لو إستأخر القدر الفيلسوف اليوناني هردوت لما تردد في قالة آن أوانها : تونس هبة الزيتونة وهو القائل من قبل ذلك : مصر هبة النيل. مصر هبة النيل إقتصاديا أو هكذا يجب أن تكون. أما تونس فهي هبة الزيتونة بحق حضاريا وثقافيا. عندما تثبت مسالك الحضارة في أوعيتها المناسبة للتاريخ والثقافة والتربة لا تشذ مسالك الإقتصاد عن منابع العدالة في العادة. وما علاقة ثورة 14 جانفي بالزيتونة؟
من جمائل ثورة 14 جانفي أنها ثورة جامعة تلاقحت فيها مطالب الهوية العربية الإسلامية مع مطالب العدالة الإجتماعية ومطالب الحريات السياسية ومطالب الوحدة الوطنية ومطالب الحق في المقاومة إنتصارا لقضية الأمة الأم : فلسطين التي نحيا اليوم على أصداء نكبتنا الثالثة والستين فيها.( 15 ماي 1948 15 ماي 2011 ). ذلك أن الكأس التونسية فاضت من كل جنباتها بعد إغتصاب لإرادة الشعب ظل يحيق بمكره أحقابا طويلة وسنوات جمر حامية. ضج الناس بالعدوان على هويتهم الوطنية بمثل ما ضجوا بالحيف الإجتماعي وسياسات النهب والسلب والفساد والإفساد والتصهين فلما بلغت مناسيب الثورة إعتدالها فاضت الكأس وإنفجر المكبوت وكانت الثورة يحكيها كل تونسي من موقعه فإذا جمعت تلك المواقع ظهرت الثورة جامعة يلتقي فيها الغني مع الفقير والريفي مع الحضري والمرأة مع الرجل والمثقف مع العامي والمتحزب مع المستقل. ثورة يجد فيها كل تونسي مكانه وهي تلبي بسخاء أم حنون لا تضن.
كل أولئك الثوار إنما يسترجعون جرحا قديما نازفا نكأته سنون القهر. جرح فجرته الزيتونة التي قبرت قبل نصف قرن وهي في عطائها. لم تكن تعرف تونس يومها بغير الزيتونة. ليس لأنها أول معلم إسلامي جامع يشيد فوق الأرض بعد الثلاث التي لا تشد الرحال إلا إليها أي : مكةالمكرمة والمسجد النبوي والأقصى المغدور.. ليس لذلك فحسب وإن كان ذلك تاجا رصع به التاريخ أديم تونس فكان لها فخرا وضاء متلألأ ولكن كذلك لأن الزيتونة ساهمت في صنع حضارة عربية إسلامية ثرة خصيبة ناهيك أن أعلامها ظلوا إلى اليوم نباريس يستهدى بهم في دجى الظلمات الحالكة من مثل إبن عرفة ذلك المفسر النحوي العظيم ومن مثل إبن خلدون مؤسس علم الإجتماع السياسي وصاحب المشروع الذي نضبت مياهه بنضوب حياة صاحبه بما يحتاج إلى إعادة إحياء ومن مثل حفيد إبن عرفة في النحو والتفسير الإمام العلامة إبن عاشور صاحب أجل تفسير فوق الأرض فضلا عن كونه وريث الشاطبي في علوم مقاصد الشريعة الكفيلة بإستيعاب جدائد عصرنا في القضايا السياسية والمالية والدستورية وغيرهم لا يحصى.
كانت الزيتونة هي الجرح الذي ظل صامدا لا يزيده النكء إلا حياة حتى توجت مسيرة المقاومة الطويلة بثورة 14 جانفي 2011. كانت الزيتونة بكلمة واحدة هي وعاء بطاقة الهوية التونسية. إذا كانت البلدان من حولنا قد ولجت المعاصرة من بوابات أخرى فإن تونس ولجت المعاصرة من بوابة الحضارة والثقافة أي من البوابة الرئيسة التي تأذن للمال أن يتعدل مغرفه ومصرفه بمثل إذنها للسياسة أن تنساب بين المجتمع والدولة بمؤسساتها بحرية وكرامة وديمقراطية ومساواة.
زيتونة معاصرة.
