السلطات الفرنسية تبحث عن سجين أطلق سراحه عن طريق الخطأ    انفجارات عنيفة تهز مدينة حلب السورية    عاصفة رملية كثيفة تجتاح السعودية والعراق وقطر    في شهر جوان.. 3 مباريات ودية للمنتخب التونسي    الكرة الطائرة.. الترجي يتأهل الى نهائي الكاس    القيروان.. البرد يتسبب في اضرار بمحاصيل الحبوب والاشجار المثمرة    القصرين.. حجز 2147 قرصا مخدرا بحوزة شخصين على متن سيارة    صفاقس : عودة متميزة لمهرجان سيدي عباس للحرف والصناعات التقليدية في دورته31    بنزرت: إلغاء إضراب أعوان الشركة الجهوية لنقل المسافرين المبرمج ليوم الأربعاء 07 ماي    مهرجان محمد عبد العزيز العقربي للمسرح...دورة العودة والتجديد و«ما يراوش» مسك الختام    لأول مرة في السينما المصرية/ فيلم يجمع هند صبري بأحمد حلمي    إلزام الناشرين الأجانب بإرجاع كتبهم غير المباعة إجراء قانوني    وفاة 57 طفلا والمأساة متواصلة ... غزّة تموت جوعا    هبة يابانية    نسبة التضخم تتراجع الى مستوى 6ر5 بالمائة خلال شهر أفريل 2025    قابس: مستثمرون من عدّة دول عربية يشاركون من 07 الى 09 ماي الجاري في الملتقى العربي للاستثمار السياحي والاقتصادي بقابس    شراكة تونسية قطرية لتعزيز القطاع الصحي: 20 وحدة رعاية صحية جديدة خلال 3 أشهر    الحماية المدنية تنبّه من الممارسات التي تساهم في اندلاع الحرائق    عاجل/ إعلام إسرائيلي: تم تدمير ميناء الحديدة في اليمن بالكامل    زغوان: رفع 148 مخالفة اقتصادية وحجز أكثر من 22 طنّا من السكر المدعم    بطولة الرابطة الأولى: برنامج الجولة الأخيرة لموسم 2024-2025    الجمعية التونسية للزراعة المستدامة: عرض الفيلم الوثائقي "الفسقيات: قصة صمود" الإثنين    ثلاث جوائز لتونس في اختتام الدورة 15 لمهرجان مالمو للسينما العربية    بطولة الرابطة المحترفة الثانية: ايقاف مباراة الملعب القابسي ومستقبل القصرين    انخفاض أسعار البطاطا في نابل بفعل وفرة الإنتاج والتوريد    عاجل/ نتنياهو: هجوم جديد ومُكثّف على غزّة وسيتم نقل السكّان    أريانة: سرقة من داخل سيارة تنتهي بإيقاف المتهم واسترجاع المسروق    آلام الرقبة: أسبابها وطرق التخفيف منها    سعر "علّوش العيد" يصل 1800 دينار بهذه الولاية.. #خبر_عاجل    محمد رمضان يشعل جدلا على طائرته    تتمثل في أجهزة التنظير الداخلي.. تونس تتلقى هبة يابانية    الدورة الاولى لتظاهرة 'حروفية الخط العربي' من 09 الى 11 ماي بالقلعة الصغرى    عاجل/ رفض الإفراج عن هذا النائب السابق بالبرلمان..    عاجل - سيدي حسين: الإطاحة بمطلوبين خطيرين وحجز مخدرات    مجلس نواب الشعب : جلسة عامة غدا الثلاثاء للنظر في اتفاق قرض بين تونس والبنك الإفريقي للتنمية    بوفيشة: احتراق شاحنة يخلف وفاة السائق واصابة مرافقه    الرّابطة الثانية : برنامج مباريات الدُفعة الثانية من الجّولة 23.    في قضية مخدرات: هذا ما قرره القضاء في حق حارس مرمى فريق رياضي..#خبر_عاجل    المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة في زيارة عمل إلى تونس بيومين    تونس تحصد 30 ميدالية في بطولة إفريقيا للمصارعة بالدار البيضاء منها 6 ذهبيات    دوار هيشر: 5 سنوات سجناً لطفل تورّط في جريمة قتل    تصنيف لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع الى المرتبة 36    قيس سعيّد يُجدّد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي..    عاجل/شبهات تعرّض سجين للتعذيب ببنزرت: هيئة المحامين تُعلّق على بلاغ وزارة العدل وتكشف..    