السلطات الفرنسية تبحث عن سجين أطلق سراحه عن طريق الخطأ    انفجارات عنيفة تهز مدينة حلب السورية    عاصفة رملية كثيفة تجتاح السعودية والعراق وقطر    في شهر جوان.. 3 مباريات ودية للمنتخب التونسي    الكرة الطائرة.. الترجي يتأهل الى نهائي الكاس    القيروان.. البرد يتسبب في اضرار بمحاصيل الحبوب والاشجار المثمرة    القصرين.. حجز 2147 قرصا مخدرا بحوزة شخصين على متن سيارة    صفاقس : عودة متميزة لمهرجان سيدي عباس للحرف والصناعات التقليدية في دورته31    بنزرت: إلغاء إضراب أعوان الشركة الجهوية لنقل المسافرين المبرمج ليوم الأربعاء 07 ماي    مهرجان محمد عبد العزيز العقربي للمسرح...دورة العودة والتجديد و«ما يراوش» مسك الختام    لأول مرة في السينما المصرية/ فيلم يجمع هند صبري بأحمد حلمي    إلزام الناشرين الأجانب بإرجاع كتبهم غير المباعة إجراء قانوني    وفاة 57 طفلا والمأساة متواصلة ... غزّة تموت جوعا    هبة يابانية    نسبة التضخم تتراجع الى مستوى 6ر5 بالمائة خلال شهر أفريل 2025    قابس: مستثمرون من عدّة دول عربية يشاركون من 07 الى 09 ماي الجاري في الملتقى العربي للاستثمار السياحي والاقتصادي بقابس    شراكة تونسية قطرية لتعزيز القطاع الصحي: 20 وحدة رعاية صحية جديدة خلال 3 أشهر    الحماية المدنية تنبّه من الممارسات التي تساهم في اندلاع الحرائق    عاجل/ إعلام إسرائيلي: تم تدمير ميناء الحديدة في اليمن بالكامل    زغوان: رفع 148 مخالفة اقتصادية وحجز أكثر من 22 طنّا من السكر المدعم    بطولة الرابطة الأولى: برنامج الجولة الأخيرة لموسم 2024-2025    الجمعية التونسية للزراعة المستدامة: عرض الفيلم الوثائقي "الفسقيات: قصة صمود" الإثنين    ثلاث جوائز لتونس في اختتام الدورة 15 لمهرجان مالمو للسينما العربية    بطولة الرابطة المحترفة الثانية: ايقاف مباراة الملعب القابسي ومستقبل القصرين    انخفاض أسعار البطاطا في نابل بفعل وفرة الإنتاج والتوريد    عاجل/ نتنياهو: هجوم جديد ومُكثّف على غزّة وسيتم نقل السكّان    أريانة: سرقة من داخل سيارة تنتهي بإيقاف المتهم واسترجاع المسروق    آلام الرقبة: أسبابها وطرق التخفيف منها    سعر "علّوش العيد" يصل 1800 دينار بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    محمد رمضان يشعل جدلا على طائرته    تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي.. تونس تتلقى هبة يابانية    الدورة الاولى لتظاهرة 'حروفية الخط العربي' من 09 الى 11 ماي بالقلعة الصغرى    عاجل/ رفض الإفراج عن هذا النائب السابق بالبرلمان..    عاجل - سيدي حسين: الإطاحة بمطلوبين خطيرين وحجز مخدرات    مجلس نواب الشعب : جلسة عامة غدا الثلاثاء للنظر في اتفاق قرض بين تونس والبنك الإفريقي للتنمية    بوفيشة: احتراق شاحنة يخلف وفاة السائق واصابة مرافقه    الرّابطة الثانية : برنامج مباريات الدُفعة الثانية من الجّولة 23.    في قضية مخدرات: هذا ما قرره القضاء في حق حارس مرمى فريق رياضي..#خبر_عاجل    المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة في زيارة عمل إلى تونس بيومين    تونس تحصد 30 ميدالية في بطولة إفريقيا للمصارعة بالدار البيضاء منها 6 ذهبيات    دوار هيشر: 5 سنوات سجناً لطفل تورّط في جريمة قتل    تصنيف لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع الى المرتبة 36    قيس سعيّد يُجدّد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي..    