فرنسا: حريق ضخم يلتهم آلاف الهكتارات بجنوب البلاد    الهياكل العظمية الحية" تشعل الخلاف بين إسرائيل وفلسطين في مجلس الأمن    طقس الاربعاء: الحرارة في ارتفاع طفيف    ولاية اريانة: جلسة عمل لمتابعة تقدم إنجاز مشروع إعادة تهيئة المسلخ البلدي برواد    نصف قرن من الفنون... والكرّاكة ما زالت تنبض من 15 إلى 31 أوت الجاري    مهرجان قرطاج الدولي 2025: الفنان "سانت ليفانت" يعتلي ركح قرطاج أمام شبابيك مغلقة    اتهام بالإبادة لأول مرة.. السيسي يشن هجوما على اسرائيل    بسبب دعوته لمحو غزة.. جماهير دوسلدورف تجبر النادي على التخلي عن التعاقد مع لاعب إسرائيلي    مستقبل القصرين.. انهاء التعاقد مع ماهر القيزاني بالتراضي    عاجل :وفاة مدرب إماراتي تهزّ تظاهرة القفز الحر في تونس    عاجل/ سقوط طائرة بهذا المطار..وهذه حصيلة الضحايا..    عاجل/ جريمة مروعة: شابين يقتلان صديقهما حرقا..وهذه التفاصيل..    غدا انطلاق موسم التخفيضات .. صولد غير جاذب للتاجر والمستهلك!    تاريخ الخيانات السياسية (37) تمرّد زعيم الطالبيين أبو الحسين    استراحة صيفية    أضرار فلاحية في القصرين    رئيسة الحكومة.. مبادرة الإسكوا فرصة مهمّة لتطوير الاستثمار    تراجع نسبة التضخم في تونس خلال جويلية 2025 إلى 5.3 بالمائة    مناضلون من التيار الشعبي يدخلون في إضراب جوع رمزي دعما لغزة من أجل رفع الحصار    طقس الليلة    قابس: وفاة شخصين وإصابة 7 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة في حادث مرور بالطريق الوطنية رقم 1 بمارث    وزارة الشؤون الدينية تكرم مكتب حجيج تونس    اللجنة الأولمبية التونسية تحتفي بالبطل العالمي أحمد الجوادي بعد إنجازه التاريخي في مونديال سنغافورة    الترجي الجرجيسي ينتدب المدافع مكرم الصغير    الكاف: تكريم الفنانة صليحة في افتتاح الدورة 49 لمهرجان بومخلوف الدولي    الرابطة المحترفة الاولى - طارق جراية ينسحب من تدريب مستقبل قابس    برنامج الامم المتحدة للمستوطنات البشرية في تونس يطلق "تقييم الهشاشة متعددة الابعاد" لارخبيل قرقنة لتعزيز الصمود المناخي المحلي    عاجل/ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن..    وليد الصالحي يمتع جمهور باجة الدولي    زغوان: رفع 163 مخالفة اقتصادية خلال شهر جويلية المنقضي    وزير الشباب والرياضة يُكرّم الجمعيات الرياضية الصاعدة ويؤكد على دعمها    الفرص التصديرية غير المستغلة على مستوى السوق الهندية تقارب 214 مليون دولار    انفجار يخت سياحي وتسجيل اصابات في صفوف المصطافين..وهذه التفاصيل..#خبر_عاجل    دبور يرشد العلماء ل"سرّ" إبطاء الشيخوخة..ما القصة..؟!    عاجل: وفاة فنان مصري مشهور داخل دار المسنين بعد صراع مع المرض    مسؤول يوضح: ''لا اختراق شامل لمنظومة التوجيه... والتحقيق متواصل''    السنة الدراسية على الابواب : معلومات مهمّة لازم يعرفها المعلم و التلميذ    عاجل- في بالك اليوم أقصر نهار في التاريخ ...معلومات متفوتهاش    شنوّا يلزمك باش تاخذ قرض من بنك في تونس؟    تأكلها يوميًا دون أن تعلم: أطعمة تقلل خطر السرطان ب60%    تُعطّس برشا ومكش مريض؟ هاو علاش!    التراث والوعي التاريخيّ    صفاقس: انجاز جملة من التدخلات والأعمال العلمية تثمينا للموقع الأثري بطينة    زفيريف ينتفض ليُطيح بحامل اللقب بوبيرين من بطولة كندا المفتوحة للتنس    اللجنة الجهوية للنظافة بولاية تونس توصي بضبط رزنامة وبرنامج عمل للقضاء على النقاط السوداء    جامع الزيتونة ضمن سجلّ الألكسو للتراث المعماري والعمراني العربي    صور أطفالكم على الفيسبوك ؟ شوف القانون شنوا يقول    بارفان ب5 د و على الطريق ؟ رد بالك تضر صحتك و هذا شنوا يستنى فيك    قيس سعيّد: التعليم الوطني هو السلاح الحقيقي للتحرّر    سوسة: سلاحف بحرية مهددة بالاندثار تخرج إلى شاطئ القنطاوي في مشهد نادر    عاجل: زلزال بقوة 5.7 درجات يضرب هذه البلاد    واشنطن تدين قرار وضع الرئيس البرازيلي السابق قيد الإقامة الجبرية    بنزرت/ حجز 5,45 طن من مادة الدلاع وإعادة ضخها في المسالك القانونية..    الصربي ديوكوفيتش يعلن انسحابه من بطولة سينسيناتي الأمريكية للتنس    حملات لوحدات الشرطة البلدية تسفر عن القيام ب 54 عملية حجز    فنان الراب العالمي بلطي يروي قصص الجيل الجديد على ركح مهرجان الحمامات    اكتشاف علاج واعد لأحد أخطر أنواع سرطان الدم    تاريخ الخيانات السياسية (36) ..المعتزّ يقتل المستعين بعد الأمان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكمة العم سرحان
نشر في الحوار نت يوم 15 - 11 - 2009


