أشرقت شمس الإسلاميين طه خليفة كان متوقعا أن يفوز حزب "حركة النهضة" الإسلامي في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، لكن المفاجأة هي النسبة الكبيرة من الأصوات التي حصل عليها والتي تجاوزت ال 40%. تونس بلد ذو طابع علماني منذ عهد الرئيس الراحل بورقيبة وحتى الرئيس الهارب بن علي، ومع ذلك لم يفز أي حزب علماني بالأغلبية، ولا حتى اقترب من "النهضة". اللافت أن الحزبين اللذين جاءا في المقدمة : "النهضة"، و"المؤتمر من أجل الجمهورية" كان زعيماهما مطاردين من نظام بن علي، راشد الغنوشي اعتقل وسجن، ثم غادر وأقام بالخارج وكان محكوما بعدة مؤبدات ومطلوبا للنظام الاستبدادي، والمنصف المرزوقي اعتقل مرات عديدة، وعاش في منفى اضطراري خارجي أكثر مما عاش في وطنه، وفي النهاية عاد المشردان إلى وطنهما لأنهما الأحق به، بينما هرب سرا من اغتصب الوطن لعقود. وقد جاء الشعب التونسي ليمنحهما اليوم الشرعية التي لاشرعية بعدها، بل ويحملهما إلى كرسي السلطة، أما بن علي وحزبه ونظامه ورجاله الفاسدون فقد أسقطهم الشعب وأقصاهم عن السلطة في 14 يناير ولم يعد لهم موطئ قدم في تونسالجديدة الحرة. نتائج الانتخابات المخيبة لآمال العلمانيين والقوميين واليساريين تعني أن جزءا كبيرا من الشعب التونسي انحاز إلى الخيار الإسلامي غير عابئ بالفزاعات المختلقة وحملات التشويه والتخويف من الإسلاميين وهي تقوم على الكيد والاقصاء في جانب كبير منها. الذين صوتوا لحزب" النهضة" ليسوا كلهم بالطبع من أنصاره، بل منهم مواطنون عاشوا في ظل العلمنة لكنهم لم يؤمنوا بها لأنها كانت مفروضة عليهم ،كما حصل مع الأتراك الذين عندما جاءتهم الفرصة في الاختيار الحر فإنهم صوتوا لحزب ذي طبيعة إسلامية "العدالة والتنمية" الذي لم يكن اكتساحه الانتخابات صدفة إنما عن اقتناع من الشعب التركي حيث حاز تلك الثقة ثلاث مرات حتى الآن مطيحا بحزب أتاتورك العلماني، وبالأحزاب الأخرى التي تقصي الدين، أو تتعامل معه باستعلاء، أوتراه وجها للتخلف. والتونسيون يفعلون الأمر ذاته اليوم حيث ينحازون للهوية الأصيلة لبلدهم. كان المنطقي أن تحصد الأحزاب العلمانية أغلبية مقاعد المجلس التأسيسي في تونس لأنها تعمل في بيئة سياسية وفكرية مواتية منذ الاستقلال، لكن كان للتوانسة قول آخر وهو الانحياز إلى تجربة إسلامية معتدلة ومقبولة تتعهد بألا تحدث انقلابا دراماتيكيا في بنية المجتمع وتطمئن المواطن التونسي بأنها ستحافظ على المكتسبات التي تحققت منذ الاستقلال. التوجه العلماني في تونس لم يكن شرا مطلقا لكن المشكلة هي في اختيار نمط حكم وإسقاطه على المجتمع دون وجود رضا عام عنه ، ومن المهم إدراك أن مجيء " النهضة "لا يعني انقلابا سياسيا في تونس وتحويلها من دولة علمانية الى دولة إسلامية، "النهضة "- كما "العدالة والتنمية" في تركيا- سيبقي على الطابع العام الحداثي للدولة وسيبقي على كثير من التشريعات الموروثة حتى وان كان بعضها يتصادم مع فكر وأيدلوجية الحزب لأنه لا يريد الصدام مع شركاء السياسة ولا مع المجتمع الدولي لكنه يمكن أن يقوم بتغييرات هادئة بالتوافق والحوار مع القوى غير الإسلامية لضمان التعايش السياسي واستقرار المجتمع وتحقيق النهوض والتنمية. فائدة الديمقراطية، أن نعرف توجهات المجتمع ،إلى أين يريد السير، ومع من يقف، وإلى أي فكر وأيدلوجية ينحاز، هنا يكون المجتمع شفافا وواضحا فلا تزييف لإرادته ولا فرض لسياسات وتشريعات يتلقاها وهو كاره لها، فائدة الديمقراطية أن النظام الحاكم يخرج من بين الناس ،ويكون الممثل الشرعي لهم، وفي غياب الديمقراطية فان النظام القائم يفرض نفسه بالقوة العسكرية، أو بتزوير إرادة الجمهور، أو بالقهر والقمع والحلول الأمنية كما حصل في تونس ومصر وليبيا وفي بلدان الثورات الأخرى. أي شرعية كانت ل بن علي، ومبارك، والقذافي؟