عاجل/شبهات تعرّض سجين للتعذيب ببنزرت: هيئة المحامين تُعلّق على بلاغ وزارة العدل وتكشف..    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    تقلبات جوية متواصلة على امتداد أسبوع...تفاصيل    انطلاق امتحانات البكالوريا التجريبية..    كل ما تحتاج معرفته عن ''كليماتيزور'' السيارة ونصائح الاستعمال    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    باكستان تصعد حظرها التجاري ضد الهند    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب " اعتقادي" .. نظرات إلى الذات والمشروع
نشر في الحوار نت يوم 13 - 11 - 2009


قراءة في كتاب طارق رمضان " اعتقادي"
أحمد بركات
"اعتقادي".. هذا هو عنوان الكتاب الأخير للدكتور طارق رمضان، والذي صدر في خلال شهر (أكتوبر 2009) عن مطابع أكسفورد الأمريكية في (165) صفحة من القطع المتوسط؛ ويتكون الكتاب من 17 فصلا عدا المقدمة والخاتمة وملحقين، في محاولة يبذلها الكاتب لإزالة غبش فكري ارتبط به وجعله يوصف في أحايين عديدة كمفكر "مثير للجدل" ومحل اتهام مستمر من تيارات فكرية وسياسية ليس بينها من رابط إلا التناقض التام!!.
الرجل والموقف
والدكتور طارق رمضان -لمن لا يعرفه - هو أحد رموز الفكر الإسلامي في القارة الأوروبية والعالم، حتى أن مجلة تايمز "Times" اعتبرته المجدد الأكثر أهمية في القرن ال21.
ويأتي رمضان في مقدمة المفكرين المسلمين في الغرب، وله قراء ومتابعون في جميع أنحاء العالم؛ وهو -حسب "بول دونلي" بصحيفة واشنطن بوست Washington Post- "مارتن لوثر الإسلام"، والمجدد الذي يدعو إلى قراءة سياقية للقرآن الكريم للانطلاق من الجمود الفكري الماضوي إلى آفاق أرحب تتماشى والواقع الجديد.
وهو من أكثر الرموز الفكرية الإصلاحية "الإشكالية" في الأوساط المثقفة، والمتهم بالتفريط تارة وبالإفراط تارات، حيث تصدر اسمه قوائم الممنوعين من دخول الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش -رغم النداءات التي وجهتها بعض المنظمات الأمريكية ضد هذا القرار مثل الأكاديمية الأمريكية للدين والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ACLU ولا يزال قرار المنع ساريا رغم هذه النداءات- بينما اختارته مجلتا (بروسبكت "Prospect" البريطانية)، و(فورين بوليسي) الأمريكية Foreign" Policy" ثامن أعظم 100 مفكر في العالم في العام 2008!!.
ولعل هذه الجدليات -بحسب الدكتور رمضان نفسه- هي الباعث الأساس لإصدار هذا الكتاب، حيث يعرض فيه لبسط واضح للنسق القيمي والفكري لكل ما يؤمن به ويعتقده، ولكي يكون المرجعية الفكرية لكل آرائه بشأن العلاقة بين الإسلام والغرب.
والمعروف أن الدكتور رمضان له العديد من المؤلفات والإسهامات الفكرية في هذا المبحث منها "الإصلاح الجذري" (2009)، و"المسلمون الغربيون ومستقبل الإسلام" (2004)، "الإسلام والغرب وتحديات الحداثة" (2003) و"لتكون مسلما أوروبيا" (1999).
مكاشفة
فالكتاب إذن بهذا المعنى هو من قبيل المكاشفة للأفكار الرئيسة التي يمثلها ويتمثلها الدكتور رمضان في بسط وعرض واضحين، حيث يصفه مؤلفه بأنه: "عمل توضيحي ومكاشفي موجها للمواطنين العاديين، والسياسيين والصحفيين، وغيرهم من محبي الاطلاع (أو حتى المتشككين) على الوضعية الفكرية والإيديولوجية (للكاتب)"، بعد أن تناولته العديد من المصادر والكتابات بشكل يراه الكاتب غير قويم، وفي ذلك "الويكيبيديا البريطانية" ذاتها.