حكمة العم سرحان
بقلم: جيلاني العبدلي
ذكراهُ ما انفكّتْ تطفو على سطح ذاكرتي.. مذ جلستُ إليه ذات يوم وشخصيّتُه الحيّة لازالتْ تمثلُ أمامي وحديثُه السّلس المحكمُ لازال يسكنُ في مخيّلتي.

إنّه عاملٌ بسيط نحيفً البنية نشيط الحركة، لا تفارقُ شفتيْه ابتسامتُه الخفيفةُ التي ألفها فيه كلّ الذين تعرّفوا عليه. علا شعره الكثيف شيءٌ من الشيْب، وبدتْ على جبينه العريض علاماتُ كفاح مرير في الحياة، ولكنّه مع ذلك لا يزال يتمتّع بطاقة فاعلة وحيويّة غامرة.
نشأ في أسرة وفيرة العيال شحيحة المال، وشاركها متاعبها الجمّة ومصاعبها العدّة، ولمّا لم يجلس طويلا على مقاعد الدراسة وبالتّالي لم ينل من التعليم غير حظّ يسير، فقد خيّر أن يلتحق بمركز للتدريب المهني حيث تعلم أصول الدّهانة وتمكن من فنون الطلاء، وحالما أنهى مدة التكوين التحق بسوق التشغيل، وأقبل على العمل بحماس فياض وطموح جياش، تُحرّكه في ذلك نزعة دفينة للنهوض بعائلته ورغبة شديدة في التعويض على سنوات حرمانه.

اختار العمل الحرّ الذي يتمتع فيه بالاستقلال لأنّ طبيعته لا تنسجمُ مع الحياة المهنيّة الرتيبة وضوابطها العديدة، ولم تكد تمرّ أشهر معدودة على ممارسته حرفته حتى ذاع صيته، وحدّث النّاس بإتقانه، وتواترتْ عليه عروض شتى في العمل.

كان كلّما تلقّى عرضا قلّبه من جميع وجوهه المختلفة، ودرس تكاليفه بروية، ثمّ تعهّد بإنجازه مقابل أجرة مناسبة في غير شطط، ثم تفانى في إتقانه محترما ما ضربه على نفسه من عهود وما قطعه عليها من وعود، وهذا ما زاد في شهرته وفتح له مزيدا من الآفاق في تحصيل الرزق.

وجدتُه ذات صباح مارّا أمام منزلي وعلى كتفيْه سُلّم يتهادى به كأنّي به يترفّق بشيء رفيع يخشى عليه من أثر السقوط، وحالما بلغ بناية بالجوار أنزله بعناية، ثم ثبّته في الأرض، ثم انصرف إلى إعداد الأخلاط الكافية وأدوات الطلاء اللازمة، وشرع بهمّة في العمل.

تراهُ تارة يركبُ سلّمه في تأنّ، وتارة أخرى ينزلُ عنه في حذر، تارة يقشّرُ الحيطان يُجرّدها تجريدا، وتارة أخرى يطلي الجدران يُلمّعها تلميعا، وهكذا تتابعتْ حركاتُه وتنوّعتْ أنشطتُه إلى أنْ أخذ منه التّعبُ مأخذا كبيرا، عندها جلس أرضا غير بعيد يسترجع أنفاسه وقد أسند ظهره إلى جدار مُولّيا وجهه شطر سُلّمه، ثمّ أشعل سيجارة يمصّها وينفثُ دخانها وهو يحدّقُ في السلّم قبالتهُ يتأمّلهُ كأنّي به يناجيه ويبثّه شكاويه.

قصدتُه أحملُ إليه فنجان شاي لمعرفتي بعشقه غير المحدود لهذا المشروب الذي يعدّهُ وقودا يستمدّ منه طاقته في العمل كما يعدّهُ عربون محبة وتقدير.
لما أتيتُه بشّ لي وهشّ وسبقني بالتحية، فرددْتُ بأحسن منها وناولتُه الفنجان، وجلستُ إليه أبادله الحديث.