عاجل -فلكيا : موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    تقلبات جوية متواصلة على امتداد أسبوع...تفاصيل    انطلاق امتحانات البكالوريا التجريبية..    كل ما تحتاج معرفته عن ''كليماتيزور'' السيارة ونصائح الاستعمال    بطولة مدريد المفتوحة للتنس للأساتذة: النرويجي كاسبر رود يتوج باللقب    باكستان تصعد حظرها التجاري ضد الهند    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أي مستقبل لتونس في ظل الاستحقاق الانتخابي الأخير
نشر في الحوار نت يوم 02 - 11 - 2009

نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة في تونس (الأحد 25 أكتوبر 2009) لم تكن مفاجئة لأحد على وجه البسيطة كلها شرقا وغربا. فوز الرئيس بن علي بحوالي 90 بالمائة من الأصوات واقتسام بقية المنافسين لعشرة بالمائة وكذا فوز التجمع الدستوري الديمقراطي بالهيمنة المطلقة على مؤسسات الحكم في البلاد كالعادة منذ أمسك بورقيبة بمقاليد البلاد فيما عرف بالاستقلال التام عام 1956 أمران لا يجادل فيهما عاقل إلاّ أن يجادل ذلك العاقل ذاته في أنّ المناخ السياسي والأمني والاجتماعي على امتداد عقدين كاملين من حكم بن علي ليس هو الذي صنع مثل ذلك الفوز وسيظل يصنعه على النحو الذي قالت فيه العرب قديما: كيف يستقيم الظل والعود أعوج ..

المجتمع أمانة ثقيلة في أعناق صناع السياسة والإعلام ..
من شروط التفكير في مستقبل البلاد في ظل الاستحقاق الانتخابي الأخير على اعتبار أنّها آخر دورة رئاسية للرئيس الحالي حتى 2014 أي بعد 27 من الحكم (المدة ذاتها تقريبا التي قضاها بورقيبة في الحكم إلاّ ثلاث سنوات من 1957 حتى 1987)... أن نتفق على توصيف موحد للأوضاع حتى لو اختلفنا في التحليل أسبابا ومآلات.. ولا نظن أنّ ذلك التوصيف ينأى بنا عن المفاصل التالية الكبرى (التنمية السياسية مؤجلة بل موصدة أبوابها بسبب احتكار الدولة للسياسة احتكارا ابتلع المجتمع بعصا البوليس الغليظة إلا مجموعات معارضة صغيرة لا تفتأ "تشاكس" ولا تفتأ العصا تلاحقها + جهاز السلطة بدأت تنخره في السنوات الأخيرة على شدة ضيقه لوبيات متناحرة في معركة الخلافة وما يتطلب ذلك من استقواء بالخارج وعبث برساميل البلاد الثقافية والمالية والاستراتيجية + الملف الحقوقي أكثر ملف سوادا في العالم العربي والإسلامي كله بشهادات دولية موثقة فضلا عن شهادات المعذبين أنفسهم وليس المقصود الحقوق السياسية والمدنية بمثل ما هو متعارف عليه في بقية البلدان العربية والإسلامية على دوسها لتلك الحقوق ولكن المقصود هي حقوق المعتقل والسجين والمشتبه به ومن لم تثبت له براءة من داء المعارضة الوبيل + التهيكل الاجتماعي التونسي عمرانيا وأخلاقيا يشهد انهيارات سريعة في اتجاه الشيخوخة والعزوف عن الزواج وعن الإنجاب (من أضعف المعدلات في العالم كله = 1,75) والتمدرس ورواج الجريمة المنظمة سيما داخل الرحم العائلي والإنجاب خارج عش الزوجية (ظاهرة الأمهات العزباوات) وانتشار المخدرات والأمراض الجنسية.. وذلك هو أخطر ما يهدد المجتمع التونسي بحق.. أكثر من تهديد غياب الحريات والديمقراطية وأكثر من تهديد الجور الاقتصادي والنهب الاجتماعي.. + انتشار البطالة وفقدان الثقة بين الناس وظاهرة قوارب الموت وهي الأكثر ارتفاعا عربيا وإسلاميا وسيادة اليأس والقنوط والأنانية واستحواذ القطط السمينة في القصر والقطط المحيطة به مصاهرة سياسية أو عائلية أو ارتشاء على النصيب الأوفر والأيسر من المال العام وحظوظه كسبا وتوزيعا إلخ..)..