والكتاب ليس بدعا من أعمال الدكتور طارق رمضان لكونه -رغم كل أغراضه المكاشفية- يطأ المناطق الشائكة في العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وأطروحة التجديد والإصلاح المنهجي لكلا الإيديولوجيتين، والدعوة إلى الحوار والانفتاحية من أجل الحاضر والمستقبل، والوقوف على حقائق التسامحية الدينية التي لا ترى غضاضة في تعدد الولاءات والانتماءات والهويات للمسلمين.
كذلك الوقوف على حقائق التعدديات المختلفة التي تتحوصل داخل بوتقة المجتمعات الأوروبية، والتي أضيف إليها بزخم على مدى العقود الأربع الأخيرة التعددية الدينية والتعددية الثقافية، وعدم الخلط بين المشكلات الدينية الثقافية من جانب، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية من الجانب الآخر.
إن اليمين الإسلامي واليمين الغربي هما من ينبغي أن يتحملا وزر الأفكار التصادمية والصراع الديمومي التاريخي بين الحضارتين، لا المرجعيات الإيديولوجية للحضارة الإسلامية أو النسق الاجتماعي والقيمي للحضارة الغربية، حيث إن أدبيات كل منهما تحمل فضاء حواريا تؤكده الضرورة الآنية وتلح عليه الفريضة المستقبلية.
ويعمد الكاتب بطول هذه المكاشفة وعرضها -كما أكد في تقدمته للكتاب- إلى تجاوز حدود التحامل وعوائق سوء الفهم ليتكلم بطريقة مباشرة لقرائه من المسلمين وغير المسلمين على السواء.
وبشكل أكثر تحديدا يتوجه بدعوة جلية لا لبس فيها إلى المسلمين الأوروبيين لتجاوز "الجيتو" الديني والاجتماعي، لتقويض الانعزالية الثقافية والعقلانية التي ضربتها الجاليات المسلمة في أوروبا على نفسها سعيا إلى شراكة اجتماعية كاملة، وممارسة سياسية مثالية لكل معاني المواطنة في السياق الديمقراطي للمجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها.
ويتوجه رمضان بالدعوة نفسها إلى الأوروبيين لتطوير وعي جمعي للتعامل مع المسلمين كمواطنين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم؛ كما يؤكد على رؤية مستقبلية موضوعية تتحول فيها أحلام التعددية بمعناها العميق إلى حقيقة واقعة.
المسار
يعتمد رمضان في ثنايا هذا الكتاب مقاربة نثرية سلسة وبسيطة تتناسب والطبيعة المكاشفية لما يؤمن به، والتي تشكل المحور النظري المباشر، والطبيعة الانفتاحية للدعوة التي يوجهها إلى المسلمين والأوروبيين للحوار وتفعيل الحوار، والتي تشكل المحور العملي غير المباشر.
فإذا كان عنوان الكتاب يشي بأنه يضم بين دفتيه كما متناثرا من الأفكار التي شكلت عقلية مؤلفه؛ حتى إن القارئ ليتوهم من الوهلة الأولى صعوبة الربط العضوي بين هذه الشراذم، فإن هذا الكم الكبير من الفصول القصيرة قد عالج هذه الإشكالية الأدبية من خلال صياغة فكرية تقوم على العلية Casuality، حيث تفضي كل فكرة إلى ما بعدها.
فالبداية هادئة من خلال فصل عنون له الكاتب ب"السنوات الأولى"، والتي لم تكن سيرة ذاتية بقدر ما كانت تقدمة ملهمة للمسيرة الفكرية التي ستأتي لاحقا، حيث يؤكد من خلالها أن التزامه الديني في ال18عاما الأولى من عمره لم يكن باسم الإسلام بقدر ما اتخذ ممارسات اجتماعية وطنية مثل "محاربة الفقر في الجنوب ودعم التعليم (وبخاصة للنساء) وحماية أطفال الشوارع ودعم المشاريع الاجتماعية ومحاربة الفساد والأنظمة الديكتاتورية والمطالبة بمؤسسات صناعية وتجارية أكثر إنسانية ومساواة".
لقد ارتبط عنده "معنى الإيمان والعقيدة بالدفاع عن القضايا الإنسانية والعدل"؛ وكان أبواه يؤيدان فيه بشدة هذه النزعة.