سألتُه عن سرّ علاقته بسُلّمه التي ظلّتْ قائمة على مرّ العقود ولم تهتزّ لتقلّبات العهود.
نظر إلى السُلّم مليّا، وصمت قليلا، ثم التفت إليّ، وقال مشيرا بسبّابته:
"لسُلّمي هذا يا ابني مكانة خاصة في نفسي ومساحة واسعة في تفكيري، خضتُ به مُعتركاتي فكان دليلي في حياتي ورفيقي في دروبها المتشعّبة.

كنتُ حريصا على تعهّده وصيانته وحسن استعماله، ولم أستخدمْهُ يوما في غير العمل المحمود والإتقان المنشود، ولم أوظفْه أبدا في غشّ أو جشع أو إخلال بالوعد ونقض للعهد، فلم يغدرْ بي يوما، ولم يعرّضْني لمكروه، ودرّ عليّ خيرا عميما، فستر حالي وأعال عيالي، وعلّمني كيف أتدرّجُ في سُلّم الحياة بتأنّ ورفق وتبصّر وعزم كما لو كنتُ أرقى مدارجه.

بفضل هذا السلّم اشتريتُ قطعة أرض، وبنيتُ عليها منزلا مُحترما، ثمّ جهّزتُه، ثمّ تزوجتُ، وصار لي من النسل أصلحُه، فرعيْتُه أحسن رعاية، ولبّيْتُ حاجاته الأساسية، وما كنتُ يوما مستدينا، وهكذا عشتُ مستور الحال أشتغلُ بالنهار، فينال مني الإرهاق نيلا، وأنامُ بالليل ملء جفنيّ قرير العين هانئ النفس لا ألوي على شيء غير دوام هذه النعمة التي أسبغها الله عليّ.

ومع مرور الأيام والأعوام شعرتُ بعاطفة تكبرُ في نفسي، وإدراك يعظمُ في عقلي تُجاه سلّمي هذا، أصبحتُ أنظرُ إليه أحيانا لا كأداة عمل خاوية لا روح فيها، بل كصديق جليل أو رفيق خليل قد بادلني الإخلاص والوفاء، وقاسمني التضحية والصبر، وحماني من عُسْر الحال وسُوء المآل، وأنظرُ إليه أحيانا أخرى ككتاب مُبين أقرأُ على صفحاته فلسفة الحياة، وأدركُ حقائقها الكبيرة ومعانيها القويمة".

في هذه الآونة توقّف عن الكلام يأخذ نفسا من سيجارته، ويرتشفُ شايا من فنجانه، ثمّ أضاف:
"الحياةُ يا ابني مثلُها كمثل السُلّم كلّنا يجتهدُ في صُعوده بتدرّج، فمنْ أساء التقدير وأخطأ التدبير ظلّ في أسفله أو هوى منْ أعاليه، فانظرْ في واقعنا كمْ من فقير ترقّى بحكمة فصار ثريّا، وكم من ثريّ تعثّر فانحدر في مهاوي الفقر، وكم منْ شقيّ مُكترب تدرّج بصبْر فأضحى سعيدا مُبتهجا، وكم من سعيد تهاوى فأمسى تعيسا مُنتحبا، وكم من حائد عن طريق الحقّ ترفّع وتعالى فأدرك درجة الفضيلة، وكم من سائر في طريق الحقّ زلّتْ به القدمُ فإذا به في مساحيق الرذيلة مذموما مدحورا.

كلّنا يا ابني مُقبلٌ على ترقّي سُلّم الحياة، نقطعُ مشوارها الطويل بتدرُّج، نُولدُ فنشبُّ فنكتهلُ فنهرُم، ولكلّ مرحلة خصائصُها ومُقتضياتُها، حساباتُها وتقديراتُها، وخيرُنا منْ أدرك حقائق الحياة وأحسن الترقّي في سُلّمها".

لم يكد العم سرحان يُنهي حديثه الجميل الزاخر بالحكم والمواعظ حتّى أقبل عليه أحدُ حرفائه القدامى مُسلّما بحرارة مُعتذرا عن قطع حوارنا مُقترحا عليه عرضا لعمل جديد في بناية كبيرة راجعة له بالنظر، عندها استأذنتُ للانصراف حتّى أفسح لهما مجال التباحث، وغادرتُهما مُودّعا وقد غمرني إحساسٌ دافئ لذيذ عذبٌ شبيه بما يلقاه في العادة من يأتي على قراءة كتاب جميل في مبناه وفي معناه.

غادرتُ المكان في نخوة مُنتشيا، وما كنتُ أحسبُ قبل جلوسي إلى العم سرحان أنّ في بسطاء الناس منْ إذا نظر فكّر، وإذا تدبّر اعتبر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.