ذلك توصيف لا بد من الاتفاق عليه قبل الانطلاق تفكيرا في مستقبل البلاد بعد رحيل الرئيس الحالي.. توصيف يمكن الاستطراد فيه تحليلا وتشريحا ولكن يمكن كذلك حده بكلمة واحدة: السياسة الأمنية الصارمة التي انتهجها الرئيس الحالي على امتداد عقدين كاملين كانت كفيلة بزرع الخوف وبسط الهلع إلى درجة غير مسبوقة في تاريخ البلاد الغابر والحديث بما جعل تلك السياسة هي المسؤولة بدرجة أولى عن أخطر نتيجة عرفتها البلاد أي: تهيكل العمران التونسي تهيكلا جديدا عنوانه: الشيخوخة تقرض المجتمع يوما بعد يوم بمثل ما يقرض الجرذ بأسنانه حبلا غليظا متينا عصيا ينال منه دون شعور من أحد حتى يحيله خرقة بالية..

اعتراض لا بد من تجاوزه وقد عفا عنه الزمن ..


إذا اتفقنا على ذلك التوصيف في مفاصله الكبرى دون تفاصيله الصغرى.. فإنّ اعتراضا بدا اليوم سخيفا مهما حشد له أصحابه من عوامل التغذية.. اعتراض شبيه بالشغب الذي يزرع الطريق شوكا دون أن يقدم فكرة إيجابية أو مقاربة لحل.. اعتراض مفاده أنّ تلك السياسة الأمنية المنتهجة والتي أسفرت عن تشيّخ المجتمع وغياب الحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية حتى في الحدود الدنيا المعروفة عربيا لكل ذلك.. لم تأت من فراغ ولكن أثمرتها حركة النهضة عندما أصرت على المواجهة ولو كانت مواجهة سياسية سلمية في انتخابات أبريل 89.. ذاك اعتراض يمكن إجراء حوار فيه بعد خمس سنوات أو عشر سنوات، أمّا أن يظل ذلك الشغب مصاحبا لنا في حواراتنا في مستقبل البلاد أينما حللنا وارتحلنا فإنّ ذلك يخاصم الإيجابية وهو الأسلوب الذي يلجأ إليه التافهون حينا والفارون من استحقاقات المعركة حينا آخر حتى نظل مشدودين إلى الماضي انشداد مصدوم فقد ذاكرته في إثر حادث مريع أليم.. ذلك منطق في السياسة شبيه بمنطق في الدين يقول بأنّ حسم سوء استخدام المباح (التعدد مثلا) لا يكون إلا بإلغاء المباح نفسه.. اتّقاء غضبة السلطة التي لا تبقي ولا تذر تدعو إلى إلغاء المعارضة أو إلغاء حركاتها الاحتجاجية السلمية.. على موعد متجدد دوما مع العقل أحادي البعد..

مقاربات الإصلاح تبدأ من هنا ..
منطلقات الإصلاح عند المؤمنين بذلك التوصيف آنف الذكر في محطاته الكبرى لا تعدو أن تكون سياسية واجتماعية في الآن ذاته من جهة وأن تكون استراتيجية لا فورية عاجلة من جهة أخرى وأن تكون جماعية لا فردية من جهة ثالثة وأن تكون متنوعة لا أحادية من جهة رابعة..