ثم ينتقل رمضان إلى المحيط التعددي الأكبر، الذي أسهم بشكل عميق في تشكيله الفكري، فيذكر حكاية "الصديق التلميذ الأستاذ ثيري".. الذي كان (الدكتور رمضان) أستاذا له ثم متعلما أخذ عنه الكثير، ويصف الكاتب كيف كان لتلك العلاقة الحميمية العميقة والمعقدة أعمق الأثر في صياغته إنسانيا وفكريا بعد ذلك.
وتتوالى الأحداث على هذا المنوال ليصف عبر سرديات متنوعة كيف تعلم واستوعب الكثير من الدروس الإنسانية على أيدي البسطاء من الثقافات المختلفة، حتى "العامل الكولومبي" الذي استمع إليه زمنا لا يتجاوز نصف الساعة لتكون المنعطف الأهم في حياته.
عاش الكاتب إذن هذه التعددية بشكل عميق على مدى ثمانية عشر عاما، وأخذ عنها الكثير، ليبدأ بعدها اهتمامه بالقضايا الإسلامية، وعلى الأخص العلاقة بين الإسلام والغرب في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، حيث مرت هذه العلاقة بمحطات مهمة تمثلت في قيام الثورة الإسلامية في إيران، ثم قضية سلمان رشدي، وبعدها قضية الحجاب في فرنسا.. إلخ، ليبدأ معها الدكتور رمضان حقبة فكرية جديدة ترتكز على ما يراه حوارا للحضارات ونقضا لنظرية هنتجتون القائمة على التصارع الحضاري، وبخاصة بين الإسلام والغرب.
من الانعزالية إلى التعددية
يتقدم الكتاب رويدا وبشكل متدرج من المسيرة الحياتية إلى المسيرة الفكرية حتى يصل إلى ما يعرف بالعقدة climax، حيث يتناول تلك القضايا الشائكة كتعدد الهويات وأولويات الهوية القومية والهوية الدينية، والسياق الإسلامي في المجتمعات الليبرالية، ومدى تحقق المواطنة الإسلامية والإفادة من المناخ الديمقراطي في هذه المجتمعات إلى غير ذلك من قضايا.
ففي الفصل الخامس، وتحت عنوان "الارتقاءات السريعة والثورات الصامتة" يؤكد رمضان أن المفاهيم القديمة التي قامت عليها أسوار العزلة الافتراضية أو الحقيقية بين الإسلام والغرب قد تهدمت ليحل محلها مفاهيم تصالحية جديدة في إطار ما أسماه "الثورة الصامتة".
وهو مصطلح استخدمه الكاتب قبل سنوات.. لقد ألقت هذه الثورة التي نتجت عن ظروف تاريخية عدة بحجر كبير في المياه الراكدة انهارت معه الإيديولوجيات التي شطرت العالم إلى معسكرين إسلامي وغربي استبدت بينهما وشائج العداء والكراهية؛ فيؤكد أن هذه المفاهيم قد نفد رصيدها من أرض الواقع؛ فالدساتير الأوروبية تفي بحق المسلمين في ممارسة معتقدهم، وهذا أدعى إلى احترامها من قبل المسلمين.
كذلك لا ينبغي الخلط بين المبادئ الدينية والثقافات الأصيلة، فالمسلمون الأوروبيون يجب أن يبقوا كذلك بدلا من مسلمين أتراك أو باكستانيين أو شمال إفريقيين إلى غير ذلك من أجل خلق ثقافة إسلامية أوروبية تقوم على احترام المبادئ الإسلامية في إطار النسق والذوق الأوروبي.
ويمتدح رمضان الروابط الإسلامية بأوروبا، وكيف أن الهيكلة العقلية البنائية الجديدة للمسلمين في الغرب قد بدأت تتشرب عن وعي كامل أطروحات التغيير نحو بناء الجسور في عمق الفضاء الأوروبي، وتشجع المواطنين على ممارسة أدوارهم الانتخابية؛ ورغم أن هذه الأنشطة لا تزال تقتصر على المدن التي تحظى بالتواجد الإسلامي منذ القدم، فإنها آخذة في التمدد على مستوى أكثر عمومية.