لا ترمز الزيتونة بمثل ما يريد عبيد السلف أو عبيد الغرب تزويره عنتا إلى الهوية العربية الإسلامية من وجهها الديني أو اللغوي فحسب. إنما ترمز الزيتونة إلى هوية وطنية جامعة قوامها : العروبة والإسلام والحرية والعدالة والإستقلال وعلاقات البر والإحسان مع المخالفين والحوار والتعاون مع الجيران و كفالة حقوق التنوع والتعدد فضلا عن قيم العمل إجتهادا في الإسلام وجهادا في الأرض وقيم الوحدة والتآخي. زيتونة معاصرة تؤوي إليها العدول من المجددين الذين يثبتون عقلا إسلاميا وسطيا معتدلا لا إقصاء فيه ولا إنتقاء. زيتونة معاصرة تصل أصلنا بعصرنا حتى يكون الفقه بأصوله ومقاصده وقواعده خادما للحياة وتكون الحياة مستوية على أسس عقلية منطقية ودعامات عاطفية سخية جميلة. زيتونة تجد فيها المرأة حظها وافيا كافيا غير منقوص في كل حقول المعرفة والإجتهاد والتجديد دينا ودنيا طالبة علم ومعلمة. زيتونة تنضج بحوثا ودراسات لازمة لخيارات إقتصادية وسياسية ودستورية. زيتونة تنفض الغبار الكثيف عن إرث تونسي كبير في اللغة والفقه والمقاصد والأصول والقواعد والتفسير ثم تعرضه على العصر ومطالبه ليتجدد وتنبعث به أمة لا حضارة لها ولا مستقبل سوى بمزاولة التجديد والإجتهاد وإتاحة حق الإجتهاد لكل مصيب ومخطئ دون إكليروسات كنسية زائفة حملت أروبا في القرون المنصرمة على ثورتها ضد تدين كنسي مغشوش جمد الحريات الفكرية فلما إنتصرت الثورة هناك خيل للعبيد فينا أنه الماء الزلال وما هو بماء زلال ولكنه سراب يحسبه الظمآن ماء.
زيتونة مالكية منفتحة.
لعله من حظ تونس أن يتتلمذ بعض من أهلها على فقيه دار الهجرة مالك إبن أنس عليه الرحمة والرضوان من مثل الإمامين : أسد إبن الفرات وسحنون. ذاك من الأقدار الغلابة كذلك وإلا فما أبعد البون بين المدينة في شرق الأرض وتونس في غربها. العبرة في المذهب المالكي ليس في إسم صاحبه ولكن العبرة منشؤها أمر واحد هو أن مالكا تلميذ ذكي جدا ومجتهد مجدد كان يتلقى العلم مباشرة من أفواه تابعي الصحابة وخاصة مما سماه هو : عمل أهل المدينة أي جمعا بين القول وبين أثره. سر ذلك هو أن أوفى الناس لمقاصد الإسلام ومبادئه وقواعده هم الصحابة سيما قياداتهم ونخبهم ومن بعدهم أبناؤهم وتلاميذهم وكان لمالك الحظ الأوفر بأن كان من تلاميذ أولئك. ورث عنهم اليسر من جهة والنظر في مقاصد الأحكام ومآلاتها من جهة أخرى. ثم ساقت أقدار الله سبحانه إليه بعضا من أهل تونس لترث تونس بزيتونتها فقها إسلاميا طابعه اليسر والمقاصدية والمآلية. إمتلأت الزيتونة بذلك فلا غرو بعدها أن تحمل في رحمها رجالا من مثل إبن عرفة وإبن خلدون وإبن عاشور.