كونها سياسية معناه أن تكون الحرية هي قلب الرحى في الخطة السياسية.. ولكن دعنا نعبر عن ألم حارق يعتصر الوطنيين المخلصين.. ألم مؤداه أنّ الحرية عروس يخطب الكل ودها بباقات ورد فيحاء وأطباق ذهب ملساء ولكن الخوف من الانقلاب ضد الحرية كلما تمكن الخاطب من عروسه يظل خوفا قائما حقيقيا والتجارب من حولنا تلقننا الدرس في إثر الدرس يستوي في ذلك الإسلاميون مع العالمانيين والعروبيون مع اليساريين والثوريون مع الإصلاحيين .. تجرع ذلك الألم معنا إذا لم تتجرعه من قبل لعلك تتجرع معه لقاحا مفيدا ضد الانبهارات الزائفة ولكن كن معتدلا في ذلك لئلا يلتهمك سرطان اليأس أو ذئب القنوط..
أما كونها اجتماعية فمعناه أن تحسن قراءة التطور الاجتماعي في البلاد لتؤسس على ذلك استراتيجية بعيدة المدى تعيد للمجتمع حصانته وتصالحه مع نفسه قبل كل شيء.. انطلقت أدبيات الحركة الإسلامية قبل أربعة عقود في تونس فوق أرضية فكرية عنوانها: نحن والغرب.. على أساس أن الغرب (من حيث هو جهة ثقافية لا جهة جغرافية ومن حيث هو جهة حاكمة لا جهة محكومة) هو أبرز عامل يؤبد تخلفنا وانحطاطنا وما عداه أذرع له يمدها في هذا الاتجاه أو ذاك.. السؤال الاجتماعي الكبير اليوم هو: إلى أيّ حد صمد ذلك العنوان؟ وهل أنّ مشكلة الشيخوخة العمرانية التونسية مشكلة غربية بالأساس أم بالامتداد أم هي مشكلة محلية وطنية؟
أما كونها استراتيجية فمعناه أن تنشئ ضربا من علاقات الوصل والفصل بين كونها سياسية وبين كونها اجتماعية من جهة على قاعدة أن تخدم السياسة حتى وهي في يم اشتباكاتها اليومية المآل الاستراتيجي الاجتماعي المأمول وبما يؤمن الاستقرار من جهة أخرى على قاعدة أنّ الاستقرار يخدم مصالح الطامحين إلى الإصلاح والتغيير أنفسهم (أي مشاريعهم) وليس مصالح طبقات الحكم فحسب سيما في بلد مثل تونس لا مكان فيه للرأي الآخر والحزب الآخر والزعيم الآخر ولكن فيه مكان (أو على الأصح أصبح يوجد فيه بعد سنوات الجمر الحامية) للرأي الصامت والحزب الصامت والزعيم الصامت.. وكثيرا ما يصنع الصمت إصلاحا وأي إصلاح فإذا نطق المصلح الصامت قتل نفسه وقتل أتباعه وأجهض تجربته ووأد مشروعه.. ليصمت لسانك وليصمت قلمك في حالات الضرورة القصوى والشدائد العاريات.. إذا صمت قلمك ولسانك غذت حركتك السير قطعا.. والحركة ألوان توجه اللون المناسب في الوقت المناسب بمثل ضوء الشمس يصنع فيه الناس كل شيء والشمس التي تصنعه لما تبزغ بعد فإذا بزغت حبست الناس بوهج حرارتها في ظلال بيوتهم وأشجارهم..