تحديات الاندماج
تحدد الدول الأوروبية عبر قرنين من الزمان علاقة الفرد بالمجتمع عبر خلفية تشريعية عادلة تقوم على سيادة القانون، ومن هنا جاءت قيم "الحرية" و"العدالة" و"المواطنة"، وأصبح هناك تعددية سياسية ومجتمعية كان من تجلياتها المنظمات المجتمعية والأحزاب السياسية ذات المنطلقات والبرامج المختلفة.
ورغم إكبار رمضان لهذه الدستورية العادلة، فإن ثمة تغيرات تاريخية فرضت حالة ملحة لتأطيرات جديدة تسمح بمفاهيم أعمق للتعددية في مجتمع واجه على مدى ال40 عاما الأخيرة من تاريخه تعدديات دينية وثقافية لم يعهدها من قبل، تردد على إثرها تساؤلات عدة من شاكلة: كيف يمكن لأوروبا التعامل مع الوضعية التاريخية الجديدة؟
وبعبارة أخرى كيف يمكن اعتماد ذات الخلفيات التشريعية القديمة -رغم كونها نجحت في حقبة تاريخية ما- في تنظيم تعددية دينية وثقافية للمجتمع الجديد والمتجدد؟
هل الثالوث الذي قامت عليه الديمقراطية الأوروبية (العلمانية وسيادة القانون والمواطنة) ما يزال ذا دلالة وفعالية؟
هل أصبح كافيا على مدى العقود الأربعة الأخيرة أن يرتكز الخطاب التعددي المعقد على نفس الخطاب الساذج القائم على اختزال التعددية في عبارة "على الوافدين الجدد أن يتكيفوا!" الذي ترسخ له العديد من التوجهات السياسية اليمينية إضافة إلى العديد من علماء الاجتماع الفرنسيين؟!
في هذا الصدد يلفت رمضان النظر إلى بعد دستوري ثالث ومهم يتعلق بالدولة (إضافة إلى بعدين آخرين يتعلقان بالمواطنين، وهما: الشعور بالالتزام نحو القانون، والممارسة العملية للمساواة الحقوقية والواجبية التي يكفلها هذا القانون)؛ هذا البعد يتمثل في حيادية الدولة في الشأن الديني؛ ويؤكد أن هذا البعد الدلالي لا يتنافى مع السياق العلماني الذي تتمحور حوله أدبيات المجتمع الديمقراطي في أوروبا.
وينتقل الكاتب إلى العامل النفسي الذي يلح في السياق الراهن بعد أن أهمل على مدى السنوات الماضية لحساب الصياغة التشريعية، والأطروحات الجدلية، من أجل إذابة الحواجز التي تشبه جبال الجليد، حيث يضمر منها في أغوار النفس أكثر بكثير مما يبدو على سطح السياق المجتمعي، حتى يتلاشى "الجيتو" المنعقد حول كل طائفة.
وحتى يعود الفرنسيون والإنجليز وغيرهم من الأوروبيين الأصليين الذين هجروا المدن الكبرى إلى الضواحي والأرياف فرارا من شعور بالغربة في بلدانهم!!.
وحتى لا تتردد عبارات "إنهم لن يندمجوا أبدا" من جانب، وإنهم "لن يقبلونا أبدا" من الجانب الآخر.
وحتى يتحول المسلمون على الصعيد المقابل من مجرد (مسلمين يعيشون في الغرب) إلى (مسلمين غربيين).
إن حقبة ما بعد الاندماج لن تتحقق على أرض الواقع إلا بالتحول من النداءات والشعارات، بل المزايدات السياسية أحيانا، إلى توحدية شعورية ترتكز على كسر مشاعر الخوف وعدم الثقة التي تقيم أسوارا افتراضية أمام معاني الانتماء وإحساس المواطنة؛ وبالتحول من إيديولوجية ترى أن الإسهام الفعال في المجتمعات الغربية يمكن أن يتأتى عبر بوابة المدخلات المادية والاقتصادية إلى تنظير جديد يثمن البعد الإثرائي الديني والثقافي الذي تضيفه التعددية للمجتمع؛ فالبعد النفسي إذن من شأنه أن يحول التعددية القابعة خلف أسوار شتى إلى تعددية إثرائية تتناسب والواقع المتجدد.
