الأستاذ حسين سعد لدى خروجي من مكتب عون المباحث, أبصرت على حين غفلة, العديد من الوجوه التي أعرفها من قبل تنتظر نصيبها من الأسئلة قبل ان تدغدغ أجسامهم عصا الجلاد, بهتّ لما رأيت أمام عيني صديقي محمد لكني بسرعة تجاوزت أثر المفاجأة وتظاهرت بأني لا أعرفه رغم أننا نسكن نفس الغرفة في المبيت الجامعي. لما جنّ الليل نقلت ورفاقي إلى مكان تراصت فيه الأجسام وكثرت فيه التأوهات من اثر عصا الجلاد, انهم ممن أغضبوا الأمير وصاحوا "ما هكذا تورد الابل" لكنّ الأمير أدرى بآبله ولا يقبل ان يتدخّل احد في أملاكه. قضيت ليلتي بين هول ما يحدث والخوف مما هو أكثر الى أن أنعم الله علي بالنّعاس وخلّصني من مشقة التفكير. لما بزغت الشمس اخذت الى مركز البحث من جديد. هناك كشر الجلاّد عن أنيابه وبدا ما كان يخفي في اليوم الفائت. صاح بي : هل تعرف سمير ساسي ؟ لا أعرف شخصا بهذا الاسم كيف لا تعرفه وهو يخطب فيكم يوميا ويحرّضكم على الفتنة والمعصية والحديث في السياسة, مالك أنت ومال السياسة ألا يكفي انك تدرس في التعليم العالي وستصبح مدرّسا بعد ذلك ألا يكفيك هذا, هل تريد أن تصبح وزيرا أو رئيسا؟ سيدي أنا ليست لي علاقة بالسياسة ولا أعرف هذا الذي يقضّ مضاجعكم, ولم أشارك في أي مظاهرة إذا لماذا قبض عليك أعواننا؟ أعوانكم يقبضون على المواطنين كلما حدّثتهم أنفسهم بذلك وللأسف, فانّ أنفسهم تحدثهم بذلك باستمرار. أحيانا لا تعجبه مشيتك فيقرر القبض عليك: جلست ذات مرة في المقهى مع زميل لي في الدراسة وإذا بشخص يعرفه زميلي يقدم علينا فيسلم ثم يطلب الجلوس وكما اقتضى العرف قام صديقي بتقديمنا لبعضنا البعض لكني فوجئت بصديقي يقدّمني باسم آخر مستعار فلما انصرف الرجل سألته لماذا فعل مثلما فعل فأجابني بأنّ الذي قدم علينا هو عون أمن يشتغل في الكلية التي ندرس فيها ولقد أصبحت ظاهرة تواجد أعوان الأمن بالأماكن الجامعية ظاهرة مألوفة برغم حداثتها وكانت كثيرا ما تستفز الطلبة وطالبوا مرارا بإخلاء مراكز الدراسة من رجال الأمن. هذا الرجل أصلحك الله وغيره ممن يشبهونه لا يؤمن لهم جانب لذلك لم أقدمك إليه باسمك الحقيقي. لقد نطق صديقي صدقا وما كان الله ليخيب ظنّه ذلك أنه يوم من الأيام اشتعلت المظاهرات داخل أسوار الجامعة وعند المساء باشر الطلبة بالمغادرة وكعادتهم وقف رجال البوليس أمام باب الخروج لإرهاب الطلبة والقبض على من يريدون القبض عليه ولمحت صديقنا رجل الأمن من بعيد, لما رآني همس إلى صاحبه فأيقنت اني واقع في براثنهم لا محالة وأسررت بذلك إلى صديقي وما هي إلا ثواني وبمجرد مروري أمامهم حتى صاح بي احدهم أنت يا عبد الحق- وكان ذلك الاسم الذي قدمني به صديقي إلى عون الأمن عندما كنا في المقهى- تعال إلى هنا أنت, أليس اسمك عبد الحق؟ لا والله أخرج بطاقتك تفضّل أنت متأكد أنّ اسمك ليس عبد الحق لا أظن أنّ أبي أطلق علي اسمين في نفس الوقت لأنه اخبرني بأنه احتار في أن يجد لي اسما لكثرة أولاده فسمّاني اسما قريبا من اسمه لأني خاتمة أولاده وهو ذات الاسم الذي تجده في البطاقة. دفع لي ببطاقتي متوعدا إياي بالعذاب إن وقعت عيناه علي مرة أخرى. دعوت عليه بالعمى وما كان لي من خيار غير ذلك. كنت معلّقا بين طاولتين يصلني بينهما عصا طويلة على شكل الدجاجة التي تصلى في نار حامية و يلتذ البائع بعرضها خارج المحل حتى يشتهيها المارة ونحن تشتهينا عصا الجلاد فلا تشبع منّا. جعلني الجلاد أردّد ما يقول وهو يكتبه على أساس أنه اعتراف أخذ مني وأنا في كامل وعيي وبمحض ارادتي دون تأثير أي طرف عليّ. المضحك أنني كنت معلّقا بين السّماء والارض والعصا تتجول في أرجاء جسمي النحيل وجعجع- اسم الجلاّد- يطلب منّي كيف تكتب تلك الكلمة بالسين أو بالصاد. أقفل المحضر وأمضيت على كلامي وانطلق كل منّا الى غايته هو ينشد رضا سيده وانا أنشد ايّ مكان امد فيه رجلين ظلّتا طوال اليوم مكبّلتين، عساني أغمض عينين احمرّتا من البكاء وأسكت صراخ بطن فتك بها الجوع. قد يسكب الحبر كلاما - منقّطا بالسواد- تتيه فيه المشاعر الى حدّ التّلاشي ويشهد على اعتصار القلب واعتمال الصدر مما يساهم في ترشيح زبد الاختمار الفكري لتكون النتيجة حيرة وتذبذبا يزيدهما غرابة تردي الانسان الى الشيئية واللامعنى وتتعطل آلة التفكير وتتواتر اللحظات ويتسمر المرء لا يقوى على الحركة - كالطائر الاعزل في حقول البكاء- ويسدل الليل ظلامه ويسري الرعب في مختلف ارجاء الكيان حتى لكانه الموت يمشي على قدميه. يتضاءل الامل وتختفي شمس الاماني, انها لحظات تجلي النفس وما تكابده من مشاق التحول الفجئي المولّد للقطيعة. الى اللقاء في الحلقة القادمة ان شاء الله