أما كونها جماعية فمعناه أن يتواضع الجميع على كون تونس مريض داؤه الكبت والجور ودواؤه الحرية والكرامة والعدالة.. إذا تواضع الجميع على ذلك اشتركوا في لب الاستراتيجية الإصلاحية الجامعة وليس عليهم ضير بعد ذلك من اختلافهم وليس عليهم تثريب بعد ذلك على فحص معاقد التوافق ومعاقد الاختلاف.. ذاك درس مؤلم لا بد أنّ الجميع في تونس حصدوا شوكه وتجرعوا علقمه.. درس أبكى الإسلاميين أولا ثم أبكى اليساريين بعد ذلك ولكن رغم ذلك لم تولد اللحظة التي يلتحم فيها الجميع في عصبة تونسية واحدة وأنى لنا ذلك وهذا يترنح تحت نيران نرجسيته كما يترنح السكران وذاك يشترط انسلاخ حليفه السياسي عن عقيدته وثقافته قبل أن ينخرط معه في معركة الحريات دون حسابات ضيقة.. الأنكى من ذلك كله أنّ الاستئصاليين من هؤلاء وأولئك يفزعون إلى السلطة ملوحين بالتخويف من الإسلام والإسلاميين كأنما البلاد على وشك تطبيق الشريعة الجنائية في الإسلام.. تفرقنا درس مؤلم جدا ما يجب مهادنته أو استبداله بالهجوم على السلطة.. تفرق المعارضة وكذا النخب ومن بعدهم الإعلاميون والنقابيون والمثقفون.. ذاك سرطان يدق أسافين الموت فينا ولكن قليل منا من يقبل الحديث في هذا يشغله الهجوم على السلطة بل ربما يحملها وزر تفرقنا.. ليس معنى ذلك أنها بريئة ولكن عدم براءة خصمك من عمل مثل ذاك هي منقبة له وليس مثلبة فيه.. هي في معيار النقد الذاتي والمراجعة المطلوبة منقبة له ومثلبة فيك..
أما كونها متنوعة لا أحادية فمعناه تشكيل خارطة إصلاح جامعة عنوانها (ادخلوا من أبواب متفرقة).. كونها متنوعة معناه أنّ منهجها الإصلاحي جامع من جهة وأحادي من جهة أخرى.. جامع على معنى أن يطرق كل أهل مهنة وحرفة أبواب الإصلاح مما يليهم بما يوحد بين مطالبهم المهنية الحرفية وحقوقهم المدنية والسياسية في كنف ما اجتمعوا عليه أو له في حياتهم اليومية.. وأحادي على معنى أن ينفصل عمليا كل باب من أبواب ذلك المنهج الإصلاحي المتنوع بعضه عن بعض.. انفصال عملي حقيقي بمثل ما تنفصل الجداول عن أنهارها لتذهب بعيدا تسقي هذا وتروي ذاك ثم ما تلبث أن تعود إلى أنهارها ومجاريها الأصلية ولكن في أرض أخرى.. أي زمن آخر.. كونها متنوعة معناه أن منهجها الإصلاحي لا تمسك به بيد واحدة ولا بآلة تنظيمية واحدة ولا بقيادة واحدة ولا بخطة واحدة.. معناه أنّ الراصد المتعجل لا يبصر شيئا لأنّ العمل في جزء كبير منه في مناطق الحياة اليومية ذاتها متلبس بتحدياتها.. معناه أنّ ذلك المنهج الإصلاحي لا يُقاوَمُ (بفتح الواو).. ليس لقوته ولكن لتوزعه على شرايين دقيقة بعضها قريب وبعضها بعيد بل بعضها مرئي وبعضها لا ترصده أشد المجاهر معاصرة..
ذلك هو المنهج الإصلاحي الذي لا يمسك به أحد ولكن يمسك به المجتمع في فعالياته التي تشربت ثقافة الإصلاح والتغيير فهي تعمل له صباح مساء دون الحاجة إلى جيوش نظامية ولا جيوش احتياطية ولا لباس موحد يعرفهم به الناس من حولهم.. فعاليات من كل مهنة وحرفة.. حتى المرأة التي ترضع وليدها.. لا يعرف بعضها بعضا ولكن تعرفها ساحات القلوب التي تشبعت بثقافة الإصلاح لا تحركها قعقعات فرعون مهما استبدت ولا هامان ولا قارون.. إذا ساقت الأقدار منها ماشطة بمثل ما ساقت ماشطة فرعون فلا بأس ولكنها حالة فرد وليست حالة بلاد أو قطاع في البلاد..