ثنائية الشمولية والمواطنة الجديدة
تنتهي العقدة مجازا بنهاية الفصل العاشر "التحديات"، حيث يؤكد الكاتب على ثنائية تقوم على طرحين أساسيين، هما الشمولية والمواطنة الجديدة لتجاوز حواجز الخوف وعدم الثقة (الحاجز النفسي) التي تأصلت بين المسلمين الأوروبيين من جانب والأوروبيين من الجانب الآخر.
أما الشمولية فتتمثل بحق الأوروبيين؛ فالعقل الجمعي الأوروبي ينبغي أن ينفتح على رياح التغيير التي بدلت ملامح الخريطة السكانية، الأمر الذي يجعل الواقع الأوروبي الجديد يدعو بإلحاح إلى التفاهم والاحترام المتبادلين، وتجاوز شعارات الرفض التي تحيط بكل ما هو إسلامي إلى مناقشة القيم والمبادئ التي تكفل التعايش للجميع.
فهناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة جلية في العقل الأوروبي: هل هم مستعدون لدراسة حضارة متواجدة بالفعل بين ظهرانيهم، وتشكل رافدا مهما من روافد التعددية في المجتمع؟
وهل يعتقدون بصدق أن لدى المسلمين من الروحانيات والأدبيات والإبداعية ما يجعلهم قادرين على المساهمة الإيجابية في القضايا المجتمعية والسياسية المختلفة؟
إن الشمولية تنفي مفهوم التوحدية التاريخية وتتعلق بمقاربة جديدة لمدارسة التاريخ، وللنظرة التاريخية بوجه عام من خلال صياغة ذاكرة تاريخية جديدة تتسم بالتماسك والتناغم والشمولية كفرائض حياتية، ولن يتأتى ذلك إلا عن طريق خلق رغبة حقيقية، وقدرة في العقل الجمعي الأوروبي على خطاب جديد يقوم على النقد الذاتي لما حدث لشعوب المستعمرات القديمة (الذين يشكلون أغلب الوافدين الجدد على مدى العقود الأربعة الأخيرة، والذين يتمتعون الآن بكامل المواطنة الأوروبية كما يكفلها لهم الدستور الأوروبي) على يد الأوروبيين في الحقبة الإمبريالية.
وبعبارة أخرى اعتماد مكاشفة تاريخية للجوانب المظلمة والمضيئة على السواء في السياق التاريخي الأوروبي.
وأما المواطنة الجديدة فتتمثل بحق المسلمين الأوروبيين، وتقوم على التخلص من "عقلية الضحية" التي تهيمن على التوجه السيكولوجي للمسلمين، والتذرع بالإسلاموفوبيا كعائق ضد تحقيق نجاحات اجتماعية، والخروج من الرؤية الماضوية التي تقوم على "(نحن)مقابل (هم)".
إن إعادة الثقة من شأنها ألا تترك فضاء لليمين المتشدد في كلا الفكرين للعبث بمقدرات الحوار الحضاري بين الإسلام والغرب، ولدعم قيم العدالة والمساواة والاحترام على أساس أدبيات المواطنة المشتركة، وبتر جذور الاغتراب النفسي المتمركز في العقول، أكثر منه بكثير في الفعالية التشريعية، بين روافد المجتمع المختلفة.
هذه الثنائية الإصلاحية تحتاج إلى سياسات مادية، وتشاركية فعالة لا يفي معهما الحوار النظري المجرد، وتلعب فيهما جميع المؤسسات المجتمعية والمنظمات السياسية أدوارا جوهرية.
ويؤكد رمضان أن المستقبل بسبيله للتحول من مجرد الاندماج البسيط إلى الإثراء المتبادل فيما يطلق عليه "الانتماء ومقاربة ما بعد الاندماج" (وهو عنوان الفصل ال12)؛ إن الثقة المتبادلة هي الأساس الجديد الذي تحتاج إليه أوروبا لبناء تعددية إثرائية وليس مجرد تعددية اندماجية.
كاتب ومترجم مصري
طارق رمضان.. نظرات إلى الذات والمشروع
مصدر الخبر : اسلام أونلاين نت
a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=1877&t=قراءة في كتاب " اعتقادي" .. نظرات إلى الذات والمشروع&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.