشريعة. لذاك فإن اعتبار الشريعة كموضوع للدراسة هو ما يكفل الدراسة العلمية. وهو الموقف الذي تطالبنا به الشريعة وهو الإنقياد لأوامر الله ورسوله.
إن هناك مواقف لابد من إعادة النظر فيها:
أولها هو ما نذهب إليه في كثير من المناسبات بأن الشريعة تعني مبادئ ثابتة هي الأصول التي لا تتغير وليست موضعا للاجتهاد وذلك في مقابل الجزئيات المتغيرة فهي موضوع الاجتهاد وهذا ليس صحيحا، فالثبات لا يوجد في الشريعة و ما في الشريعة هو المرونة والسلاسة، فالعقيدة هي أكبر مبدأ في الإسلام هي ليست ملزمة على من أكره على مخالفتها، فهذا التقسيم غير صحيح فالشريعة جميعا موضوع للدراسة والبحث.
ثانيا أنه يجب أن نعرف ما هو مطلوب منا إزاء الشريعة، وما هو مطلوب من الشريعة إزاءنا، فليس المطلوب منا إزاء الشريعة أن نكون مثل الشارع نزاحمه في وضع الأحكام واستخراجها. وإنما المطلوب منا هو امتثال أحكامه بصورة آلية لا نسأل عن لم إلا بعد تطبيقها، صحيح أن هناك ما يجد من الوقائع لابد من أحكام لها، لكن عدم هذه معرفة هذه الأحكام هو من عدم معرفتنا للشريعة.
كما أن المطلوب من الشريعة هو أن تعرفنا بما أوجب الله علينا مما تقصر عقولنا عن معرفته، لا أن نتوقع منها معالجة مشاكلنا الدنيوية، كوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما علينا، لكن هذه المفاهيم وصلت إلينا حسب فهم معين للأدلة، فلا غضاضة أن نطبقها تطبيقا جديدا ومغيرا، ما دام أكثر انسجاما وملاءمة مع لأدلة.
العناوين
مقدمة 2

محرك البحث 4
أنسنة الشريعة 14

أصول الفقه من العلم إلي اللاعلم 23
العام وإخوته 34
ما بعد المقاصد الشرعية 60
------------------------------------------------------------------------
[1] أبو إسحاق إبراهيم بن موسي الشاطبي: الموافقات في أصول الأحكام دار الفكر للطباعة والنشر بدون تاريخ ص 36
[2] ابن حزم الأندلسي الإحكام في أسول الأحكام دار الحديث القاهرة 1404ه ص 555
[3] - الجويني الورقات بشرح جلال الدين المجلى ص 6
[4] - أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: المستصفي في أصول الفقه دار الكتب العلمية 1983 بيروت لبنان ص 1/51
[5] الغزالي، المستصفى 423+424
[6] - الشاطبي : الموافقات ص 2/ 156
[7] - أبو الحسين مسلم بن الحجاج: صحيح مسلم، بشرح الإمام النووي دار الكتب العلمية طبعة أولي 1995 م بيروت لبنان ص 33 مج 8 ج2
[8] صحيح مسلم 133 مجلد8 جزأ2
[9] الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة تحقيق أحمد شاكر مكتبة الحلبي،1358ه 1940 م ص 21
[10] الرسالة للشافعي 182
[11] الرسالة للشافعي 259 -260
[12] - الشافعي، الرسالة ص 256
[13] -سورة

[15] الغزالي المستصفي ص 288
[16] أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ص168
[17] - صحيح البخاري ص2/53
[18] المستصفي للغزالي 287
[19] _ صحيح البخاري 112
[20] - الشاطبي الموافقات 1/36
[21] -البقرة 196
[22] - الشافعي الرسالة ص 26
[23] -الشافعي الرسالة ص 120
[24] -نفس المصدر السابق ص 166
[25] الرسالة للشافعي 166
[26] - المزمل 1-2
[27] - طه، 130
[28] -الطور - 49
[29] - ق- 40
[30] - ابن القيم الجوزية إعلام الموقعين عن رب العالمين، دراسة وتحقيق د/ طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة ، مصر،1388ه 1968م، ص 10
[31] -ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام مكتبة الصفا ط1 / 2001 ص 1/ 137
[32] - ابن القيم إعلام الموقعين ص 11
[33] ابن القيم الجوزية إعلام الموقعين39
[34] - صحيح البخاري 106
[35] -الشاطبي، الموافقات ص 42 مج2 جزأ 2
[36] -صحيح البخاري ص 9
[37] -الشاطبي الموافقات ص 62 مج 1 جزء 2
[38] - صبحي صالح، علوم الحديث ومصطلحه، دار العلم للملايين، الطبعة الثامنة بيروت لبنان ص 45
[39] - إعلام الموقعين ص 10
[40] إعلام الموقعين ص 34
[41] صحيح البخاري 47
[42] صحيح مسلم 69
[43] مقدمة النووي علي شرح صحيح مسلم 26
[44] -مقدمة النووي على صحيح مسلم ص 20
2- الشاطبي الموافقات ص 10- 11 مجلد 2
[45] الشاطبي الموافقات مجلد2 جزأ2 ص6
[46] سالم يفوت، حفريات المعرفة العربية الاسلامية ص 17 دار الطليعة 1995 بيروت لبنان
[47] -سالم يفوت ، حفريات المعرفة ص 17
[48] - سالم يفوت، ، حفريات المعرفة ص 40-41
[49] سالم يفوت حفريات المعرفة 40
[50] الغزالي المستصفى 5
[51] الرسالة للشافعي 29
[52] الرسالة للشافعي167
[53] الرسالة للشافعي 177
[54] الرسالة للشافعي 188 وما بعدها
[55] -الرسالة : للشافعي ص 42-43
[56] -الرسالة للشافعي ص 40
[57] -الرسالة للشافعي ص 51-52
[58] -التوبة الآية 103
[59] -النساء الآية 11
[60] -الرسالة للشافعي ص65
[61] -المزمل الآية 1
[62] -المزمل الآية 20
[63] -الإسراء 79
[64] -الشافعي الرسالة 114/115
[65] - الشافعي الرسالة ص 607
[66] - الشافعي الرسالة ص 40
[67] - الإحكام لابن حزم ص 552
[68] - محمد أبو زهرة : أصول الفقه، دار الفكر العربي ، بدون تاريخ ، ص 198
[69] - سيف الدين أبو الحسين علي بن أبي علي الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام دار الفكر للطباعة والنشر، بدون تاريخ ، ص 168
[70] -الآمدي: الإحكام ص 92
[71] -الشاطبي الموافقات ص 2/13
[72] -الشاطبي الموافقات ص 18
[73] سالم يفوت :حفريات المعرفة العربية الإسلامية، دار الطليعة، 1995م ، بيروت لبنان، ص 45
[74] الشاطبي الموافقات 60 مجلد 2 جزء 2
[75] الغزالي :المستصفي ص 316
[76] الشاطبي :الموافقات ص 12
5 الغزالي: المستصفي ،226
[78] عبد الوهاب خلاف علم أصول الفقه ص182 دار القلم ط 8