عندما ينهض بعبء إعادة الإعتبار للزيتونة رجال سيكتشف الناس أن المالكية تعني تقديم المقاصدية الإجتهادية عندما تتعارض الأدلة أو تتبدل الأحوال رعاية لعدم النكير على تبدل الأحكام والفتاوى بتبدل موجباتها ومن أوكد الموجبات الزمان والمكان والحال والعرف والضرورة والحاجة وغير ذلك. المقاصدية في الإجتهاد هي اليسر واليسر هو النشيد الرسمي للإسلام. المقاصدية هي رعاية المصلحة التي لم تأت الشرائع تترى سوى لرعايتها إما إعتبارا أو إلغاء أو إرسالا. ألا ترى أن أكثر معضلات اليوم لا تحل سوى بالمقاصدية آلية أصولية وفقهية إجتهادية مناسبة؟ أم ذلك هو النبي محمد عليه الصلاة والسلام ومن بعده الفاروق ومن بعده مالك ومن بعده إبن تيمية ومن بعده إبن القيم ومن بعده الشاطبي ومن بعده إبن عاشور. سلسلة مبدؤها المدينة ومنتهاها تونس. سلسلة ليست هي الوحيدة بل هي حلقة من حلقات إجتهاد مقاصدي إستصلاحي عميق يصل الأصل بالعصر وليس من سموا بدء من مالك سوى ذكرا لا حصرا. ترى ما الذي جعل إماما مثل أبي حنيفة النعمان عليه الرحمة والرضوان يجتهد فيجدد ويبدع بما عرف من إستحسان وهو ناء بالعراق لا يصله الحديث إن وصله إلا بعد لأي ومشقة؟ إنه الإجتهاد المقاصدي الذي يجعل النص مفهوما في سياقه لغة وتاريخا ومعنى ومآلا.
زيتونة مالكية منفتحة قوامها الوفاء لإرث سحنون وإبن الفرات من جهة و عمدتها الدليل من جهة أخرى تنشد الأنسب والأرفق والأرشد للناس ولحاجاتهم وضروراتهم ومصالحهم أما التشدد فيحسنه كل أحد كما قال بحق إمام كبير هو سفيان الثوري عليه الرحمة والرضوان. زيتونة مالكية لا تضيق بأحد من أهل الرأي والإجتهاد إذ الحكمة ضالة المؤمن أبدا.
زيتونة تساهم في الإصلاح.
1 من خلال بناء قلعة للإجتهاد المقاصدي في الغرب الإسلامي مساهمة في مواكبة العصر بقلب ثابت على هويته.
2 ومن خلال إرساء معايير العدل نفيا لتحريف الغالين وإنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
3 ومن خلال إدارة حوار أصولي وفقهي ومقاصدي ثر خصيب على قواعده العلمية المعروفة عند أهله نشدانا للتواصل والتعدد المحكوم بضوابط الوحدة والإعتصام.
4 ومن خلال تعميق قيم الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة والتعددية والتآخي الإنساني لتكون إفريقيا برأسها المطل على المتوسط وحوضه الشمالي مرفأ آمنا دافئا لتعارف بشري على أساس الندية وليس الغلبة والقهر.
5 ومن خلال وصل ما إنقطع بين العلوم الدينية الشرعية وبين العلوم الإنسانية الإجتماعية وبين العلوم التجريبية الكونية تحصينا للإنسان من الإنقسام والتشظي في أبعاده المختلفة.
6 ومن خلال إستعادة الدور الدعوي تعليما وتعبئة بمقومات اليسر بدل العسر والبشر بل العبس واليقين بدل الجدل الفارغ والإلتزام بدل التسيب والخلق بدل الميكافيلية والتعاون بدل التشاجر والرحمة بدل العنف والإعتصام بدل التفرق.
7 ومن خلال تثبيت قيم الهوية الوطنية للبلاد سميا العروبة والإسلام والحرية والوحدة والعدالة تثبيتا نظريا وعمليا مع مرور الأيام بما يؤبد تحصين جبهة الهوية بأبعادها الدينية والوطنية والإنسانية تأبيدا لا مطمع فيه لطامع خائب.
تلك مهمة الرجال الذين يعتقدون أن مؤسسة الزيتونة أمانة عقبة وأبي زمعة عليهما الرضوان في عنق كل تونسي وتونسية. أمانة لئن حالت دونها عقود جمر حامية طويلة فإن ثورة 14 جانفي كفيلة بأن تغدق عليها من سلسبيلها ماء حياة زلال يعيد لتونس الحضارة والثقافة إعتبارها وحتى تذكر الزيتونة اليوم بمثل ما يذكر الأزهر الشريف وعندها يتكافل الأزهر مع الزيتونة لحفظ إفريقية وأمة العرب والمسلمين من غزوات فكرية قوامها الغلبة الحضارية والتفوق العسكري وليس الندية الثقافية.