ذلك هو المنهج الإصلاحي الذي يعيد للمجتمع ولكن بعد سنوات طويلة بل عقود حصانته وتصالحه مع ذاته..
ذلك هو المنهج الإصلاحي الذي تتكامل فيه قطاعات الإصلاح متوازية متوازنة فلا ينشأ انخرام يكون فيه الطالب الجامعي يلتهب ثقافة بينما يكون فيه الفلاح الريفي الصغير البسيط كتلة من الجمود والتقليد..
ذلك هو المنهج الإصلاحي الذي يخدم الاستقرار كلما كان البديل عن الاستقرار هزات عاصفة أو ثورات سرعان ما يمتص سعارها بدريهمات معدودات تخصم من سعر رغيف الخبز.. وما أشد دهاء الحكام على امتصاص النقمات والتململات.. العزم في الناس قليل وذلك هو المقدور الأصلح بنا.. إذ لو كان العزم في الناس كثير لكانت حركات التغيير والإصلاح تنشأ ضحى لتظهر ظهرا ولكن كان العزم في الناس قليل ليتطلب رواحل استجمعت شروط النفس والعقل معا تظل تكابد على امتداد عقود طويلة ثم تخلف لعقود أخرى طويلة بأجيال أخرى.. ذلك ليبتلى أهل العزم الجادين في قضية التغيير والإصلاح ويمحصوا من دخن الخطابات النارية المتعجلة وعمل عام أو عامين أو عقد أو عقدين فإذا أسفر الأمر عن وجهه الكالح نفد الصبر وخارت الهمة وفر كل واحد منا إلى حيث يجد الأمن والدعة ولكن تأبى عليه غريزة حب التقدير (أقوى غريزة معنوية في الإنسان) إلاّ أن يفر إلى مفره وذكر الناس فيه أنه بطل متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة أخرى وليس غير ذلك..

أمران لا بد من الجمع بينهما في اعتدال وتوازن.. أولهما أنّ السلطة في تونس (كانت في عهد بورقيبة تقدم عصا الثقافة على عصا البوليس فأضحت في عهد بن علي تقدم عصا البوليس بل ليس لها سواها).. وضعت نفسها منذ البداية (بداية 1956 خوفا من الامتداد الإسلامي على يد أحفاد الثعالبي زعيم الحزب الحر الدستوري ثم بداية من 1987 خوفا من الامتداد ذاته على يد أحفاد محمد صالح النيفر).. في سياق ثقافي وسياسي وأمني وقومي له حدوده المعروفة دوليا وعربيا ومحليا وهو سياق لا يجود بالحريات والديمقراطية جودا كريما سخيا إلاّ بما يزين واجهته الخارجية تساوقا مع الخطاب الدولي المغازل لقيم الحرية والديمقراطية.. تلك طبيعة لا مجال لإنكارها حتى باسم المصالحة بل لا علاقة لها لا بالمواجهة ولا بالمصالحة.. السلطة بكلمة: غربية المنشأ وغربية المنزع وغربية الهوى عندما تجردها من مساحيقها.. الأمر الثاني هو أنّ السلطة ذاتها ليست إيديولجية المنزع (خاصة بعد بورقيبة وإذا استثنينا التأدلج الناشئ من المصاهرة القوية بين السلطة الأمنية أي بن علي ومن معه (ومنها السلطة المالية طبعا) وبين السلطة العالمانية التي كان أبرز رجالها الراحل محمد الشرفي الذي منحته السلطة الأمنية وزارة التربية والتعليم لتجفيف منابع التدين..).. كون السلطة ليست إيديولجية المنزع معناه أنها تبحث