سادتي مناضلي حركة النهضة، إن الحركات السياسية التي تبني مستقبلها بدون أن تقوم بعملية تقييم لتجاربها السابقة تسقط في نفس الأخطاء القاتلة. وقد مرت حركة النهضة خلال إنتخابات 1989 "الكارثية" بتجربة شاركت فيها الحركة بقوائم مستقلة. وللتاريخ نذكّر أنه كان داخل الحركة إختلاف حول المشاركة من عدمها وقد برز إتجاهين مختلفين: -إتجاه أوّل ويمثّل تقريبا القيادات التنظيمية التي كانت ترى بضرورة الإهتمام بالبناء الداخلي خاصة وأنّ الحركة أنهكتها مواجهات 1987 وهي بحاجة ماسة إلى رصّ الصفوف. -إتجاه ثان كان يرى أنّ الفرصة متاحة أمام الحركة لمعرفة وزنها الحقيقي والخروج من حالة السرية وإمكانية الإنفتاح على محيطها وخوض هذه التجربة تعتبر ذات أهمية بالنسبة لعلاقة الحركة ببقية مؤسسات الدولة. وجاء القرار مرتبة وسطى بين الموقفين فقدر قررت القيادة المركزية للحركة المشاركة بثلاث قوائم وأعطت للقيادات الجهوية صلاحية اتخاذ القرار بالمشاركة أم لا. وكان الإحتكام في الجهات للقواعد التي كانت تميل نحو خوض الإنتخابات فكانت الحصيلة 24 قائمة وسقوط واحدة (قائمة أريانة) وكان الحزب الحاكم قد تقدّم هو أيضا ب24 قائمة. وهنا من حقنا أن نتسائل *عن سبب هذا العدد من القوائم المدعومة من طرف حركة النهضة في إنتخابات تشريعية؟ *لماذا النزول بهذا الحجم في أوّل تجربة لحركة خرجت من مواجهات دامية وأحكام وصلت إلى حد الإعدام والسجن المؤبد وانكشاف مجموعة أمنية (من طرف بن علي) لا زالت الحركة تعاني من تبعاتها؟ *ثم لماذا هذه المراهنة على إنتخابات نعلم مسبقا أنها مفخخة؟ كانت نتائج الإنتخابات مزوّرة بشهادة الجميع...فقد أثبتت بعض الإحصائيات أن القائمات المستقلة تحصلت على أكثر من 40 بالمائة من الأصوات، بينما النتائج الرسمية أعلنت عن 17 بالمائة فقط من أصوات الناخبين التي تحصلت عليها القائمات التي دعمتها حركة النهضة. وقد عكست هذه النتائج مدى الشعبية التي تتمتع بها حركة النهضة داخل الأوساط الفقيرة والمتوسطة والطلبة وبعض النخب، وتاريخيا لم يتحصل أي حزب سياسي على مثل هذه النتائج في أي انتخابات تونسية منذ عهد بورقيبة. ومن جهة أخرى خاضت الحركة تجربة التحالفات والمشاورات مع الأطراف الأخرى -التي ادعت القرب منها- لتكوين قائمات مشتركة مخيبة (الديمقراطيين الإشتراكيين في شمال البلاد) فقد حام حول هذه التحالفات الشك وسوء النية منذ البداية خاصة أن هذه الأطراف كانت أهدافها تكاد تكون معلنة: 1 كراء محل يقع منه إدارة الانتخابات في كامل الولاية و تدفع الحركة معلوم الكراء. 2 تمويل العملية الانتخابية من طرف الحركة. 3 توفير المراقبين المحليين من كوادر الحركة وأبنائها. مقابل مرشح وحيد للحركة داخل قائمة بثمانية أسماء؟ جرت هذه الإنتخابات يوم2 أفريل 1989وشاركت فيها حركة النّهضة بعنوان القائمات المستقلّة إلى جانب الحزب الحاكم وحركة الدّيموقراطيين الإشتراكيين وحزب الوحدة الشّعبية والتّجمع الإشتراكي التّقدّمي والحزب الإجتماعي للتّقدّم والإتّحاد الدّيموقراطي الوحدوي وإئتلاف اليسار بثلاث قائمات.ومارأيته بأمّ عيني في خصوص تحرّك النّهضة في ولاية صفاقس حيث شاركت في الحملة الإنتخابية من موقعي كطالبة أقطن بهذه المنطقة، كانت التحركات مدروسة وهادفة ومؤطرة عناصر نسائيّة من مختلف الأعمار والمستويات تطرق أبواب المنازل فتدعوا الناس للمشاركة وإعطاء أصواتها وتعرّف بالقائمات والأشخاص، ورجال يجوبون الأحياء ذات الكثافة الإنتخابيّة كانت أعمال شاقة ومضنية ومكلفة ماديا ومعنويا للحركة ولأبنائها. هذا إلى جانب السّنوات الطويلة التي عمل فيها أبناء الحركة الإسلامية على الإحتكاك بأبناء شعبهم فكانوا يشاركونهم أفراحهم وأتراحهم ويواسونهم عند الكوارث المادية والطبيعية ويقفون معهم في الأعياد وفي العودة المدرسية. فعكست