صلاح الدين الجورشي مرة أخرى يبقى المرء مندهشاً من الكيفية التي يعالج بها البعض ملفات ذات طابع سياسي في تونس. فالمتابع هذه الأيام للتطورات التي تشهدها محاكمة الصحافي توفيق بن بريك، يملؤه إحساس بأن المسألة تتجاوز مقاضاة كاتب له أسلوبه الخاص في تناول الشأن الوطني، لتبدو أحيانا وكأننا أمام محاكمة «زعيم سياسي كبير» يُخشى منه أن يهدد النظام أو يغير موازين القوى في البلاد. فالإجراءات الأمنية التي اتخذت صبيحة محاكمته يوم الخميس 19 نوفمبر 2009، تكاد تكون استثنائية بكل المقاييس، وقد أشارت إليها بيانات صدرت عن جهات متعددة من بينها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان: محاصرة المحكمة منذ الصباح بأعداد غفيرة من رجال الأمن، منع جُلّ أعضاء عائلة بن بريك من حضور الجلسة، منع محاميين قدما من الجزائر والمغرب من دخول تونس، منع العشرات من النشطاء من مختلف الفعاليات، فيهم صحافيون، من الاقتراب من المحكمة، وبعضهم مُنعوا حتى من مغادرة منازلهم. منع طاقمي تحرير صحيفتي «الموقف» الناطقة باسم الحزب الديمقراطي التقدمي و «الطريق الجديد» الناطقة باسم حركة التجديد من الالتحاق بمقرات عملهم. رفض طلبات الدفاع سواء الخاصة بإحضار الشهود الأساسيين، أو بتأخير موعد النظر في القضية للاطلاع على ملف الإحالة، مع إصدار قرار بإنهاء المرافعات وعدم تمكين عدد مهم من المحامين من حقهم في الدفاع عن موكلهم. كل ذلك دفع بعميد المحامين الذي سبق وأن استقبله رئيس الدولة بعد جفاء دام سنوات، إلى إصدار بيان لافت للنظر أدان فيه بشدّة ما وصفه ب «الخروقات التي تعكس الصبغة السياسية لهذه المحاكمة والإصرار على إبقاء السيد توفيق بن بريك في السجن رغم وضوح الطابع الكيدي والملفّق لهذه القضية»، كما طالب البيان «بإطلاق سراحه فورا ودون تأخير واحترام المحامين وهياكلهم وعدم تدخّل القضاء في شؤونهم». ألا يدل كل ذلك على أن ما يجري ليس عادياً؟ الذين قرؤوا للزميل بن بريك، يعرفون أنه كاتب ساخر. وهو لم يسخر من النظام فقط، وإنما سخر أيضا من رموز المعارضة والمجتمع المدني، كما سخر من أسرته وحتى من نفسه. ولهذا لا توجد أي جدوى من محاكمته، بل على العكس فإن أضرارها السياسية لا تخفى عن أي مراقب. هناك اهتمام غربي بل ودولي متزايد بهذه المحاكمة، التي تعتمد حالياً كمنصة لقصف السلطة من قِبل أكثر من جهة إعلامية وسياسية. في حين أن المصلحة والبرغماتية تقتضيان الدفع في أعقاب الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة نحو اتخاذ مواقف تعزز الحريات، وتطلق حواراً وطنيا حول المستقبل يشارك فيه الجميع بدون إقصاء كما أكد الرئيس بن علي في خطابه الأخير. وقد كانت السلطات منعت الأستاذين الحسين زهوان من الجزائر ومحمد الحسني الإدريسي من المغرب اللذين قدما للنيابة في القضية من الدخول إلى تونس وأرجعتهما على أعقابهما. وقد حضر الجلسة عشرات من المحامين أعلنوا نيابتهم إضافة إلى محامين من فرنسا وهم الأساتذة فرنسوا قزافيي متيولي ووليام بوردون وليا فورستيي كما حضرت الجلسة السيدة هيلان فلوتر عضوة البرلمان الأوروبي والسيد جون فرنسوا جوليار الأمين العام لمنظمة «مراسلون بدون حدود» وبعض مراسلي وكالات الأنباء الأجنبية وممثلي بعض البعثات الدبلوماسية المعتمدة بتونس. ومنذ البداية قرّر رئيس الدائرة تخصيص الجلسة للترافع في الأصل رافضاً أي طلب لتأخير القضية لجلسة لاحقة خلافا لما جرى العمل به منتهكا بذلك حقوق الدفاع، خصوصا أنّ هناك العشرات من المحامين الذين قدّموا نيابتهم بالجلسة وطلبوا التأخير للإطلاع وإعداد وسائل الدفاع، إضافة إلى أنّ بقية المحامين النائبين بالملف من قبل تقدّموا بمطالب شكلية جوهرية تتمثّل في تعيين خبير للتثبّت من الإمضاء المنسوب لتوفيق بن بريك بمحاضر الشرطة وهي المحاضر التي أكد أنه رفض الإمضاء عليها، وسماع الشخصين المشكّك في وجودهما أصلا واللذين ذكر بتلك المحاضر أنهما كانا شاهدين على ما ينسب لبن بريك. وكذلك بإطلاق سراح موكلهم، نظرا لطبيعة الأفعال المنسوبة له من طرف الشرطة والتي لا تستوجب عادة في هذه الحالات إصدار بطاقة الإيداع التي صدرت ضد موكلهم، خلافا لمقتضيات الفصل 84 وما بعده من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يعتبر الإيقاف التحفظي إجراءً استثنائيا، ونظرا للصبغة التلفيقية للقضية وخلفياتها الحقيقية التي يعلمها الجميع وهي معاقبته على المقالات التي حررها والاستجوابات التي قام بها في المدة التي سبقت انتخابات 25 أكتوبر الماضي، ولتمكين المحامين من زيارة موكلهم في سجن إيقافه. وتستغرب الرابطة من إصرار رئيس الدائرة الذي رفض بكل شدّة الاستجابة لهذه المطالب التي هي من صميم حقوق الدفاع والجاري بها العمل في كل القضايا المنشورة لدى مختلف الدوائر والمحاكم. وتستغرب من تمسكه بهذا الموقف ورفعه للجلسة مرة أولى أمام إصرار الدفاع على حقوقه ثمّ رجوعه وإعطاء الكلمة لمحامي القائمة في الحق الشخصي للترافع في الأصل، وبعد ذلك محاولته الإملاء على هيئة الدفاع كيفية تنظيم مرافعاتها في المطالب الشكلية التي تقدمت بها برئاسة عميد المحامين الأستاذ البشير الصيد وبحضور رئيس الفرع الجهوي للمحامين الأستاذ عبدالرزاق الكيلاني. وهي تستنكر ما قام به رئيس الجلسة أمام احتجاج المحامين على هذا التصرف من تأخير للقضية للتصريح بالحكم ليوم 26 نوفمبر المقبل دون إعطاء الكلمة للنيابة العمومية ودون النظر في المطالب الشكلية الجوهرية المقدمة له بما في ذلك إطلاق السراح المؤقت. إنّ الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تعتبر أن هذه المحاكمة لم تؤمّن فيها للصحافي توفيق بن بريك الضمانات الضرورية الدنيا للدفاع عن نفسه وتعتبر أنها ليست سوى محاكمةٍ شكلية غابت عنها كل مقومات المحاكمة العادلة ووجهت التهم فيها على أساس محاضر شرطة نسبت للصحافي توفيق بن بريك وتبرّأ منها. • كاتب وصحافي من تونس