عن مصلحتها في البقاء والمنفعة والاحتكار والهيمنة.. شأن كل سلطة ولكن الفرق الوحيد هو: جرعات الديمقراطية الكفيلة بإنشاء علاقة بين الدولة والمجتمع طابعها العام التفاعل والتجاوب والتعاون.. مقتضى ذلك هو أنّ السلطة تضحي من منافعها بقدر ما يضمن بقاءها وأمن وسلامة حلفائها سيما الأقوياء منهم لتظل في ذلك في حركة مد وجزر مع المجتمع فلا يتحرر هذا إلاّ بضعف في تلك ولا تستأسد تلك إلاّ بهزال شديد في ذاك.. ذانك أمران لا بد من الجمع بينهما حتى لا نحكم بالمطلق على الأشياء والأمور التي سحنتها التغير وطبيعتها التبدل طلبا للمنفعة ودرء للمفسدة.. من ذا يتحصل لدينا أنّ أنسب منهج إصلاحي هو الذي يستوعب تلك المعادلة في السلطة من جهة ويظهر ذكاء وصبرا فوق العادة لالتقاط لحظة الاقتران بين حصانة المجتمع وحاجة السلطة إلى وقت مستقطع للتشاور والمراجعة والراحة وتبديل التكتيك كما يقال.. من جهة أخرى
معنى ذلك كله إذن هو: الإصلاح ليس من شيم السلطة ولا علاقة بين الأمرين ولكن الإصلاح المفروض عليها بعوامل داخلية (رحيل بن علي بمقتضى استنفاذه لنصيبه من الحكم بعد ولايات خمس) أو عوامل خارجية وأهمها قطعا: بداية تعافي المجتمع وجنوحه إلى التحصن واستيعاب فعالياته للدرس الأبقى بعد عقدين من سنوات الجمر الحامية كانت نتيجتها الباهظة جدا: شيخوخة المجتمع التونسي وانقراض شبابه ودخوله في معركة المشاكل الأروبية (ألمانيا مثلا) مع فارق شديد لا يقاس بين مجتمع أوربي يشيخ لكنه يقاوم بدفاعات مالية وإدارية وديمقراطية وبين مجتمع تونسي يشيخ لكنه لا يقاوم بشيء من ذلك.. أما العوامل الخارجية الدولية والعربية فرغم أهميتها دون ريب فإنّ حدوثها بنسق مؤثر على تونس في مواقع التأثير الغربي على تونس أمر مبالغ فيه مهما كتب المتفائلون أما عربيا فإنّ الأمر لا يختلف عن تونس سوى في الدرجة أما في النوع فهو هو..
معنى ذلك ومقتضاه هو بكلمة واحدة: الإصلاح في السلطة ممكن ولكن ليس بما يتصوره المتعجلون أي ظهور مهدي منتظر فيها يصلح ما أفسده الخالون ولا كذلك توبة نصوحا.. ولكن الإصلاح في السلطة ممكن بسبب تحولات في السلطة ذاتها تفرض عليها تغيير وتيرة العمل أمنيا ليس أكثر.. وهذا مهم إذا استحضرنا أنسب منهج إصلاحي أي: إصلاح لا ضجيج فيه ولا دق طبول.. لا طبول الحرب ولا طبول التملق.. الإصلاح في السلطة تفرضه الأوضاع الجديدة وهي قادمة ليس نبوءة ولكن إيمانا بالحقائق الكونية العظمى.. إلاّ من يرهن بلوغ الإصلاح ذروته العظمى في عهده هو وبآلته هو.. ذلك ميزان طواه التاريخ ولو كان ذلك الفضل فضلا لما توفي سيد الخلق طرا محمد عليه الصلاة والسلام قبل أن يرى بعينيه دخول الإسلام كل بيت من وبر وحجر في مملكة الفرس شرقا ومملكة الروم شمالا وغربا..
ذلك هو أملنا الذي نعمل له..