هذه الإنتخابات رغبة شعبية في ردّ لجميل والتغيير، وإرادة في التحرر من سلطة الحزب الواحد، فكان الشعب بجميع فئاته يتابع الإنتخابات وكانت خيبة التزوير عامة وشاملة. ولهذا حرص نظام بن علي على عقاب أكبر عدد ممكن من المواطنين الذين شاركوا من بعيد أو من قريب في هذه الإنتخابات لم يكن أمام "الجنرال" إلا التنكيل بأبناء الحركة ومن حام حولهم فدفع الشعب التونسي ثمن هذا الخيار "عقاب جماعي" 23 سنة من الإستبداد وآلاف الشباب وراء القضبان ومئات وراء البحار، عائلات دمّرت وعقول خرّبت ونفوس شوّهت. كلّ هذا ثمنا لخيار لم تكن الأغلبية داخل الحركة تؤيده أو توافق عليه. واليوم و بعد 23 سنة من التشريد والإقصاء والتهميش وجدت الحركة نفسها تعيش تجربة جديدة وخطيرة في نفس الوقت فالخطأ بالأمس وإن كان مسموحا به نسبيا فاليوم الخطأ يعني الموت بالإعدام أو الإنتحارا. فما هي الدروس والعبر التي يجب إحترامها قبل القيام بأي خطوة حتى لا نتعثر فنسقط في عملية استنساخ لتجربة كارثية. أولا: ما هو وجه الشبه مع تجربة 1989: في كلتا التجربتين كانت، - الحركة منهكة من سنوات السجن والمهجر واغلب قياداتها عانت الأمرين وكانت مقصات ومغيبة عن الواقع التونسي. -مؤسسات الحركة ضعيفة تنظيميا. -غياب المضامين الفكرية والسياسية -لم تقم الحركة بعملية تقييم واقعية وحقيقية للتجربة السابقة. ثانيا ما هووجه الإختلاف: الإختلاف يكمن بالأساس في الواقع الداخلي والخارجي. -البلاد تعيش ثورة غير مؤطرة . -مطالب الثورة واستحقاقات الشعب. -مؤسسات الدولة ضعيفة وتمرّ بمرحلة حساسة. -وضعية أمنية هشة -عملية الإستقطاب التي تعيشها البلاد بين تيار علماني حداثي والإسلاميين. -بروز تيارات إسلامية جديدة: السلفية-الشيعة-حزب التحرير- -الوضع الإقليمي والدولي-الثورة الليبية وانعكاساتها على الواقع التونسي(إقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وخاصة أمنيا) -الثورة السورية وتجاذبات القوى المؤثرة في المنطقة- حزب الله وإيران من جهة والسعودية وبلدان الخليج من جهة أخرى. -الثورة المصرية.... كل هذه العوامل تجعل حركة النهضة أمام مسؤولية تاريخية في تحديد مصير البلاد ومستقبلها. فهي اليوم أمام تحدّيات كبيرة ومسؤوليات أكبر ومصلحة البلاد تتطلب إعادة النظر في المسار الذي اختارته هذه الحركة. فالمرحلة هي للبناء والتأسيس وإعادة ترميم الصفوف وليست للثأر من الماضي والمطالبة باستحقاقات لم يئن وقت قطافها. فحركة النهضة مطالبة اليوم بالقيام بعملية تقييم لطاقاتها وتحديد أولويّاتها التي من المفروض أن تكون متوازية مع مطالب الثورة واستحقاقات الناس حتى تكون في مستوى المسؤولية والأمانة ولا تخيّب آمال من انتخبوها وأعطوها ثقتهم. فالشعب ينتظر وينظر ويتطلّع ويطمح فلا تقدّموا إنتظاراتكم على إنتظارات الشعب ولا تجعلوا طموحاتكم فوق طموحات شباب الثورة. من جهة أخرى المطلوب اليوم المراهنة على هذا الشعب والإصطفاف معه وعدم التعويل على الآخرين لأنهم للخيانة والغدر أقرب والتاريخ يشهد على مواقف النخب الرديئة ومشاركة أغلب الأطراف السياسية في ذبح الإسلاميين في عهد بن علي. ومواقف النخب الجامعية تجاه إقصاء الإسلاميين من جميع المنابر ومساهمتهم في حرمان أبناء الحركة من حقوقهم المشروعة في مواصلة تعليمهم والوقوف أمامهم حجرة عثرة عند تقديم الأطروحات العلمية أو التسجيل بمراكز البحث. فموقف الشعب من حركة النهضة هو الشيء الوحيد الثابت والغير متحوّل حيث كانت نتائج إنتخابات 23 أكتوبر 2011 وفية لنتائج إنتخابات 2 أفريل 1989 فقد عبّر الشعب مرة أخرى عن إرادة في التغيير والقطع مع الماضي ومعاقبة كل الأطراف التي شاركت بالموقف أو لاموقف في عملية ذبح الإسلاميين وإقصائهم. فأرجو ألا تخيبوا آمال هذا الشعب الذي كان وفيا ومعترفا بالجميل.