[80]ابن حزم الإحكام في أصول الأحكام ص 5 جزأ2
[81] البحر المحيط للزركشي نسخة ألكترونية . www.said.com
[82] الشافعي الرسالة ص 47
[83] الرسالة للشافعي
[84]الشافعي الرسالة 52
[85] الحجرات 13
[86] هود 6
[87] الشافعي الرسالة 59
[88] الشافعي الرسالة 66
[89] الشافعي الرسالة 67
[90] الشافعي الرسالة 177
[91] الزركشي : البحر المحيط في أصول الفقه – المقدمة نسخة ألكتونية islamport.com
[92] -سالم يفوت ، حفريات المعرفة ، ص 210
[93] -العزالي المستصفى ، ص 31 ج2
[94] -الغزالي المستصفى ، ص 205
[95] -الغزالي المستصفى، 33 ج 2 النصوص الواردة في هذا المبحث عن المستصفى فلتتابع الصفحة.
[96] -الزركشي البحر المحيط ص 6
[97] سالم يفوت حفريات المعرفة 163
[98] -الشاطبي الموافقات 149 مجلد2 جزء 2
[99] -الغزالي المستصفى 225
[100] نفس المرجع والصفحة
[101] -الشوكاني إرشاد الفحول إلس تحقيق الحق من علم الأصول، تحقيق ، محمد سعيد البدري، دار االفكر،1412ه 1992م بيروت لبنان218
[102] - الشاطبي الموافقات ص 153 مجلد 2 جزء 3
[103] -الشاطبي الموافقات 154 مجلد2 جوأ 3
[104] -الشاطبي الموافقات 155 مجلد2 جزأ 2
[105] -الشاطبي الموافقات 156 مجلد 2 جزأ 3
[106] -الشاطبي الموافقات، 159، مجلد 2 جزء 2
[107] -الشاطبي الموافقات 159 مجلد 2 جزء 2
[108] -الشاطبي الموافقات 163 مجلد2 ، جزأ 2
[109] -الشاطبي الموافقات 163 مجلد 2 جزء 2
[110] -الشاطبي الموافقات ص 163 مجلد 2 جرء 2
[111] -الشاطبي الموافقات ص 165 مجلد 2 جزء 2
[112] - الشاطبي الموافقات ص 165 مجلد 2 جزء 2
[113] -الشاطبي الموافقات ، الخاتمة
[114] ابن حزم الإحكام في أصول الأحكام 622
[115] أحمد الخمليشي وجهة نظر الفكر الفقهي ومنطلقات أصول الفقه دار نشر المعرفة ط1 / 1421ه 2000م جزأ 3 ص35
3 الشوكاني إرشاد الفحول 296
1 السيوطي تفسير الاجتهاد ط 1 دار الدعوة، الإسكندرية 1400ه ص 30
2 أ/ د/ عبد الله بن نامي السلمي، أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله .نسخة ألكترونية.www.islamport.com ص 15
3 شرح الوراقات للجويني الشارح محمد الحسن ولد الددو ص 6
[120] سالم يفوت حفريات المعرفة ص 47
1 الغزالي المستصفي ص 47
2 احمد الخمليشي وجهة نظر جزا 3 ص12
[123] الشاطبي الموافقات ص49
[124] الشاطبي الموافقات 48 مجلد 2 جزأ2
1 أحمد الخمليشي وجهة نظر ص 10 جزأ 3
1 الشاطبي،الموافقات ص 36 مجلد جزأ 2 ص 13


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.