أن تبدأ تونس في توديع عقدين كاملين من سنوات الجمر الحامية.. لا يضيرنا أن يكون ذلك في عهد هذا الرئيس أو من يليه.. لكننا مؤمنون بأنّ تونس جديرة بحكم ديمقراطي حقيقي.. حقيقي حتى لو كان منقوصا يعمل يوما بعد يوم على تكامله.. حقيقي حتى لو كان متدرجا يعيد الاعتبار للمظلومين واحدا بعد الآخر.. إعادة الاعتبار لأنساقهم المعرفية هو أهم إعادة اعتبار في منطق العقلاء وليس بالضرورة إعادة الاعتبار لهم واحدا واحدا.. منهم من قضى نحبه منذ سنوات طويلة ومنهم من أقعده المرض بعد سجن طويل مملوء تنكيلا وتشفيا.. إعادة الاعتبار لأمر واحد يرنو إليه كل تونسي: للزيتونة رمز الإسلام في تونس ومحضن ثقافتها ومصنع هويتها وعلامة حضارتها.. إذا أعيد الاعتبار للزيتونة (تونس هبة الزيتونة بمثل ما أنّ مصر هبة النيل على حد قول الفيلسوف الأثيني هرودوت).. أعيد الاعتبار لكل تونسي ميت وحي ولكل مظلوم ميت وحي..
أملنا أن توضع هذه الفترة الحالكة (1987 2009) بين قوسين.. ثم نمضي في بناء غد أفضل لتونس مستفيدين من دروس الماضي وأشد الدروس فائدة ما جني من الفشل وليس من النجاح.. من الماضي نجني الدروس ولكن بمثل ما قال القيادي الإسلامي المعروف الدكتور عبد اللطيف المكي الذي تحصل على شهادة الدكتوراة في الطب قبل أيام قليلة بملاحظة تقديرية مرتفعة جدا وذلك بعد أن قضى زهرة شبابه في السجن.. قال عندما أطلق سراحه قبل سنوات قليلات.. قال كلمة اتخذها كثير منا مادة للسخرية ولا يزالون.. قال كلمة كان يدرك أبعادها بل كان في قمة الشجاعة الأدبية.. قال: "عفو تشريعي عام مقابل عفو قلبي عام".. يسخر من مثل ذلك الشباب ومنهم من اشتعل رأسه شيبا ظنا منهم أنه موقف ضعيف.. ولو كان الموقف ضعيفا لنأى صاحبه بنفسه عن السجن بمثل ما نأى غيره وبمثل ما نأى غيره عن النفي والتغريب.. القوة عند أولئك لها بعد واحد ولون واحد وصاحب البعد الواحد لا يبعد كثيرا ضربا في أسواق السياسة.. لا يبعد بعيدا لأنه يرى قوة الريح العاتية بمثل ما يرى قوة الرعود المزمجرة وتهديد البروق السالبة للأبصار ولكنه لا يرى قوة الماء المتدفق رقراقا..
ذلك هو أملنا ولكنه أمل العاملين وليس أمل العاطلين.. ولا أمل المراهنين على توبة نصوح من السلطة ولا تغيرا مفاجئا فيها ولا صعود مهدي منتظر منها يملأ جنباتها عدلا بعدما ملأت جورا.. أمل العاملين المؤمنين بالسنن المتوافقين معها كفرا بسيناريوهات إلى الخرافات والأوهام والشعوذات أدنى.. أمل من يقدم مصلحة البلاد والمجتمع على كل شيء.. أمل يذكر الماضي للعبرة وليس للنقمة.. أمل يشغله أمر المستقبل فيعكف على التفكير والحوار والتشاور.. أمل يرى أنّ مصلحة تونس في: الإسلام + الحرية + الوحدة + العدالة + المعاصرة..
أمل يعتبر أنّ المجتمع أمانة في أعناق السياسيين والإعلاميين من حكام ومعارضين.. إذا ضاقت بالحكام والمعارضين مسالك التوافق بمثل ما جرى على امتداد عقدين كاملين فإن المجتمع ما يجب أن يرهن من لدن الطرف الأقوى ليضحى فريسة الشيخوخة لأنّ الخاسر عندها هي تونس وليس سوى تونس وهل من وجود لتونس دون تونسيين أو لتونسيين دون أسرة تمتلأ حيوية بشبابها أو لشباب تضطره عصابات النهب والسلب إلى اختيار الموت في قوارب الموت..
الحوار.نت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.