، وكيف حكموا شعوبا لم تخترْهم؟، وكيف قضوا سنوات في الحكم دون شرعية شعبية حقيقية؟، من هنا يمكن أن نفهم سر التأخر والتخلف، لان هؤلاء الحكام لم يكونوا ينفذون سياسات وطنية يبغون بها رضا الشعب عنهم، فهذا الرضا لا قيمة له طالما لا يوجد صندوق انتخاب شفاف. انتظروا تونس ومصر وليبيا عندما تبدأ البلدان الثلاثة التحرك على طريق الديمقراطية، ستجدون لديها حكومات تعمل لمصلحة الشعوب، تضع نصب أعينها باستمرار أن هناك صندوقا زجاجيا ينتظرها على بعد سنوات أو أشهر، هنا ستكون الحكومات في خدمة شعوبها قولا وفعلا، وستحارب الفساد وتقلصه لأقل درجة ممكنة. مصر هي الأخرى على موعد مع استحقاق انتخابي قريب، وأتوقع أن يكتسح الإسلاميون الانتخابات، وبنسبة كبيرة أيضا، فالإشارة قادمة من تونس الثورة ،الى مصر الثورة، فإذا كان الإسلاميون يكتسحون في تونس العلمانية التي كان النظام يجفف فيها كل منابع الإسلام السياسي وحتى الدعوي ويستأصله من جذوره، فان الحالة المصرية كانت مختلفة الى حد ما حيث كان للإسلاميين مساحة من حرية الحركة والانتشار والتواجد في الشارع والمساجد والنقابات واتحادات الطلاب والبرلمان والجمعيات الأهلية والخدمية، وإذا كان النظام قد حارب الإخوان بعد فوزهم الكبير بخُمس مقاعد البرلمان في 2005 إلا أنهم ظلوا موجودين ونشطين. أما السلفيون على اختلاف تلاوينهم فإنهم كانوا يتمتعون بحرية حركة أوسع في المجال الدعوي والخدمي ما مكنهم من تشكيل قاعدة جماهيرية متشعبة وكبيرة وهي ستصوت لهم في الانتخابات التي يبدؤون بها ممارسة سياسية نتمنى أن يجتازوا امتحانها بنجاح من خلال المرونة السياسية والفكرية وفهم الواقع المحيط بهم. توقعاتي أن يحصد الإسلاميون أكثر من 50 % من مقاعد مجلسي الشعب والشورى، وأن يكونوا هم الأغلبية بداخله ليشاركوا في الحكم لأول مرة في تاريخهم وهذا أمر جيد للديمقراطية. من حق الإسلاميين أن يحكموا طالما اختارهم الشعب. انتهى عهد سرقة السلطة من جانب أنظمة تستند على أحزاب غير جماهيرية، أحزاب نفعية مرفوضة ومكروهة. أشرقت شمس الإسلام السياسي وبدأ عهدا جديدا، ولهذا يجب أن يتعامل بذكاء وبزهد مع السلطة، وأن يتمثل النموذج التركي المرن الذي لا يتصادم مع الخارج ولا يعادي من يختلف معه في الداخل والذي يهدف لإسعاد المواطنين جميعا، ويعمل على إعلاء قيم الديمقراطية والحرية والحداثة والمدنية. وعلى التيارات الأخرى من علمانية وقومية ويسارية ألا تواصل التخويف والترهيب من الإسلاميين، وألا تناقض نفسها حيث تنادي بالحرية والديمقراطية وعندما تفرز الديمقراطية آخرين غيرهم فإنها تتنكر للقيم التي تتغنى بها. يجب التسليم بالإرادة الشعبية فهي التي تقرر من يحكم، وهي التي تسقط من يخالف حكمها وقرارها. بعد الثورات أصبح مستحيلا على من وصل للسلطة أن يشطب إرادة الشعب من حساباته.